على مدار الساعة

إحسانا إلى السجناء

12 يونيو, 2018 - 15:30
المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم

مساعدة المحتاجين والتصدق عليهم من القيم الإنسانية المحمودة ومن المستساغ أن يعظم أجر المنفق كلما زادت حدة حاجة المتصدق عليه وبينما يعتكف المسلمون طواعية طلبا للثواب في العشر الأواخر من رمضان يتعين التفكير في المعتكفين قهرا وما يعانونه من ضغوط مادية ونفسية من أهونها أنهم محرومون من السعي والتكسب بينما يطوف الأحرار ليشهدوا منافع لهم.. لذلك وأملا في التخفيف من معاناة مقيدي الحرية أنتهز هذا الظرف الخاص لمساعدتهم ببيان حكم، يغفل عنه الكثيرون، هو أن السجناء من أكبر مستحقي الزكاة من المنظور الشرعي (1) وبالنظر لحاجة نزلاء السجون الماسة للمساعدة القانونية أقترح على زملائي المحامين تنظيم حملات في زكاة عملهم يتصدقون خلالها على الإخوة مقيدي الحرية ويؤازرونهم في انتظار تفعيل الدولة لنظام المساعدة القضائية أو تطور النشاط الجمعي وامتداد أذرعه لتتكفل بمقابل أتعاب المحامين، الذين لا يتقاضون دخلا من المالية العامة للدولة ويعاني أغلبهم صعوبات كبرى في توفير المتطلبات اليومية بسبب كساد البضاعة القانونية (2) وتلمسا للثواب من الله تعالى وتجنبا لسهم أبي الأسود الدؤلي (يا أيها الرجل المعلم غيره .. هلا لنفسك كان ذا التعليم) أدشن نهج مساعدة سجناء موريتانيا بتقديم مرافعة في الدفاع عـنهم (3) أشفعها بطلبات لمن يهمهم الأمر (4).

 

1.

الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة وهي واجبة بنص الكتاب والسنة وقد وردت مقرونة بالصلاة في ثمانية وعشرين موضعا من كتاب الله ومما ورد فيها قوله تعالى: {وأقيموا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاة وارْكَعوا مع الراكعِين} - الآية 43 من سورة البقرة، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} - الآية 103 من سورة التوبة. وفي الحديث الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" (الحديث رقم 1313 في صحيح البخاري). ومن أنكر وجوب الزكاة عد خارجا عن الإسلام ومن أقر بوجوبها وامتنع عن أدائها من المسلمين قوتل حتى تستخلص منه.

 

وقد حصر الله سبحانه وتعالى مصارف الزكاة، أي المستحقين الذين تدفع لهم، في ثمان فئات ذكرتها الآية 60 من سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، وفي الحديث الشريف: "عن زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلا قَالَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ" رواه أبو داوود.

 

