على مدار الساعة

صاحب الفخامة المواطن!

20 مارس, 2018 - 14:29
البشير ولد عبد الرزاق

في إعلان لنوع شهير من الجبنة الهولندية، يظهر رجل وهو يربت بلطف على بقرة "سمينة" تسر الناظرين، بينما يقوم آخر بإطعامها بحرص شديد، في حين يجلب رجل ثالث رداء ناعما يدثرها به في حنان منقطع النظير، ويصاحب تلك الصور والمناظر الجميلة، موسيقى هادئة وصوت أنثوي يقول ببحة عذبة: "ندلل أبقارنا...".

 

كلما صادفت هذا الإعلان، ذكرني لدرجة الاستفزاز بما يحدث للمواطن عندنا، حين تمد مواسمنا الانتخابية الكبيرة أعناقها، ففي لمح البصر، يصبح هذا الكائن المنسي، الذي لا يسأل عنه أحد، هو كل شيء، وعلى الرأس والعين و"حبيبي حبيتو".

 

يخرج السياسيون عن بكرة أبيهم و"أمهم"، ليكدسوا أمامه كل أنواع الوعود، تلك التي يمكن أن يتخيلها وتلك التي لم تخطر على باله يوما، تصبح ابتساماتهم عريضة ووجوههم ضاحكة مستبشرة وصدورهم رحبة، على غير عادتها في الأيام الخوالي، ويسلكون في تدليل "صاحب الفخامة المواطن!"، مذاهب غريبة وعجيبة، تجعل تلك البقرة الهولندية ورجالها الثلاثة يخجلون من أنفسهم.

 

يروي أحدهم أنه قام بتحليل سريع، لبرنامج انتخابي لمرشح وازن لمنصب العمدة في إحدى بلديات العاصمة نواكشوط، وأنه اكتشف أشياء مهولة، حيث وجد أن 15% فقط من ذلك البرنامج يمكن أن تدخل في صلاحيات البلديات، أما 85% الباقية، فـ25% منها من صلاحيات الجهاز التنفيذي (الحكومة)، والـ60% المتبقية، تدخل في مهام حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة عبر العالم.

 

ويروي آخر، أنه أراد أن يعرف إلى أين يمكن أن يصل الجنون بالوعود الانتخابية، التي يطلقها سياسيونا، فأوعز إلى جماعته في إحدى البلديات النائية، أن يشترطوا على مرشح المقاطعة لمقعد الجمعية الوطنية، أن يذهب بهم إلى "الفضاء".

 

ويردف الراوي، أن خطته تلك كانت لتنجح، وأن المرشح كان ليقطع على نفسه ذلك الوعد، لولا أن رئيس جماعتهم توجس خيفة من كلمة "الفضاء"، فأقلع عن الفكرة في اللحظة الأخيرة.

 

الأمر لا يختلف كثيرا لدى أشقائنا، ففي دولة جارة، وعد أحد المرشحين الناخبين بأنه سيحرر الأندلس، فأطلق عليه نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي في ذلك البلد، لقب "طارق جينيور"، وفي حالة ثانية، قام مرشح يدعى "برهان"، باستغلال اسمه لكسب أصوات البسطاء، فكتب في أعلى يافطته الدعائية الآية الكريمة: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}.

 

وفي دولة شقيقة أخرى، قام شاب بتعليق إعلان على معظم اليافطات الانتخابية، يقول: "زوجونا نمنحكم أصواتنا"، فالتقط أحد المرشحين الفكرة، وقام بتنظيم زواج جماعي في دائرته الانتخابية.

 

وبعد نهاية الانتخابات، فوجئ أهل ذلك الحي الفقير برجل يدعي بأنه فقيه، أتاهم وقال لهم إن تلك الزيجات كلها باطلة، وأن عليهم أن يردوا الأموال لصاحبها.

 

غم على أولئك البسطاء وكادوا يفعلون ما يؤمرون، لولا أن أحد الذين يفهمونها "وهي طائرة في السماء"، قال لهم: "أقطع ذراعي، إن لم يكن النائب، هو من بعث هذا الرجل ليسترد أمواله، بعدما أخذ أصواتنا!".

 

بالعودة إلى الحالة الموريتانية، هناك شيء غريب يحصل عندنا مباشرة بعد نهاية كل انتخاب، بسرعة البرق، تتبخر جميع تلك البرامج والوعود، التي تراكمت في شوارعنا وضاقت بها جدران مدننا وقرانا، تذوب كقطعة سكر داخل فنجان قهوة ساخن، لا يبقى منها شيء ولا يعود أحد يذكرها أو يلقي لها بالا.

 

وأما المنتخبون، فحكايتهم حكاية، ينقسمون إلى شقين:

شق يؤيد برنامج رئيس الجمهورية في النوم وفي اليقظة، وهذا الشق لا يعرف شيئا آخر في هذه الدنيا الفانية، سوى تأييد برنامج رئيس الجمهورية، ولذلك كلما رحل رئيس، بحثوا لأنفسهم عن رئيس آخر وتنافسوا في تأييد برنامجه الانتخابي لدرجة الجنون، على رأي نزار قباني: "لو لم نجده عليها... لاخترعناه"!

 

وشق آخر، يعارض برنامج رئيس الجمهورية، وهذا الشق تكاد تقسم بأنه لا يمكن أن يقوم بشيء آخر في هذه الحياة، سوى معارضة برنامج رئيس الجمهورية، حتى أنهم حين يرحل رئيس ما، ينفضون أيديهم من كل شيء، ويجلسون في أدب ووقار كبيرين ويشبكون سواعدهم، في انتظار أن يأتي رئيس جديد، فيقومون لمعارضة برنامجه!

 

وهكذا دوليك، ينتهي بنا المطاف دائما وفي كل مرة، إلى برنامج انتخابي واحد وواحد فقط، وصاحب فخامة واحد وواحد فقط.

 

وأما "صاحب الفخامة المواطن"، الذي أصبح يفهمها "وهي طائرة في الفضاء"، فيعرف أن كل ما عليه هو أن يمنح إجازة مفتوحة للقبه الموسمي ذاك، وأن يجلس على أقرب قهوة أو تحت ظل أقرب حائط أو شجرة أو أن يتشمس إن شاء، في انتظار أن يحل الموسم التالي، لتدليل الأبقار واستدرار الحليب!!!

 

الدنيا مواسم...