دعونا نصدق مع أنفسنا هذه المرة ونعترف بأننا نعيش في عالم مبني على الطبقيات، وبأن مجتمعنا يمارس كل أنواع التمييز بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبأنه ما منا من أحد إلا ويتذكر أنه فعل فعلا أو قال قولا يشكل نوعا من أنواع التمييز إلا من رحم الله، لأن التمييز الطبقي عقدة مركوزة في النفس البشرية مثل كل العقد والدوافع والغرائز التي يمكن أن تكون سلما للخير أو مهبطا للشر. كل ما في الأمر أن البشرية على العموم، والمجتمعات المغلقة على الخصوص، والأفراد على وجه أخص تنتقل من نوع من التمييز أكثر بدائية إلى نوع آخر أقرب للحداثة وتطور العمران.
ومن هنا نجد الشعوب الأقل ثقافة والأدنى تحضرا مشغولة بالتصنيف والتمييز بين البشر على أسس لا دخل لهم فيها كالتمييز ضد المرأة لا لشيء سوى أنها ولدت أنثى، والتمييز ضد الأسود أو ضد الأبيض أو ضد ما بينهما من تدرجات الألوان لا لسبب أيضا سوى أن المورث (الجين) المسؤول عن هذا اللون كان سائدا وأن اللون الآخر تنحى عن التأثير الظاهر، وكالتمييز الذي يمقته كل ذوق فطري سليم ضد الكبير أو الصغير أو المعوق أو الضعيف أو غيرهم ممن هم مختلفون على النمط السائد.
وفي المقابل نجد الشعوب التي تجاوزت تلك المراحل البدائية من التمييز أو ابتعدت عنها قليلا على الأقل استبدلتها بأنواع أخرى أقل حساسية وأكثر قبولا لدى الناس، مثل التمييز الجغرافي على أساس اختلاف البلدان والمدن والقرى الذي حل عند الشعوب المتحضرة محل القبيلة عن الشعوب البدوية، وحمل كل المعاني التي حملتها القبيلة من تفاضل وتفاخر وعصبية في بعض الأحيان.وهذا ما يفسر لنا ميل الغرب عموما إلى استخدام مصطلحات مثل "الشرق الأوسط" التي لا تعني شيئا أكثر من العالم الإسلامي، ومصطلح MENA الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي هو مرادف تماما لما نسميه نحن بالعالم العربي، ولكن بما أن الدين والعرق يشكلان نوعا من الحساسية في الثقافة الغربية عموما والأمريكية على سبيل الخصوص لجأت تلك الدول والمجتمعات للتسمية الجغرافية التي يبدو أنها في الظاهر محايدة.
وقد ظلت ولا تزال ثنائيات الأغنياء والفقراء والملأ والضعفاء والمستكبرين والمستضعفين تحكم مسيرة التاريخ وتطور المجتمعات، ثم جاء المد الشيوعي ليضع هذا النمط من التمييز في إطار فلسفي ينقله من خصوص الحالات إلى عموم تفسير مسيرة التاريخ، ويضفي على ذلك البعد التفسيري بعدا آخر تبريريا يجعل صراع الطبقات حتمية من حتميات التاريخ، ثم أكملت الرأسمالية ذلك البعد الفلسفي بواقع عملي يضيق دائرة نادي الأغنياء ويزيد مصالحهم ترابطا يدفعهم للعصبية والحمية دفاعا عنها، ويوسع دائرة الفقراء توسيعا يشتت شملهم ويزيدهم ضعفا على ضعف واستكانة بعد استكانة.
ثم ظهرت في العصر القريب نسخ وطرز حديثة مبتكرة من التمييز ظاهرها العذاب وباطنها فيه شيء من الرحمة، جعلت بعض منظمات حقوق الإنسان في الغرب تدق ناقوس أنواع جديدة من التمييز ترى أنها لا تقل خطورة عن التمييز العنصري، تمييز أصحاب الرشاقة واللياقة ضد غيرهم من المصابين بالسمنة وذوي الوزن الزائد، أو ما أصبح يعرف بمصطلح Antifatism وربما يكون العكس في بعض البلدان التي ما زالت تعيش الصفة العكسية التي تستحسن البسطة في الجسم. ومن ذلك التمييز الحديث تمييز المتعلمين ضد غير المتعلمين، وتمييز الأعلى تعليما ضد من هم أقل منهم تعليما مع أنهم قد يكونون أكفأ منهم وأفضل في كثير من مجالات الحياة، وتمييز خريجي المدارس والجامعات المرموقة وتعصبهم ضد غيرهم من خريجي المؤسسات المتوسطة والضعيفة ضمن التصنيف العالمي، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى على قوائم روابط خريجي جامعات تحتل قائمة التصنيف العالمي مثل قبيلة هارفارد وقبيلة ييل وقبيله أكسفورد وقبيلة ستنانفورد التي تشكل نوادي مغلقة للنخبة المالية والاقتصادية العالمية تفوق مداخيلها مداخيل كبريات اقتصادات العالم.