وفي سياق تناول إشكال زكاة المال العام كتبت مقالين نشرا منذ سنوات كان عنوان أولهما "لماذا تمنع الدول الإسلامية الغنية زكاة أموالها؟" وقادني الموضوع للبحث في حجم المحافظ الاستثمارية الإسلامية فكتبت عن "صناديق الثروة السيادية العربية أمام إشكال الزكاة وتحدي الشفافية" وبينت ضعف مستند فتوى القائلين بعدم وجوب زكاة المال العام في مقابل وجاهة رأي الإمام محمد بن الحسن الشيباني - المتوفى سنة 189 للهجرة، تلميذ الإمامين أبي حنيفة ومالك وشيخ الإمام الشافعي – الذي ذهب إلى وجوب الزكاة في الأموال العامة التي تسهم بها الدولة في مشاريع ذات ريع حيث قال: "فإن اشترى بمال الخراج غنما سائمة للتجارة وحال عليها الحول، فعليه فيه الزكاة.. واستدل بثلاثة أدلة، أولها: أن مصرف الخراج الذي تجب فيه الزكاة غير مصرف الزكاة، فمصرف الخراج عمارة الدين وصلاح المسلمين، وهو رزق الولاة والقضاة وأهل الفتاوى من العلماء والمقاتلة ورصف الطرق وعمارة المساجد والرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وإصلاح الأنهار التي لا ملك لأحد فيها وأما مصرف الزكاة فهو الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل وفي سبيل الله وغير ذلك. وثانيها: أن سبب وجوب الزكاة المال النامي، فإذا اتخذ المال للنماء والاستثمار تعلقت الزكاة به، ولا تأثير لكونه عاما أو خاصا. وثالثها: الاستئناس بالحديث الذي يوجب الزكاة في أموال الأيتام سواء استثمرت أو لم تستثمر بدليل قوله: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" فالحديث يطلب من الأوصياء إخراج الزكاة من أموال الأيتام، فيجب على الإمام أن يخرج الزكاة من أموال بيت المال." انتهى الاستشهاد (راجع الدكتور محمد ربيع صباهي، زكاة الأموال العامة المستثمرة في القطاع العام، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد: 25، العدد الثاني - 2009، متاح على الشبكة).

 

وسعيا لتسهيل ضبط مصارف الصدقة الثمانية، ضمنت الحرف الأول من كل مصرف للزكاة في عبارة: "غراس مفعم" بالترتيب: غارمون، رقاب، ابن السبيل، سبيل الله، مساكين، فقراء، عاملون ومؤلفون.

 

وبالتأمل في الواقع يتبين أن السجون تجمع نوعين من مصارف الزكاة فجل نزلائها من الفقراء والمساكين والغارمين وتتأكد حاجة الغارم المحبوس إذ بوسع من ينعمون بالحرية أن يسعوا ويتكسبوا أما السجناء فلا يتيح لهم المجتمع اجتياز الأبواب المسلحة وتقهرهم قوته على البقاء بين أربعة جدران وبذلك يكتسبون حكم الرقيق فيغدو أغلب السجناء مصرفا مزدوجا للصدقة ويصبح نزلاء السجون مستحقين ممتازين لأكثر من نصف أموال الزكاة التي تعد مالا لله تعالى حدد توزيعه من فوق سبع سماوات. وجلي أن تخليص المحبوسين من رق السجون باستخدام مال الزكاة من الآثار البينة للصدقة التي تتجلى لصاحبها فمن يقدم زكاته لمحبوس يتحرر بفضلها يكون كمن يرى صدقته تسعى بين الناس وعلاوة على ذلك فإن إطلاق سراح المساجين يعد حسنة لما يجلب من منفعة للفرد والمجتمع. ولأن كل شخص ينفق مما عنده فإن مما يجلب الأجر للمحامين أن يبادروا بزكاة عملهم عن طريق مؤازرة السجناء.

 

2.

تعد كثرة نزلاء السجون عرضا لمرض المجتمع الناجم عن ضعف مناعته وانعكاسا لضعف مخرجات التعليم والتثقيف والتشغيل وعدم اطلاعها بالدور المنوط بها ويعد ارتفاع نسبة السجناء في أي بلد قرينة على تخلفه ولذلك طورت بعض الدول بدائل كالسجون المفتوحة والمراقبة بهدف احتواء الظاهرة التي يعدها المجتمع الدولي مؤشر أزمة.

 

