على مدار الساعة

التواصل السياسي

7 يونيو, 2018 - 04:38
الدكتور أحمد ولد الحامد - ahmedouldelhamed@gmail.com

يعود تاريخ نشأة "علم التواصل" إلى بداية القرن التاسع عشر مع ويفر وشانون، كنتيجة لمحاولات بعض المهندسين لفهم أسباب التشويش التي تعتري عملية الاتصال بين أجهزة الإرسال والاستقبال، وبذلك حددوا خمسة عناصر لهذه العملية متمثلة في المرسل والقناة والشفرة والمستقبل، فاكتشفوا عوامل تمنع وصول الإشارة في عملية الاتصال سميت عند التقنيين "بالصوت المؤثر على الرسالة"، وعرفت عند بعض المتخصصين في الإعلام والاتصال "بالسياق، وتطور هذا العلم ليصبح أحد أهم المجالات المعرفية التي تمكننا من مهارات مهنية ضرورية في كافة مناحي الحياة، ما جعل جل المتخصصين في شتى المجالات يختارون أنماطا من التواصل مناسبة لحقولهم المعرفية، وليس التواصل السياسي إلا محاولة من المختصين للاستعانة بهذه المهارات وتوظيفها في سياق سياسيي، مع العلم أن النجاح في تحقيق الأهداف السياسية يتطلب تحديدا دقيقا للأهداف ودراستها ورسم الخطط لتنفيذها وحيازة الوسائل المادية ودراسة الميدان والظرف الزماني المناسب لمباشرة العمل السياسي، فضلا عن ضرورة امتلاك الأهلية المعرفية التي توجهها مرجعيات فكرية أو روحية مع قدر من الذكاء الاجتماعي اللازم للتعامل مع كل الظروف ذات الصلة بالحيز المحلي أو الوطني أو الدولي؛

 

وترتكز عناصر التواصل السياسي على؛ 1 السياسيين؛ وهم الأفراد الرياديون الذين قرروا ممارسة السياسة لتحقيق أهداف شخصية أو عامة عبر الانتظام في أحزاب يتطورون ليصبحوا في مراكز القرار بفضل دعم الناخبين الذين اقتنعوا بضرورة مساعدتهم واختيار هم، انطلاقا من اعتبارات شخصية أو ثقافية أو مؤسساتية حزبية أو سعيا لتحسين الظروف المعيشية بشكل عام؛ في كيان الأحزاب التي تعمل وفق برامج خطط تسعى بها لإقناع المواطنين للانخراط فيها بغية ولتمكينها من تبوء مراكز لممارسة السلطة لتنفيذ مشاريعها وترجمة اهتمامها بمجالات تنموية كأولوية، مستعينة في ذلك بممثليها في البرلمان؛ الذي يقدم مشاريع القوانين ويتخذ مواقف منها بالرفض أو القبول أو التعديل و يساءل الحكومة باعتبارها الجهاز التنفيذي الوطني المسؤول عن خدمة المواطنين والسعي في تحقيق أعلى مستويات التطور والتنمية، معتمدة في ذلك على حاضنة شعبية تؤازرها سياسيا؛ عند تواصلها بشكل أسبوعي مع الفرقاء السياسيين والإعلاميين وكل الفاعلين في الداخل والخارج؛ سواء كانت هيئات المجتمع المدني غير السياسية ذات الأهداف التنموية أو الثقافية والتي تتجلى علاقتها بالسياسة في تنافس الفرقاء السياسيين على حيازة غالبية هذه الهيئات، لأنها شكلت عنوانا يسهل استهدافه من قبل السياسيين الأمر الذي أحدث حراكا داخل هذه الهيئات؛ 6- ورجال الأعمال الذين يسعون في تحقيق مصالحهم ويتخذون المشاركة في السياسة ودعم السياسسين استثمارا يتوقعون منه مردودية؛ لحماية أو أجلب المصالح التي تهيئ لها الظروف من خلال وسائل الإعلام والتواصل التي تعد مطية ورافدا من روافد انتعاش الطبقة السياسية وصناعة الرأي العام الذي عد هو الآخر عند البعض"سلطة خامسة"، وهنا يتحتم على السياسيين اعتماد خطط إعلامية لإقناع أكبر قدر ممكن من المواطنين بالانخراط في صفوفهم والتعامل مع هذه الوسائل بمهنية تحد من مخاطر سوء الفهم، لأن كل المضامين الإعلامية ذات الصلة بالسياسية حتمية التأثير في بيئة يتضح من ملامح جمهوريها أنه جمهور سلبي Passive Audience لا يبذل جهدا كبيرا في معالجة المعلومات بل يتأثر بها بشكل فوري؛ بينما يعد الجمهوري الإيجابي Active Audience فيها محصورا في النخبة التي تتجاوز مرحلة معالجة المعلومات إلى إعادة إنتاجها وتوجيه ردة الفعل بشكل يخدم توجهها.

