على مدار الساعة

ولد محمود.. حصادُ أربعين عامًا بين مقالع الحجارة بجكنّي

22 أبريل, 2018 - 08:51

الأخبار (جكنّي/ الحوض الشرقي) ـ يفتقر إلى أبسط أدوات العمل وأرخصها سعرًا، يتحمّل منذ عقود وبصبر ومثابرة عزّ نظيرُهما مشقة عمله المضني بمقالع الحجارة في عزّ صيف الشرق الموريتاني، يحصد مبالغ زهيدة بالكاد تسدّ ضروريات عيشه اليومي مع أفراد أسرته.

 

يعمل شيخنَ ولد علاتي ولد محمود في مقالع الحجارة "اكرافييه" بمقاطعة جكني في ولاية الحوض الشرقي منذ أربعين عامًا، ويؤكد متحدثًا للأخبار أن الحجارة السطحية التي جمعها تشكل مكونًا أساسيّا في المباني المشيَّدة خلال العقود الأربعة الأخيرة بجكني وقرى الرغوة والفاظلة والإغاثة وأهل لمرابط... التابعة لها.

 

 

يستيقظ ولد محمود فجر كل يومٍ، يؤدي صلاة الصبح ويعدّ الشاي على نار يوقدها من الفحم والحطب فلا قنينة غاز بمنزله، كما لا يفوّت تفقّد دجاجاته الخِماص، يقدم لها قليلا من الماء ثم يفك إحكام إغلاق أقفاصها مانحًا إياها حرية التجوال طيلة يومٍ كامل لتروح إليه بطانًا في المساء.

 

توقّعُ اشتدادِ حرّ يومٍ من ثلث شهر إبريل الأخير بضواحي جكنّي لا يَخيب.. لذا فولد محمود لا يغادر إلى مقالع الحجارة إلا وهو يحمل على كتفه قنينة "ابلاستيك" عتيقة يعبّؤها من بئر القرية ماءً، القنينة ملفوفة بقطعة قماش مبلّلة؛ إنها خدعة فعّالة يلجأ إليها لتبريد مياه الشرب حيث لا كهرباء ولا ثلاجات فيستحيل لهيب رياح "إيريفي" الساخنة بردًا على المياه داخل القنينة.

 

 

باكرًا يغادر منزلَه المكوّن من عريش وبيتٍ متواضع شيّده من الطين بقرية/ "أدباي" الفاظلة (6 كلم غرب جكنّي)، يكتسي "درّاعة" زرقاء رثة من القماش الزهيد وعلى رأسه يلوي عمامة سوداء بطول ثلاثة أمتار، يودعه أطفاله في انتظار العودة بعد جنْي محصول يسير من المال تعيش منه الأسرة التي تضم قريبًا من عشرة أنفار هو معيلهم الوحيد.

 

في مقلع حجارة بسهل جكنّي ترافق كاميرا الأخبار شيخنا ولد اعلاتي ولد محمود وهو يبدأ روتين عمله الذي يعشق وقد حفظ خطواته عن ظهر غيب.. "أضع قنينة الماء تحت ظل الشجرة، والدراعةَ والعمامةً جانبًا، أتناول إناء معدنيا صغيرًا كنت أودعه أغصان شجيرة قريبة، أحكِم عُقدة مقبض المكنسة، ثم أبدأ تجميع الحجارة".

 

 

المكنسة التي يصنعها ولد محمود بيده من شجر البان "تيتارك/ أصَباي" تعينه في عملية التجميع الأولي للحجارة السطحية، وبواسطة الإناء المعدني يغرف من ما جمعت المكنسة.. يعتدل في وقفته ثم يسكب حِمله بتمهّل من علوّ مترين ونصف مستعينًا بتوازن مُحكم ـ وهو الذي لم يتلقّ يومًا درسًا في الفيزياء ـ بين الكمية المسكوبة وقوة الريح واتجاهها لعزل الحجارة عن الغبار.. شيئأ فشيئًا تسفر ساعات من العمل المتواصل عن كوماتٍ صغيرة من حجارة "اكرافييه" الخالصة.

 

يقول ولد محمود إن محصوله اليومي لا يتجاوز كومات محدودة حتى مع العمل من الصباح الباكر وإلى غروب الشمس، ويجني مبلغ 1000 أوقية قديمة لكل كومة (حوالي 3 دولار)، ولا يخفي أسفه على تأثير التنافس بين العاملين بالمقالع على انخفاض أسعار الحجارة، فلولا التنافس لكان السعر أفضل بحيث يناسب المشقة التي تسبقه.

 

 

ويوضح متحسّرا على السعر المنخفض التي يتلقاه من الزبناء أن مهنته صعبة يحتاج العامل بها لقوة الجلَد، كما تتهدده مخاطر صحية على مستوى العيون والمفاصل وغيرها، ثم يستدرك: "إلا أنه العمل، فبدونه يضطر المرء للسرقة أو سؤال الناس".

 

ظروف ولد محمود خلال الأربعين عامًا الماضية لم تسمح له بادخار جزء ولو يسير من مداخيل مهنته؛ ولولا احتياجات من يعيل من الأبناء ومن الأيتام الذين يتولى شؤونهم لكان قد شيّد منزلًا من الإسمنت، ولو امتلك الأدوات اللازمة لمثل هذا العمل لأنتج أكثر وتطورت مداخيله وحسُن حال أسرته، هكذا يقول.

 

 

"لا أمتلك بقرة ولا حتى معزاة وإنما بضع دجاجات فقط"، يضيف ولد محمود منتقدًا بشدة منعَه من الحصول على حصة من الأعلاف التي تخصصها الحكومة لدعم المنمّين في فصل الصيف، ويتهم "نافذين" بأنهم يستحوذون على هذه الأعلاف التي يطالب بتخصيص حصة منها لمربّي الدجاج.

 

يحدّثك شيخنَ ولد علاتي ولد محمود وهو يرتشف قطرات مياه بعد ساعات من العمل تحت حرّ الشمس ولفح لهيب رياح "إيريفي" فيقول: "البعض يحسدني على هذا العمل، فلأنّني أعتمد على نفسي ولا أسند إلى أي أحد حاجة يظنون أنني ثريّ أجنى الأموال الوافرة كل يومٍ.. والله يعلم كم أنا فقير مسكين محتاج!".