على مدار الساعة

العصف الذهني (ح: 10)

20 مارس, 2018 - 00:19
بقلم: محمد الشيخ ولد سيد محمد - أستاذ وكاتب صحفي

يحتاج البيظان بالخصوص إلى "العصف الذهني"، فهم الآن في شتاتهم، ودولتهم المركزية، يعانون من سبات عميق، لأن تراثهم الذي هو فخر أغلبيتهم الصامتة، تكالبت عليه الضباع، فعصف به النسيان (مكتبات زاخرة دفتنها الرمال، دواوين ومخطوطات أكلتها الأرضة، مدن أثرية اجتحاتها العزلة، وساحات معارك مقاومة تنوسيت نسيانا، ومحاظر آهلة تنكبت وصرفت بغيا وعدوانا، واجتاحت جيوش الغزو الفكري حضارتهم من (التاديت) إلى (التدنيت)، ومن (الدراعة) إلى (الملحفة)، ومن (المنظوم) إلى (المنثور)،  ومن (التفقه) إلى (التصوف).

 

سجل الغزاة هذا، تراثا إنسانيا خالدا كملكية فكرية لهم، وأصبح الأفارقة والغربيون يبيعونه دكاكين عبر الأنترنت، ويسمونه بأسمائهم المستعارة في الأرض الافتراضية التي لا علم فيها لأحد، يبيعون بمزاد علني وبلا حياء، صناع "الأيقونة"، وعازفي "القيثارة"، والمترنمين بـ"أدب الشاي").

 

أصبحنا (تاريخ أندلس: يحكى أن)؟

جاء تكثيف البرتغاليين أنشطتهم التجارية في موريتانيا أساسًا بعد اكتشافهم شبه جزيرة الرأس الأبيض عام 1442م، وجزيرة آرغين في 1443م، ووصلوا إلى رأس بجدور (قرب اعيون الصحراء) وفي العام 1455م، أنشأ البرتغاليون مركزًا تجاريًّا على شاطئ المحيط الأطلنطي، بالإضافة إلى مراكز أخرى داخل البلاد، مثل مدينة ودان التي صد سكانها وجودهم.

 

وكان هدفهم السيطرة على الطرق التجارية عابرة الصحراء، وبسبب مقاومة (سكان اتراب البيظان) لهم، وقعوا اتفاقيات تجارية مع إمارات بني حسان شملت تبادل الملابس القطنية، والفضة والمرجان، والعقيق الأحمر والذهب، والصمغ العربي، والمسك وبيض النعام، والجلود.

 

وعندما تطلع الفرنسيون إلى استعمار (اتراب البيظان)، وجاسوا خلال ديار بلد المليون حافظ وشاعر، اعترف الفرنسيون بالمقاومة الشرسة للإمارات المالكة للمجال الجغرافي خصوصا، وللعلماء الذين أسسوا صناعة العالم الموسوعي بواسطة المحظرة.

 

على سبيل المثال للحصر فإن ركنين من حماة الأرض والدين أثخنوا في الغزاة، وكانوا مثالا لحماية المجال الجغرافي لأبناء موريتان، وفي ذلك أعذروا إلى الله:

 

الأولى: إمارة آدرار:

تأسست باسم إمارة أولاد احيا بن عثمان (نسبة إلى يحيى بن عثمان بن مغفر) الذين قاموا بتكوين هذه الإمارة في النصف الأول من القرن الثامن عشر، واستمروا يتداولون حكمها حتى الاحتلال الفرنسي لها في 1909م.

 

ومن آخر أمرائها الأمير والمجاهد والبطل والأديب الموريتاني سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيدة الذي استشهد صبيحة 19 مارس1932 بالگلب الأخضر قرب وديان الخروب.

 

والثانية: إمارة ادوعيش:

التي أسسها أحفاد يحي بن عامر المجاهد اللمتوني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي الإمارة الوحيدة غير الحسانية (من أصول صنهاجية)التي عرفتها موريتانيا، وقد اتخذت من إقليم تكانت مركزاً لها، خاض آخر أمرائها بكار بن سويد أحمد عدّة معارك ضد الاستعمار الفرنسي في «آفطوط» و«أفله»، وكانت آخرها معركة بوكادم التي حصل فيها على الشهادة في الأول من نيسان / إبريل 1905م.

 

بلد حكاية (المنارة الرباط)، وأنشودة (المليون شاعر)، وأرض العارفين (أهل العلم، والحكمة، والحلم)، الآن رحلت تلك المزن الثقال، لتمطر في الخليج أو في الحجاز أو في السودان، أو ترثى في الأزهر الشريف، أو تتنادى إليها الأمم، في أبو ظبي، ونيويورك، وكندا، وأندنوسيا، وأوروبا، أو تسمع (لواذا) في الأستانة والبلقان.

