على مدار الساعة

علاوة "البعد"!

9 يناير, 2017 - 15:31

خالد الفاظل ـ كاتببقلب مؤمن جدا بقضاء الله وقدره، قررت وأنا في ثلث قواي العقلية أن أعود للسبورة، فعام "الرمادة" هذا لا يبدو مشجعا البتة على روح التمرد، فعصفور هزيل في يد وزارة التعليم المرتعشة، خير من عشرين عصفورا تحلق بين القصر الرمادي وبرلمان "الدموع"، ويد وزارة المالية المغلولة إلى عنقها، خير من يد الأحلام الوردية المبسوطة في الفراغ..

 بناء على ذلك، كنت "حكيما" وهو شيء نادر، حيث رميت شيطان المجازفة بكومة من الحصى، جمعتها من نظرات العاطلين عن العمل، المليئة عيونهم بغبار الخيبات..

 حيث قمت بإنزال حقائبي الثقيلة من التكسي، وكدستها بشكل عمودي فوق حافة طريق الأمل حتى تسيل لعاب الناقلين، تلك الحقائب التي تشكل الأوراق من وزنها، ما نسبته 60% تقريبا، لقد شعرت لحظتها أنني رجل من الورق، وأن معظم ثرواتي الطبيعية من "الكرتون"!

 

قلتها في نفسي: "ماذا لو أنني أحرقتها كليا"؟

 

عود كبريت واحد، كفيل بتحويل كل "أمجادي" إلى رماد تذروه الرياح. بكل صراحة، أعتقد أن الثروة الحقيقية والراسخة هي تلك المستمدة من العقل والنابعة من القلب، إنها بلا شك العلم والأخلاق، رغم أن الواقع قد لا يشاطرني نفس الرأي وكذلك هي وزارة التعليم.

 كورت عمامتي السوداء حول وجهي بكل سلاسة، تاركا عيوني لوحدها مكشوفة للعابرين، فعيوننا نوافذ مطلة على الروح. كانت الرياح مسالمة، كأنها تعبت من حمل غبار الوطن وهمومه، وكان الجو باردا ومضببا بأسئلة حائرة لا أجوبة مقنعة لها، من بين تلك الأسئلة:

لماذا لم أصدق حتى الآن أنني أستاذ؟

رغم أن بائع الرصيد عندما وقفت ببابه، قال لي: "تفضل يا أستاذ" وماسح الأحذية قال لي نفس الشيء!
 كفكفت دمعي الذي تخيلت أنه سقط، وهو في الحقيقة لم يسقط، وأنا أبحث عن إجابة مقنعة لذلك السؤال.
 أعتدلت جالسا قرب السائق، بعد أن أفصحت عن وجهتي المحددة "فراج تامشكط"، بعد رحلة مريحة فوق طريق الأمل، نزلت في "فراج تامشكط" قبيل منتصف النهار.

 وضعت حقائبي على ظهر سيارة أخرى، وجدتها تحمحم وتخرج دخانها الكثيف جهة طريق "الأمل"، كان هيكلها مطليا بالغبار، كأنها قد اغتسلت لتوها من ذنوب وزارة التجهيز والنقل. نظرت شمالا صوب وجهتي المحفوفة بالمكاره، جهة الطريق البالغ طولها 90 كلم فقط!

 حيث تمتد كصراط معوج وخشن إلى تلك المدينة الجميلة المعلقة في سقف صحراء "آوكار"، تلك المدينة العريقة التي ولدت قبل موريتانيا سنة 1927م، والتي تحتفل هذا العام ببلوغها تسعين عاما، كأن كل الف متر(1كلم) تفصلها عن طريق الأمل تساوي عاما، كأن تسعين عاما باتت تفصلها عن طريق "الأمل"..
 تظاهرت بالنوم حتى لا أشعر بطول تلك التسعين، حيث تركت ذلك السائق يصارع المكابح برباطة جأش، وجوقة الركاب لاهية مسامعها في برنامج أدبي، حكى مقدمه "طلعة" لا أدرى مقامها، لكنني أظن أن "لكحال" يناسبها أكثر، بما أننا نسير على "رنگ رنگ " نحو مقاطعة من الوطن، في عصر القطار الكهربائي والجسور المعلقة.

 كانت "الطلعة" في الوصف، وقد جاب "لمغني" فيها كل ربوع المقاطعة، مما جعل عجوزا وراء ظهري-لا أظنها بعيدة من التسعين-تطرب بشدة، كأنها إستعادت شريطا جميلا من الذكريات مع تلك الربوع، حيث قالت: "ذ بعد زين حت، خاصن الا كدروه".

 وصلنا الثالثة ظهرا من مساء السبت، وقد جعلتني مسافة تلك التسعين أنفض عن قلبي حسنات راحة ديسمبر القصيرة، ونعيمها الذي زال وتساقط على جنبات الطريق، ساعتها تذكرت حجم علاوة "البعد"، فوجدتني أردد هذا البيت:

 لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا~إن طالما غير النأي المحبينا والنأي تقال للبعد، أظن القائل هو ابن زيدون، حيث كان يخاطب ولادة بنت المستكفي، لو علم ابن زيدون أن ثمة علاوة للنأي تعطيها وزارة التعليم من كل ثلاثة شهور باستثناء الراحة الصيفية طبعا لموظفيها، وعرف حجمها! لطالب الحكومة بالإعتذار لولادة بنت المستكفي...

 هنا تامشكط، عود على بدء، والشمس تتسكع لوحدها في السماء متعبة، كأنها قد قطعت تلك التسعين لتوها. والصورة المرفقة بعدستي طبعا..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.