وفي موريتانيا ازدادت المحابس خلال العقد الأخير وتجسد ذلك في افتتاح سجون كبرى في انواذيبو وألاك وبير أم اكرين ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية ومحينة بعدد نزلاء هذه المؤسسات إلا أن المتابعين يجمعون على زيادة نزلاء السجون بصورة ملموسة كما يتجلى أن الطفرة العددية لم يرافقها تحسن في معاملة نزلاء "المعتكف اليوسفي" كما يسميه الخليل النحوي. فرغم تحمل الدولة لنفقات اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان وإنشائها لهيئة موازية هي الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب إلا أن عدم تحري التخصص والكفاءة والاستقلالية في أعضاء الهيئتين وتغليب المعايير السياسية في انتقائهم جعل المنشأتين محدودتي التأثير على واقع نزلاء السجون وتجسد في الواقع ما حذرت منه في مقال "غيوم الوقاية من التعذيب في موريتانيا" الذي نشر قبيل تعيين أعضاء الآلية الوطنية MNP وذكرت فيه: "يتعين انتهاز الفرصة لتحمل الهيئة المرتقبة ريحا طيبة للمنظومة العقابية في موريتانيا مما يوجب الاجتهاد في اختيار أعضاء الآلية بتوخي توفر مواصفات خاصة تتيح رسم إستراتيجية واضحة لتغيير ظروف المساجين ومقيدي الحرية وتحسين وجه موريتانيا فالتعسف لا يخدم بلدا. ينبغي أن يدرك الجميع بأن اختيار هيئة وديعة "تسير جنب الحائط" تستشير الرئيس أو مدير الديوان و"تشتم رائحة فم" وزير العدل أو النائب العام وتشعـر الولاة وقادة فرق الدرك في الداخل بقدومها سيكون إيذانا بفشل المهمة وإخفاق بلد برمته.. مسايرة الركب الدولي تتطلب أن تكون اللجنة مستقلة في الواقع، مطلعة، ناصحة، حيوية ويقظة مما يوجب تشكيلها من خبراء مرفوعي الرؤوس، عارفين بالمساطر، جديرين بالثقة وقادرين على التأثير في واقع مقيدي الحرية".

 

ويتجلى التقصير في حقوق السجناء أكثر ما يتجلى في غياب المساعدة القانونية حيث لا يتاح لأغلب نزلاء السجون الاستفادة من المؤازرة بفعل عدم تفعيل المساعدة القضائية مما يرغم رؤساء المحاكم الجنائية على تخصيص جزء زهيد من مصاريف كل دورة لانتداب محاميين أو أربعة عندما تكون الملفات كثيرة جدا وتصرف المحكمة لكل واحد منهم مبلغا لا يعدو ستة آلاف أوقية (6000) كحد أقصى عن حضور كامل الدورة، تمثل مقابل الدفاع عن عشرات الماثلين وينعكس ذلك سلبا على المتهمين فبدلا من المطالعة المسبقة للملف يقتصر المحامي على التقدم عند النداء على المتهم واستلام محاضر ملفه بالموازاة مع استنطاقه بتقديم مرافعة سريعة ومحدودة كثيرا ما كانت محلقة وغير مرتبطة بوقائع القضية وأدلة التهمة وبذلك فإن الدفاع في هذه الظروف غالبا ما يكون صوريا ويقتصر الهدف منه على ملء الشكلية القانونية لوجوب الدفاع في الجنايات دون اعتبار لتوفر المقصد الحقيقي.

 

وعموما يمكن تصنيف نزلاء السجون إلى: - محبوسين احتياطيا ينتظرون المحاكمة ومن الخلل كونهم يمثلون نسبة معتبرة من مجموع عدد السجناء مما يعد تجاوزا قانونيا يتعين علاج أسبابه المتمثلة في بطء التحقيق وتأخر جدولة القضايا أمام هيئات الحكم المختصة و- سجناء يتحرون انقضاء العقوبات التي أدينوا بها ولكن المفارقة هي أن بعض السجناء محكوم عليه بالسجن والغرامة في آن واحد وأنه بعد انقضاء فترة سجنه تتحول الغرامات تلقائيا إلى إدانات بالسجن على أساس تطبيق غير مؤسس لمسطرة الإكراه البدني، لا يراعي مقتضيات القانون والشرع ولا يهتم بالظروف المادية للسجين المعدم غالبا كما سأبين. وقد أظهرت زيارة ميدانية نظمتها نقابة سابقة للهيئة الوطنية للمحامين أن بعض نزلاء السجون لا تتوفر له ملفات يرجع لها في تهمته كما كشفت وجود محبوسين لمدة سنوات بسبب اختلاس أغراض تافهة.