 

يلقي شاعرنا في جائزة المليون درهم السبق فيتوج الأول فالأول، وفي بلد المليون شاعر يتوكأ على العصا، عاري البدن أو أعمي البصر، ويموت أخمص البطن وحافي القدمين، بلا بواكي وبلا ترجمان.

 

يلقى فقيه (علم المقاصد)، ومفتي فقه النوازل، وحافظ القرءان الكريم المتقن، ومدرس المتون وأنظامها الحلوة، ومرتل القرءان بخشية وإخبات في: الإمارات، وفي السعودية والكويت وعمان، وفي إفريقيا والصين، حبورا لا يلقاه في ديار المنشأ..

 

هاجر علماء (مشِّ) ورواد حضارة (البيظان).. للأسف تباعا، هذا المنكب البرزخي، بحثا عن ما ينجيهم من أن يصعروا خدهم للناس، أو يذلوا علمهم للخناس، أو يموت ذكرهم الأساس في ديارهم.

 

ديار الشناقطة التي: كانت مهاجر ومهاجع  لمن يبحث عن لغة هذيل، وفروسية تميم، وكرم معن بن زائدة، وحكمة سيف الدولة، ووفاء الطائي عند الملك النعمان بن المنذر اللخمي.

 

لمن ينظم ولد محمدي اليوم ، ولمن يكنش الوسيط ترجمات علماء بلد شنقيط، ولمن تلقى "أشوار" وفن البيظان التي أممتها (الأمازيغ)، ومن يطبع ويحمي مخطوطاتنا ومؤلفاتنا التي تناهبتها دواب وأمم الأرض؟

 

أي جيل سيحرر تراث وميراث (العالم الشنقيطي الموسوعي، والفنان المبدع، والرسام المبهر، وحادي الإبل المتواضع، ونظراء المتنبي وامرئ القيس في نظم المعلقات والمنثورات)؟

 

ومن هو (العُمري) الذي سيبني مآذننا ويعمر محاظرنا، ويستعيد ذاكرة الشناقطة لأبنائنا، من الذين اقتنوها "قنية" أو سلبوها "غنية"؟

 

لم يكتف هؤلاء بـ"اجتثاث" تاريخ المرابطين، وإمارات المجال الجغرافي للصحراء، وجعله اقتطاعا (ملحقا)، أو كنزا(مودعا).

 

لقد سجلت "التدنيت"، وشروحات "خليل"، وأغاني "ديم"، و"راحلة" حضارة الرحل، و"الرموز الثقافية لبني معقل وبني حسان" خالصة لهم.

 

وشمل ذلك أعظم ما نملك "الرسم"، وأغلى ما ترسم ريشة اليراع عندنا وعندهم ("الاحمرار" و"الاكحلال")...

 

إن تراث الملكية الفكرية لذاكرة (حضارة البيظان) مملوكة اليوم لغيرنا في سجلات اليونيسكو و(الملكية الفكرية العالمية) بأسماء مستعارة، وأصبحنا في دروب الثقافة الحسانية (حائط مبكى، أو زنجبار، أو أندلس الفردوس المفقود)؟؟

 

لقد استعمرنا الهاتف النقال، والدرهم الفواح، والسياحة المحدودبة الظهر، والتجارة المهربة، وأكلتنا المنح، ورعونة إعلام النعامة، وثقافة التهجي، وضعنا بين الإقفار والإقتار؟ و"المنفق" (المالك الجديد) ، أنفق عل شراء ذممنا، ولئالئ فردوسنا، وسجل ملكيته الفكرية: طباعة، وإعلاما، وإنتاجا، بمئات المليارات، وبسخاء لا شح فيه، ولا إغلاق، وبخطط إعلامية، وتراثية، وثقافية، ودينية، وتوسعية.. رسمت بأناة وعقلانية خضراء غناء، سواء بباء السبب، أو بباء المعاوضة: (بيضانكم، بيظاننا) لا يملكون اليوم إلا ذكريات الأحلام، وكل باسمه ورسمه، أصبح مستهلكا وبائعا متجولا في المشهد، على الفاتحين والغزاة الجدد: يستوي في ذلك من أسر بالقول أو من جهر: (علماء، شعراء، صحفيين، فنانين، مؤلفين وباحثين، قراء ومتصوفة، ذاكرين وتالين).

 

بيضانا بالضاد، وبيظانا بالظاء، لقد ضربنا أشتاتا في الرأس بالفأس، وظلمنا جماعة في الرمس قبل الرمس.