 

وبالحديث عن الظروف والبيئة الحاضنة للعمل السياسي يكاد المتابع للمشهد السياسي يعجز عن تقديم انطباع أو قراءة أو تقييم للحراك السياسي، حتى ولو امتلك أدواة الفحص والتحليل والتأمل والاستخلاص بل وحتى لو كان مشاركا في معمعة الحراك السياسي، لأن معطيات هذا المشهد بالغة التعقيد وليست مرسومة في خط مستقيم راسخ الحياكة، وهنا يكمن سر ذكاء السياسيين الموريتانيين الذين يمارسون السياسة وفق المتاح وبأدوات الذكاء الاجتماعي الفطري الذي لم ينل التحيين منه - في الغالب - نصيبا كبيرا، رغم أن التحيين الشامل صار ضرورة لا غنى عنها لدخول وسائل تقنية لا يمتلك "الأذكياء الاجتماعيون" في السياسة زمام تسييرها رغم محاولات البعض منهم للتكيف معها، وقد مكنت محاولة التكيف هذه بعض هؤلاء السياسيين من "تثبيت" منظومات عتيقة في أذهان بعض الورثة "السياسيين" في الحيز الاجتماعي الضيق جدا جدا مستعينة في ذلك بتأثير العلاقات الأخوية وتفاعلاتها.

 

ومن المعلوم أنه لا يوجد مخبر لصناعة الطبقة السياسية لأن تشكلها متصل بأبعاد معقدة اجتماعية وثقافية وحتى نفسية واقتصادية، وعليه لابد من محاولة تقفى مراحل عملية تشكل الطبقة السياسية والمشاركة في العملية السياسية الوطنية لأن عدم المشاركة فيها يمنح فرصا أكبر لتجار الوهم ومستغلي المنابر لأغراض غير وطنية دون امتلاك أي أحقية معرفية أو أهلية أخلاقية؛

 

وتؤدي فوضوية العمل السياسي وغياب التراتبية وعدم اعتبار تراكم التجربة إلى عزوف العديد من النخبة عن مجال السياسة، الأمر الذي جعل معظم السياسيين المؤهلين غير مؤثرين لقلة عددهم، مما سينعكس في ضعف مخرجات مسار الحراك السياسي الوطني على المستوى المهني والتغلغل في أروقة القرار وتمثيل الوطن وخدمة المواطن؛ واليكم مسار تشكل المشهد السياسي على النحو التالي ؛

 

لقد تبين أن مشرب تشكل الطبقة السياسة ماثل في مخرجات التعليم التي تهيئ الأفراد لاتخاذ مواقف في بيئة اجتماعية تغذي تواصل أفراد إعلام سمعي بصري قيد التشكل المهني ،لازال يتأثر برغبات الجمهور؛ والملاحظ أن هذه البيئة تصنع القادة وفق حاجتها بغض النظر عن أهلية هؤلاء القادة؛ وبوصول القائد مرحلة السعي في التأثير والتفاعل مع الجماهير تتأتى إمكانية استمرارية مسايرة البيئة التي أنتجته ليضمن مصلحته الشخصية ومصالح الآخرين؛ كما تتأتى له أيضا فرص اتخاذ قرارات بموضوعية تراعي أهليته والمصالح العامة الوطنية بناء على رؤى مدروسة، وخلال هذه المرحلة تتجه أنظار النخبة نحو رؤاها وتصوراتها بغض النظر عن أهدافها وهنا تتشكل النخبة فيصبح السياسي في بيئة أكثر تعقيدا وخطورة مع تعدد فرص النجاح في المسار الجمعوي.