 

وللتغلب على النقص وسعيا لتلطيف المناخ العقابي في موريتانيا أقترح على المحامين أخذ زمام المبادرة وإطلاق حملة المؤازرة للمنفعة العامة "Pro Bono" وهي عبارة عن عمل تطوعي معروف عالميا ينشط من خلاله المحامون بتخصيص فترات مقدرة من وقتهم وعنايتهم للقيام بمؤازرة مجانية على سبيل الإحسان ومن المتاح أن ننتهز فرص الأجر ونخلص نيتنا لله تعالى الذي يثيب مثل هذه الأعمال.

 

إن السجناء كالمرضى ولمنع التعسف في حقهم يتعين أن يكون كل سجين في عهدة محام يمسك ملفه ويواكب قضيته ويحرص على استفادته مما يخوله القانون وهو ما يوجب على الدولة صرف مقابل أتعاب يعوض للمحامين الجهد والعناء الذي يبذلون في خدمة المعدمين المحتاجين للمؤازرة وعلاوة على ما لهذا الإجراء من انعكاس على ظروف المواطنين لن يكون ذلك عبئا ثقيلا على الخزينة العامة. والمفارقة أن بعض الشركاء الأجانب أبدى استعداده لتمويل المساعدة القضائية إلا أن عدم التجاوب الرسمي أحبط ذلك المسعى.

 

3.

تتطلب الإجراءات القضائية عناية خاصة وتستدعي إسهام كافة مكونات الأسرة القضائية التي لا يتعين أن يقتصر دور قضاتها الجالسين على الحكم في القضايا المعروضة عليهم ولا أن يكتفي قضاتها الواقفون بالمتابعات والمرافعات باسم النيابة العامة كما لا ينبغي لدفاعها أن يقتصر على التزاماته الخاصة بالذب عن موكليه فثمة التزام وطني محوري يجمع كل هؤلاء يتعين أن يكون مداره تحسين الممارسة القضائية العامة و"تعديلها" بملاحظة الخروقات وطرح الإشكالات القانونية واقتراح السبل المثلى التي تتطلب استحضار فلسفة الإجراءات ومبادئ العدالة. فدرء التعسف يتطلب التعاون والتدارس الصريح والعلني للإشكالات القضائية العامة بهدف تمهيد الطريق وتخليصها من المطبات حتى يستقيم السلوك. وأعتقد أن واجب التحفظ لا يقتضي ضرورة عزوف القضاة عن المشاركة في تحسين أداء المرفق القضائي لأن نظرهم لا ينبغي أن يقف عند حدود الملفات المعروضة التي يجب عليهم العزوف عن تناولها خارج الإطار الإجرائي وإنما يتعين أن يشمل التزامهم السعي لتحسين الأداء القضائي عموما عن طريق التعاطي الإيجابي مع النقد البناء والتفاعل معه بالرد المقنع عليه أو الإقرار الصريح بملاحظة التجاوزات بهدف الرفع من مستوى الذوق الحقوقي في البلد.

 

وفي هذا السياق أسلط الضوء على انحراف العقوبات وعدم مراعاة أهدافها وأنواعها وعدم التمييز الإيجابي بين الإدانات الأصلية والتبعية مما قد ينجم عنه جمع للعقوبات وما يتخلل تنفيذ الإدانات من تعسف يزيد في اكتظاظ السجون المشهود في بلدنا والذي ينذر بخطر يتعين إدراكه والعمل على الحيلولة دون تفاقمه.

 

إن غاية العقوبات هي حماية القيم والمصالح الاجتماعية وإرضاء الشعور بالعدالة وتحقيق الأمن والاستقرار القانوني وقد نبذت البشرية، في العصر الحديث، المفهوم الذي يعتبر العقوبة انتقاما من المذنب وجنحت إلى اعتبارها وسيلة للإصلاح يجب أن تسخر لها إمكانات الدولة.

