على مدار الساعة

سكر وموز وتمر وأشياء أخرى؟!

4 أبريل, 2018 - 11:40
البشير ولد عبد الرزاق ـ كاتب صحفي

..مؤخرا، كتب صديقي و"دفعتي"، المهندس الهيبة ولد سيد الخير، الذي ينحدر مثلي، من إحدى جامعات القطر العربي السوري الشقيق، مقالا مفصلا حول مشروع مصنع السكر الموريتاني، التائه في بلدة فم لكليته، النائمة ببراءة الأطفال بين سهول شمامه، والمهندس الهيبة ولد سيد الخير، من خيرة من يكتبون المقال العلمي في البلد، وأتمنى من كل قلبي أن تتاح له فرصة جمع تلك المقالات بين دفتي كتاب حتى تعم الفائدة، 

قراءة المقال، كانت تجربة مريرة بالنسبة لي، فمع أنه برمته يتحدث عن السكر ولا شيء آخر غير السكر، إلا أن المقال مليء بالمرارات والحسرات والعبرات، خاصة حين يروي لك صاحبه، تفاصيل المشروع المدوخة ومآلاته الغامضة، وأدخنة وأبخرة المصنع السنغالي على الضفة الأخرى، وهي تطاول عنان السماء كل مساء، بينما لا أبخرة ولا أدخنة ولا شيء يحدث البتة ساعة الغروب، على الضفة الخاصة بنا، 

 

حكاية مصنع السكر المفجعة والمحزنة للغاية، ذكرتني بحكاية أخرى، هي حكاية "مزرعة الموز":
فمنذ حوالي أربع سنوات، وبالتحديد في يوم الأربعاء 13 أغسطس 2014، صادق مجلس الوزراء على إنشاء مزرعة ضخمة للموز، وأقتبس هنا من وكالة الأنباء الرسمية: "..مشروع مرسوم يتضمن المصادقة على اتفاقية التأسيس بين حكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية وشركة المزارع الكبرى الموريتانية.

تعتزم شركة المزارع الكبرى في موريتانيا تحقيق مشروع خاص لاستصلاح وتشغيل 452 هكتارا لزراعة الموز، بتكلفة إجمالية قدرها خمسة مليارات وثلاثمائة وخمسون مليونا وخمسمائة وسبعون ألف أوقية"، انتهى الاقتباس.

نويت أن أبرق إلى صديقي المهندس، أسأله عن مشروع مزرعة الموز تلك، وأين وصلت أموره هو الآخر، بعدما غابت عنا أخباره كل هذه السنين، وكنت قد عزمت فعلا على هذا الأمر، لولا أن الحكومة صادقت يوم الخميس 29 مارس 2018 على مصنع آخر، هذه المرة جاء الدور على التمور،
أشفقت على نفسي وعلى صديقي، وأقلعت نهائيا عن فكرة الإبراق إليه.

 

..في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، كان حلم الوحدة المغاربية لا يزال مكتنزا وطازجا وبرائحة زكية وملمس ناعم كريش العصافير، يومها عقد في نواكشوط أول مهرجان للشعر المغاربي، تداعت له كوكبة من فطاحل الشعراء، جاؤوا من كل أمصار الاتحاد الوليد، 
في مستهل تلك الليلة الشعرية الطافحة، ألقي العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله، الذي كان وقتها وزيرا للثقافة، قصيدة رائعة جدا، جعلت حلم الوحدة يرقص داخلنا ويكبر. 

وحين أنشد بداية قصيدته تلك: (لبن وتمر ناضج وورود...)، توقف هنيهة ورسم على محياه ابتسامة، ثم بحس الدعابة الذي رافقه طيلة حياته الحافلة، خاطب الحضور قائلا: "لا تسألوني يا سادتي، أين هذا؟ فالشعراء يقولون ما لا يفعلون"، وكدنا نموت من شدة الضحك، 
أحيانا، أخشى أن يكون الذي أطلق علينا لقب "بلاد المليون شاعر"، الذي يجعلنا نغمض أعيننا ونكاد نطير من شدة الفرح والسرور كلما سمعناه، أخشى أن يكون ذلك الرجل، قد استحضر هذا المعني (يقولون ما لا يفعلون)، وعمل فينا "مقلبا" ثم مضى في حال سبيله.

 
..في نفس يوم الخميس 29 مارس 2018، الذي صادقت فيه الحكومة على مصنع التمور، حصلت حكاية أخرى، أنستني مأساة مصنع السكر وقصة مزرعة الموز وأحداث الليلة الشعرية الكبيرة: 

 

كشف واقعة تزوير في أحد مكاتب الانتساب التابعة للحزب الحاكم، في بلدية الطواز المستلقية بعيدا بين جبال آدرار وواحات نخيله، ومع أن سوابقنا كثيرة وتفوق كل خيال، فقد كانت تلك السابقة فريدة من نوعها، إذ لم يحدث قط في تاريخنا المليء بالأهوال، أن قام حزب حاكم واحد بكشف حالة تزوير واحدة، 

لا أعرف لماذا ذكرتني حادثة الطواز، بالممثل السوري الجميل دريد لحام "غوار"، مرة في إحدى مسرحياته، أحس "غوار" بألم شديد في بطنه، نقلوه على جناح السرعة إلى المستشفى، وحين أجروا له الأشعة هناك، أخبره الطبيب بثقة علمية نادرة، أنه ابتلع قطعة نقدية معدنية، قفز "غوار" من على سريره وصرخ في وجه الطبيب: "والله حرام عليك يا دكتور، الناس يبتلعون الملايين ولا أحد يدري أو يعلم، وأنا ابتلع قطعة نقدية صغيرة، وتأتي أنت وتكشف الأمر بهذه السرعة الهائلة"!

..في وطني، كل حكاية تجر إلى الأخرى، ومحال أن تنتهي الحكايات...