 

ومع مرور الزمن تتغلغل هذه النخبة في أروقة القرار لتتخذ مواقف ومسلكيات من المشهد الاجتماعي والاقتصادي بوصفها الموجه للسياسة الوطنية؛ فالبعض يؤثر بسلوكه حتى ولو لم يكن عن مقصد بحكم تمثل القيم المثلى في السياق المهني التقني (أو العكس)؛ والبعض الآخر منها يؤثر بإرادته وتخطيط منه وفق تشكيلات منتظمة تتحرك بحذر وتتكيف مع كل الظروف مع حيازتها وسائل النفوذ المادية والمعنوية.

 

تشكل مرحلة اتخاذ القرار على مستوى أي مكون من مكونات التواصل السياسي أهم المراحل في تحديد التوجه العام للمشهد السياسي الوطني ولا تضاهيها إلا مخرجات التعليم؛ لأنها تتصل بحياة المواطنين في الداخل والخارج وتتصل بمكانة الوطن بين الأمم وهنا تصبح نجاعة القرار وقابلية تنفيذيه وتأثيره قرينة الصلة بطبيعة النخبة التي أفرزها المسار آنف الذكر، وما إن يتم اتخاذ القرار حتى يقابله المواطن بالعزوف أو بالتعاطي ولا يمكن الجزم بجاهزية المواطنين للإسهام في تنفيذ القرار إلا بوعي هذا المواطن واتصال القرار بمصالحه، كما أن هذا القرار سيكون مثار التأمل والتدقيق من قبل المراقبين في الداخل والخارج المهتمين بالتنمية والحكامة الرشيدة، وهؤلاء بدورهم سيحددون مستويات النجاعة، وتقييمها فيصبح هذا التقييم أحد أدوات المواطنين في التفاعل مع الجهات الرسمية واتخاذ مواقف سياسية منها، وبطبيعة هذا التفاعل ستحدد مستويات تحقق أهداف التنمية التي يعتبر التعليم أهم محاورها وبتطور التعليم ومخرجاته يتطور أداء النخبة؛ لأنه يعد نقطة الانطلاق وبه تستعين كل النخب السياسية لتحقيق أهدافها.

 

وبالتالي يتحتم على النخبة السياسية تطوير منهاجها لتكون أكثر قابلية للاستمرار في منظومة سياسية وطنية معقدة في خضم تطور تكنولوجيا المعرفة والعلوم السياسية واتصال المواطن بروافد جديدة؛ ولا بد من اعتماد معايير في اختيار الممثلين السياسيين والمنتخبين وغربلة مضامين وسائل الإعلام والتواصل عبر انتقاء الكفاءات الوطنية وتشجيعها بالإضافة إلى تقييم المشاريع السياسية وتحديد الإخفاقات وتثمين النجاحات، وإذا ما ظل الفعل السياسي متروكا للصدفة والارتجالية فإن "الشعبوية السوقية Populism trivial”" ستتحكم في مسار السياسة الوطنية، وستكون لذلك انعكاسات بالغة التأثير السلبي، لأنها تعتمد على الإثارة و"التكيف الاجتماعي البيولوجي" الذي يرسخ مسلمات قيمية تخدمها" علما أنها لا تراعي أي بعد من أبعاد السيادة الوطنية وسبل تحقيق الأمن والتنمية المستديمة، ولن تحد الصفوة من تفاقم تأثيره هذه الشعبوية سوى بمضاعفة أعداد ولوج الأطر والقادة الذين مروا بالمراحل الطبيعية للتطور والمؤمنين بسيادة الدولة والمرتبط وجودهم الوظيفي بالحقوق التي نالوها من الدولة عبر المسابقات بوصفها قنوات تعزز ولاء الفرد القيادي للدولة والتدرج في المناصب الحزبية والمهنية.