 

وتتدرج العقوبات الجنائية من الإعدام إلى الأعمال الأشغال الشاقة إلى السجن فالحبس وثمة عقوبة مالية هي الغرامة التي عدتها المادة: 9 من قانون العقوبات الموريتاني ضمن عقوبات الجنح.

 

وعندما يرتكب المتهم عدة أفعال جنائية تستوجب عقوبات متعددة فإن العقوبات لا تجمع له بل إن حد العقوبة الأصغـر يدخل في حدها الأكبر طبقا للمادة: 5 من قانون العقوبات الموريتاني: "في حالة ارتكاب عدة جنايات أو جنح فإن العقوبة الأشد هي التي يحكم بها..".

 

وبذلك المنطق فإن تعدد عقوبات الفعل الواحد غير وارد لأنه من باب أولى ومثاله الحكم بسجن المتهم أو حبسه وتغريمه في آن واحد. وإذا كانت بعض نصوص التجريم تجمع بين عقوبتي السجن والغرامة فإن واجب العدل يقتضي من القضاة أن يكتفوا بإدانة رئيسية واحدة كما يتعين عليهم الاجتهاد لملاءمة الغرامة، عندما يركنون إليها كعقوبة تبعية، مع الوقائع ومع إمكانات المتهم المادية بما يحول دون إدانة الشخص بما لا يطيق. فالحكم على المهرب بالغرامة يتعين أن يراعي إمكاناته وما جناه من الجرم موضوع المتابعة بدل إعجازه بإدانة فلكية لا قبل له بها تمثل خروجا على مقتضيات الشرع خاصة إذا كانت الإدانة تؤدي للزيادة التلقائية لفترة سجن المدان وقد تكون فترتها أطول من فترة الإدانة الأصلية نفسها. هذا على مستوى الإدانة أي إيقاع العقوبة الذي غالبا ما يتلوه تعسف أنكى على مستوى التنفيذ.

 

لقد سن المشرع مسطرة خاصة لتنفيذ العقوبات فعندما يصبح القرار القضائي الذي يقضي بالإدانة قابلا للتنفيذ يتعين على النيابة العامة أن تقدم لرئيس المحكمة المختصة طلبا لإصدار أمر بتنفيذ العقوبات الواردة فيه مع بيان اكتسابه قوة الشيء المقضي به وذلك تطبيقا للمادة: 633 من قانون الإجراءات الجنائية: "يقع التنفيذ بطلب من النيابة العامة عندما يصبح الحكم نهائيا..". أما الغـرامات فقد خول القانون الصفة في تحصيلها لأمناء المالية العامة وخول المدانين أجلا لتسويتها وديا مع وكلاء الخزينة وأجاز إمكانية تأجيل سداد بعضها، نظرة إلى ميسرة، طبقا للمادة: 664 من قانون الإجراءات الجنائية التي منحت أجل شهرين للمدان بعد أن تصبح إدانته نهائية حتى يتمكن من السداد أو التصالح.

 