ونحن كأفراد أجدنا مارسنا ونمارس كل هذه الأنواع من التمييز أو بعضها بشكل أو بآخر، من منا لا يذكر أيام الدراسة حين كان الطلاب والأطفال يتمايزون ويتفاضلون حسب قوة عضلاتهم وضعفها، وحسب مهاراتهم الرياضية وفقدها، أو حسب قدراتهم الذهنية وعدمها، بل وحتى حسب اختصاصاتهم ولا أزال أذكر أننا لما كنا طلابا للآداب بشكل عام كنا نحس وكان زملاؤنا من ذوي التخصصات العلمية البحتة يباهون بتميزهم علينا وكنا نقر لهم بذلك الفضل وربما لا نزال. وأكاد أجزم يقينا بأن كل بنت لم تنل حظا وافرا من الجمال الظاهري لا تزال تذكر معاناتها من التمييز الذي مورس ضدها من الشباب وحتى من البنات.
وما أشد وهم من يظن أن التمييز السائد في مجتمعنا هو تمييز طبقة ضد أخرى أو عرق ضد آخر، إنه في الحقيقة شبكة مستشرية وثقافة سائدة من التمييزات المداخلة داخل وخارج الطبقة والفئة الواحدة؛ ففي ثنايا التمييز العرقي الظاهر هناك تمييز وظيفي، وبين طبقات التمييز الوظيفي تمييز قبلي، وتحت طبقات التمييز القبلي تمييز اقتصادي، وكل من كان في درك من تلك الدركات يعاني من وطأة من هم فوقه في هذا السلم الوهمي، ويعاني من وطأته هو من هو دونه ممن هو في الدرك الاجتماعي الأسفل.
والأدهى من كل هذا أن كثيرا ممن يعانون من الطبقية والتمييز هم أنفسهم يمارسون تلك الطبقية في أبشع صورها، من التمييز البدائي منها إلى التمييز الذي يوصف بـأنه متحضر، فالمرأة تتعرض للتمييز السلبي لا من الرجال فقط بل ومن النساء أيضا وربما بشكل أشد مضاضة على نفسها من ظلم الرجال. وكل من قرأ السيرة الذاتية لأيقونة النضال ضد التمييز العنصري ماديبا روليتشاختشا مانديلا يرى مدى معاناته من تمييز بني جلدته الذين ألجأته مطاردات أعدائهم أن يتخفى في زي عامل بسيط جعله عرضة للإهانة والتمييز الدوني من البيض والسود على حد سواء.
إن الاعتراف بالحق فضيلة والإقرار بالواقع خيره وشره بداية الإصلاح، ومن الخطايا الكبرى ومن الظلم الفادح أن نفاضل ونمايز بين الناس على أسس ليس لهم فيها كسب ولا اختيار، وأرى أن هذا النوع من التمييز مؤشر على تخلف حضاري بالنسبة للأمم وعلى تخلف ثقافي بالنسبة للأشخاص، وفي نفس الوقت يجب أن نعترف بأنواع التمايز المكتسبة ونقبلها كما هي، ونتقبل الناس كما هم دون أن تكون الصفات معيارا للإنسانية أو للتفاضل.
ومن الأحلام الجميلة تمني أن تعيش البشرية كلها في عدالة ومساواة تامة، ولكن هذا الجمال لو تحقق لن يدوم طويلا، لأن التمايز بين البشر سنة كونية ثابته لحكمة بالغة {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} ولولا وجود هذا التمايز لاختفى كثير من الدوافع البشرية للتميز والتفوق، ولظل الناس في مستوى واحد لا يجاوزنه، بل العكس هو الصحيح فإن التمييز على أساس العوامل المكتسبة الإيجابية ذو أثر إيجابي كبير، وربما يكون هو السبب الدافع للفقير أن يكسب، والجاهل أن يتعلم، ومن الخطأ أن نظن أن هناك تمييزا إيجابيا قد يحل بعض المشاكل في العاجل بينما يزيدها ويخلق مشاكل جديدة في الآجل، فإنه يجعل المميز له يشعر بالدونية والمنة، ويدعوه لمزيد من الكسل لتعوده الحصول على الامتيازات المضمونة دون جهد، ويجعل المميز عليه يشعر بالغبن وكأن حقوقه انتزعت منه دون وجه حق لتسلم لآخرين لم يبذلوا أي جهد، ووفي النهاية يفقد المميز فيه من مؤسسات تشريعية أو غيرها جزءا لا يستهان به من المصداقية والمهابة.
وأرى أن القضية كلها ليست مشكلا سياسيا مجردا يحل بقرار هنا أو هناك، ولا مشكلة قانونية بحتة تحل بترسانة من القوانين التي لا تنفذ ولا تطبق، ولا مشكله اقتصادية بحتة وإن كان الاقتصاد جزء من المشكلة وجزء من الحل، إنما هي قبل كل ذلك مشكلة ثقافية، وتصحيحها إنما ينبغي أن يكون بنفس الأداة، تلك الأداة التي يجب أن يساهم فيها الجميع حتى نصل إلى الغاية النبوية "حتى لا يظلم أحد أحدا وحتى لا يبغي أحد على أحد" وأعتقد أن محاولة التصحيح المفروض فرضا تشبه إلى حد كبير تدخل الإنسان لتعديل قوانين الطبيعة،ولا تختلف كثيرا عن التغيير الوراثي الذي يتدخل في طبيعة الإنسان ويغير خلق الله، إنما الحل في إتاحة الفرص الرحبة للجميع، وتكافؤ الخيارات أمام الناس، وردع المتجاوزين الذين يستولون على حقوق وفرص غيرهم بغير حق، وترك العدالة الإلهية والسنن الكونية تأخذ مجراها الطبيعي السليم.