كانت موريتانيا في القرون الماضية تعيش فوضى عارمة في المجالات السياسية والاجتماعية، حتى عرفت بـ"بلاد السيبة" حيث لا سلطة، ولا قضاء، ولا قانون، وهو ما ترتبت عليه اختلالات اجتماعية وثقافية كثيرة بسبب الاضرابات الأمنية، وما نجم عنها من مسلكيات مشينة وعقليات فاسدة، يجب أن تصحح بعَقدٍ اجتماعي جديد، يتم تدارسه والتوافق عليه في مؤتمر عام، تُمثل فيه كل الفئات الاجتماعية بحكمائها ورشدائها الذين يجمعون ولا يفرقون، ويبنون ولا يهدمون، من أجل مصالحة وطنية شاملة تطبعها المصارحة والمكاشفة حتى يتم رأب الصدع الاجتماعي لنقضي بذلك على مخلفات عهد السيبة وإرثه الثقيل.
كاد المجتمع الموريتاني في الخمسينات من القرن الماضي أن يتخلص من التحيز العرقي والجهوي فكان أكثر انسجاما وتلاحما وانصهارا من ما هو عليه الآن، تجلى ذلك حين تنافس أحمد ولد حرمة ولد ببانه، وسيدي المختار ولد يحيى انجاي على تمثيل موريتانيا في البرلمان الفرنسي، كانت أغلبية البيظان مع ولد انجاي الزنجي المنحدر من الضفة، بينما كانت أكثرية الزنوج داعمة لحرمه ولد ببانه؟!
أما اليوم فقد أصبح طرائق قددا لكثرة ما يرفع فيه من شعارات قبيلة وفئوية وجهوية تغذيها منظمات محلية ودولية متطرفة تهدف إلى تفكيك نسيجنا الاجتماعي وضرب وحدتنا الوطنية في الصميم، حتى نصبح فريسة سهلة أمام دول الاستعمار.
إنه لحري بالبيظان أن يعتذروا لإخوتهم لحراطين عن كل ما لحق بهم تاريخيا على يد آبائهم من أذى بدني أو نفسي مع أنه (لا تزر وازرة وزر أخرى) ولكنه من باب تطيب الخواطر من جهة، والشعور بالذنب، وتأنيب الضمير من جهة ثانية.
وعليهم كذلك أن يتغلبوا على ما بداخلهم من بقايا العنصرية الجاهلية قبل أن يلوموا لحراطين على ردة فعلهم، ذلك أن عنصرية لحراطين وتطرف بعضهم ما هو إلا ردة فعل لها ما يُبرِّرها، أما عنصرية البيظان فلا مُسوغ لها شرعا ولا عقلا ولا عُرفا ولا أخلاقا...
وعلى الحكومة أن تعمل جاهدة من أجل إدماج المجتمع الموريتاني بمختلف أعراقه في بوتقة واحدة، وذلك بالقضاء على الفوارق وكل أشكال الاستعلاء والنظرة الدونية، وعلى نخبة المجتمع من مثقفين وسياسيين أن يسارعوا إلى بناء الدولة المدنية التي تكفل للناس حقوقهم بالتساوي.
لِحْراطين فئة مُسلمة عربية أصيلة - لأن العروبة اللسان - لها قواسم مشتركة مع البيظان لا انفكاك منها: وهي الدين واللسان والثقافة والجوار والمَصالح المشتركة، والنسيج الاجتماعي المتداخل، وهم يتمتعون بأخلاق عالية ومروءة نادرة مع تواضع وبساطة في الحياة، يأكلون من كسب أيديهم وعرق جبينهم، لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ولديهم طيبة فطرية ليست مُتكلفة ولا مُصطنعة، وينبغي للدولة أن تمُد لهم يد العون والمساعدة وتحيطهم بالرعاية اللازمة حتى تنتشلهم من الفقر والجهل الذي يعيشون فيه، وتسارع في تحقيق مطالبهم المشروعة.
كما ينبغي لعقلاء البيظان أن يُنصفوا لحراطين ويَعذروهم ويتعاملوا معهم بلطف وليونة، وأن يتجنبوا استفزازهم والشجار مَعهم، وأن يَمتصوا غضبهم بحُسن الأخلاق ولين الخِطاب.
وبهذا تذهب تلك الحزازات لغياب دواعيها ومؤدياتها، وهذا مبدأ دعا له الإسلام ودعمه، وسلكته دولٌ فنجحت واجتازت هذه العقدة، وهو وحده الذي يصلح للقضاء على هذا المشكل الحقيقي.
كما يَجدُر بلحراطين طيِّ ملفات الماضي الحزين، والتخفيف من حِدة خطابهم المتطرف، وأن لا ينسوا أن ما لحقهم من الأذى على أيدي البيظان لا يمثل 1% مما فعله بهم الأوربيون والأمريكيون الذين كانوا يتاجرون بهم دون أدنى حقوق أو شفقة، وأن العبودية والعنصرية أكثر وأفدح في مجتمع الزنوج والهنود منها عند العرب.