وفي واقع الممارسة القضائية تصدر الغرامات دون حساب كما هو الحال في إدانة المتهمين بناء على القانون رقم: 021 – 2010 المتعلق بمكافحة تهريب المهاجرين غير الشرعيين والذي وقفت على حال أربعة أشخاص أدينوا على أساسه ما بين سنتين وثلاث سنوات نافذة ولكن المفارقة أن كل واحد من هؤلاء الشباب المعدمين الأربعة أدين أيضا بغرامة مبلغها خمسة ملايين أوقية قديمة (5.000.000) يستوي في ذلك من أدين بسنتين ومن أدين بثلاث وهو ما يشرع الاعتقاد بوجود تعليمات نافذة موازية للقانون. وقد بينت وضع ثلاثة من هؤلاء في مقال "التجريم السياسي في موريتانيا" أما الرابع فهو باتي اتيام، شاب موريتاني ولد سنة 1979 في روصو، حكم عليه بسنتين نافذتين وبغرامة خمسة ملايين أوقية قديمة وقبيل انتهاء محكوميته يوم 11/11/2017 تقدم ذووه بشهادات تثبت فقره وبدلا من أن يستفيد من الشهرين لمحاولة تسوية الغرامة الثقيلة أصدرت النيابة العامة أمرا استباقيا بالإكراه البدني في حقه يقضي بحبسه ثلاث سنوات (1080 يوم) هي الحد الأقصى لفترة الإكراه البدني طبقا للمادة: 667 من قانون الإجراءات الجنائية وكان ذلك في يوم 10/11/2017، ولأن أمر النيابة صدر في اليوم السابق لخروج اتيام المفترض من السجن فقد مكث في المحبس مثله في ذلك مثل لكور الذي انقضت محكوميته منذ نصف سنة وتم تمديدها على أساس الإكراه البدني. وبينما ينتظر موكلاي محجوب وفراحي انتهاء محكوميتهما البالغة ثلاث سنوات خلال الشهور المقبلة يساورهما القلق من تمديدها لأن أيا منهما لا يملك ما يمكنه من سداد خمسة ملايين أوقية للخزينة العامة. ونظرا لكون المحبوسين بسبب غرامات مالية يعدون غارمين ممتازين يمكن لأغنياء المسلمين أن يدفعوا من زكاتهم عن هؤلاء الشباب كي يجدوا سبيلهم للحرية وسيكون ذلك بمثابة عمل خير مزدوج فهو إبراء للذمة من فريضة الزكاة وتنفيس عن مكروب وفي الحديث "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنها كربة يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر عليه في الدنيا والآخرة.. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.." رواه أبو هريرة.

 

ومن الوارد التساؤل عن سر توحيد مبلغ الغرامة للمدانين في قضايا الهجرة السرية: لا يمكن الركون إلى أن السبب هو أنها تشكل الحد الأدنى المقرر في المادة: 4 من قانون الهجرة المذكور، التي يصر القضاة على تطبيقها دون غيرها من المواد، لأن الحد الأدنى لفترة الحبس، بحسب نفس المادة، هو خمس سنوات ويمنع وقف التنفيذ بنص المادة: 33 من هذا القانون الاستثنائي الموغل في القسوة فلماذا هذه الغرامات التعجيزية؟!

 

ويبدو أن سبب التعسف في الحبس التلقائي للمدانين بالغرامة هو استناد النيابة العامة على المادة: 663 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على ما يلي: "تنفذ مباشرة عن طريق الإكراه البدني القرارات والأحكام والأوامر التنفيذية التي تقضي بالإدانة بغرامة أو رد أو تعويضات أو مصاريف لصالح الدولة في مادة الجنايات أو الجنح أو المخالفات بدون إنذارات مسبقة بعناية وكيل الجمهورية الذي يصدر في نسختين الأمر بالإيداع في السجن ضد كل محكوم عليه لم يسدد اختيارا حسب الظروف المحددة في المادة التالية..". ولكن ما لا تنتبه له النيابة العامة غالبا هو أن هذه المادة مقيدة بتوفر ظروف النفاذ واكتمال شروطه ومراعاة حقوق المدانين بدليل إحالتها للمادة التالية (664) التي تمنح أجل شهرين للمدان بالغرامة يتاح له أن يسدد فيه دين الخزينة كما يتاح له إيجاد تسوية ودية بشأنها وبدلا من أن تتخذ المادة: 663 من قانون الإجراءات الجنائية كوسيلة إكراه تلقائي ينبغي فهمها على ضوء المقتضيات الإجرائية الأخرى كي لا يحصل الظلم.

