في كل مرحلة من مراحل الاضطراب التي عاشتها البلاد منذ استقلالها، كانت تظهر على حين غرة أقطاب ترتدي إزار "السياسية" و ما هي في حقيقة أمرها إلا إفرازات طفيلية ظلت تخرج من رحم ذلك الواقع المختل المستجد في حينه لتَزرعَ، باصطناع "شُبْهِ بُعْد" من السلطة و "زائِف قُرب" من المعارضة، الأشواكَ و ذرها في طريق التحول إلى دولة القانون تحت حكم الديمقراطية،
حتى توالت الأحكام العسكرية لتفرز هي الأخرى و خلال تعاقبها نَوعية حُكمها "الهجين" بين العسكري والمدني بصبغات أيديولوجية مختلفة المشارب، متعارضة المقاصد، متناقضة التوجه بالتمالئ مع الحركات السياسية التي تنكرت جميعها و منذ ذلك الحين للـ"يسارية" و نكثت على نحو مشهود بعهودها الثورية والقومية و العقائدية، ثم انسجمت بعودة مقنعّة و بسرعة شبه آلية مع المُعطى الاجتماعي القبلي الإقطاعي الطبقي الشرائحي الإثني التي كانت تدعي رفضه و محاربته.
و منذ ذلك ترسخت عادة أن يكون لكل ضابط سامي، و وزير من حزب أو حلف، و وزير أول سابق أو لاحق قطبُه السياسي الذي يضم لأجل رسوخ قدمه السياسية الداعينَ و المؤيدين و المباركينَ و المتحالفينَ و الناشطينَ و المدافعين من جملة:
· الوزراء السابقين و المزاولين،
· الأمناء العامين،
· الإداريين الكبار،
· الوجهاء المتقدمين على الخريطة القبلية و الجهوية و الإثنية و الشرائحية،
· المحسوبين على الثقافة العالية،
· الضباط المؤازرين،
· البرلمانيين بكل ثوب متاح،
· رؤساء المؤسسات ذات الوزن المالي والبشري و السياسي، في السياقات المختلفة،
· قادة الأحزاب السياسية "الثانوية" و "الطفيلية" و المعارضة المطاطة،
· مسيري منظمات المجتمع المدني الوهمية،
· الصحفيين من العموميين و في العراء الإعلامي الكبير،
· مسيري و مسيرات الصالونات التلميعية و التسويقية،
· شعراء و غاوي مرابد و أسواق الإنشاد؛
أقطاب "سياسوية" تتصارع على خلفيات و اعتبارات قبلية تارة، و جهوية تارة أخرى، و انتهازية غالبا تستقطب كل همزة و لُمزة و مشاء بنميم، و توظف كل الإمكانات التي تستبيحها مما يمكن الوصول إليه و الحصول عليه من المال العام بالتحايل و النهب و التواطؤ. و بالطبع فإن تركيبة هذه الأقطاب التي لا تملك في الغالب الأعم منطلقات وطنية راسخة و لا تستند إلى:
· تقاليد متوارثة من التعاطي مع الشأن الوطني،
· مواثيق و عهود و توافقات تفاهمية،
· اهتمامات و تصورات و مناهج عملية،
· قوالب فكرية ثابتة تستنبط منها آليات العمل الميداني و تستقي النظريات المرجعية،
· مساطر أخلاقية ملزمة، موجهة و مقيدة،
· و برامج عملية لاستمرارية الحفظ على الوطن في ثوابته و مقاصده التنموية و استقراره و ضمان تنافسيته في عصر أضحت عُملته الوحيدة هي العطاء العلمي،
وضعية تَجعلها غير مؤهلة للعمل خارج سياق المآرب الأنانية الضيقة و من بعدها الطوفان.
و يبقى المضحك المبكي فوق كل ذلك فقط أن الأفراد، الممسكين بآليات هذه الأقطاب الفوضوية بحسابات "سيباتية" متقنة ـ على هامش الإضرار التي يسببونها لـ"النهج السياسي" المفروض تأصيله على قواعد راسخة و صحيحة لضرورته القصوى في تقويم المسار إلى الدولة المستقرة العادلة ـ يتراضون في علن يفضحه سر اللعان الشديد بينهم و إن يوهموا بأن النضج و الوطنية يحركانهم و يسددان خطاهم، و يتناحرون في خفاء يفشيه نفاق الاسترضاء المفضوح الذي تحمله الطباع اللئيمة من المعدن الصدئ. ولكل جناح إلى ما يسعى ترسانته:
· من المستنسخين على هلع و المحرفين بجرأة تجارب و خطب الآخرين للتمويه بالمصداقية،
· و الإعلاميين من جملة المتملقة المأفونة الناطقة بلغة الخشب و مفردات التزلف و التحريض و التحريف،
· و المتزلفة قَتَلَة لب "السياسة" في المظهر الخارجي الخائر إلى العمق الداخلي العفن بكل الأثواب القبلية و الطائفية و الشرائحية و الجهوية، حتى لكأن السياسة بفعل أغلب الفاعلين و المنخرطين فيها لا تعدو، بما يمارس تحت عنوانها من استهتار و استخفاف و تملق و انتهازية، سوى "مغسلة" بلا صابون و "مطبخا" في العراء "السيباتي" بكل التوابل الحارقة.. فإذن من الملام إن لم يكن .. وحده منطق الأشياء عند غالبية أهل البلد؟