 

إن الغرامات إدانات مالية يترتب عليها كون المحكوم عليه مدينا للخزينة العامة وبذلك ينبغي أن يراعي توقيعها الإمكانات المادية للمدان كما يتوجب النظر في مدى استطاعة المدان عند التنفيذ وقد فسر بعض أهل العلم الآية 280 من سورة البقرة {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بقوله: أن الواجب إنظاره حتى يقدر على السداد أو التصدق عليه بالدين.

 

يقول أفلاطون إنه بوجود قضاة جيدين يمكن تحمل القوانين السيئة.

 

وعلى ذكر الغرامات أضمن هذه المرافعة استشهادا رائقا من كتاب الجنح والعقوبات Dei delliti e delle pene الذي نشر سنة 1764، لمؤلفه القاضي الإيطالي Cesare Beccaria "أتى على الناس زمان كانت جل العقوبات فيه ذات طبيعة مالية. وكانت الجرائم وسيلة كسب للأمير. فالمؤامرات ضد الأمن العام كانت مصدر دخل تعلم الناس المزايدة عليه. وكان العاهل والقضاة يستفيدون من الجنح التي يتعين عليهم منع حدوثها. أما المحاكمات فلم تكن إلا جلسات بين مصلحة الجباية التي تحصل ثمن الجريمة والمذنب الذي يتعين عليه أن يدفعه. استحالت القضية نزاعا مدنيا وكأنها تتعلق بخصومة خاصة لا بممتلكات عامة.. وبذلك أصبح القاضي، المنصب للبحث بتجرد عن الحقيقة، محاميا عن الجباية، ولم يكن من كان يتسمى بحامي الحقوق ووزير القانون إلا مغتصبا يبتز لصالح ثروة الأمير.".

 

ويجدر التنبيه إلى أنني ترجمت هذه الفقرة من الترجمة الفرنسية للكتاب الإيطالي الأصل وهذا نصها بالفرنسية:

Il fut un temps ou presque toutes les peines étaient pécuniaires. Les crimes des sujets étaient pour le prince une sorte de patrimoine. Les attentats contre la sûreté publique étaient un objet de gain, sur lequel on savait spéculer. Le souverain et les magistrats trouvaient leur intérêt dans les délits qu’ils auraient dû prévenir. Les jugements n’étaient alors qu’un procès entre le fisc qui percevait le prix du crime, et le coupable qui devait le payer. On en avait fait une affaire civile, contentieuse, comme s’il se fût agi d’une querelle particulière, et non du bien public.. Le juge établi pour rechercher la vérité avec un cœur impartial, n’était plus que l’avocat du fisc ; et celui qu’on appelait le protecteur et le ministre des lois n’était que l’exacteur des deniers du prince.

 

4.

وبناء على الأسباب المثارة أعلاه أتوجه بأربعة الطلبات أولها موجه للسيد رئيس الجمهورية والثاني للقضاة والثالث للمحامين والرابع لأغنياء المسلمين:

1. ألتمس من رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية إصدار عفو واسع عــن السجناء وخاصة المحبوسين بسبب غرامات مالية لا قبل لهم بدفعها وذلك بالاستناد للمادة: 37 من الدستور: "يمارس رئيس الجمهورية حق العفو وحق تخفيض العقوبات واستبدالها".

2. أطلب من قضاة الجمهورية الإسلامية الموريتانية مراعاة المساطر واحترام حقوق المتهمين والحرص على ما يخولهم القانون طبقا للمادة: 91 من الدستور: "لا يعتقل أحد ظلما. فالسلطة القضائية الحامية حمى الحرية الفردية تضمن احترام هذا المبدأ في نطاق الشروط التي ينص عليها القانون.".

3. أطلب من زملائي المحامين إطلاق حملات تطوعية لمؤازرة السجناء تستهدف كل نزلاء سجون الجمهورية الإسلامية الموريتانية.

4. أطلب من أغنياء المسلمين الحرص على إشراك السجناء في زكاة أموالهم امتثالا لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى.