على مدار الساعة

حوار مع سائق تاكسي

10 أغسطس, 2018 - 01:27
محمد عبد الله عمي - طالب دكتوراه في الفيزياء بتونس

لست من أصحاب القلم والكتابة، لكن الحياة اليومية بما تحمله معها من مواقف طريفة أحيانا، وفي أحايين أخرى تستدعي الكثير من الاستغراب والتأمل، فإنه بات من الضروري تدوين كل تلك المواقف خصوصا في عالم مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تغيرت كل المعطيات، فالشهرة والسمعة لمن لم يمتلك فيها أكثر المتابعين، والمثقف من يدون فيها ويقرأ، والصحفي من يتابع فيها ويكتب، وأصبح العالم يعيش ما يسمي بمصطلح القرية الكونية الواحدة تلك القرية التي في أقاصيها حيث الولايات المتحدة الأمريكية تغني الـ"كيكي" ويرقص على أنغامها فتقلد في أقل من يومين في شوارع نواكشوط إذ لاوجود لأي أبعاد ثقافية أو دينية مشتركة بين هاتين النقطتين الجغرافيتين.

 

لن أطيل كثيرا في التقديم والذي أردت من خلاله أن يسعفني في تبرير أهمية الكتابة عن أي حدث مهما صغر أوكبر.

 

ما سأكتب عنه حوار دار بيني وسائق تاكسي في تونس العاصمة، حوار له ما بعده جعلني أكتب عنه وأتأمل فيه قليلا، ففي أحد أيام الصيف الحارة في تونس، استوقفت سيارة أجرة من شارع الحبيب بو رقيبة حيث مهد أجمل الثورات التي حملتها موجة الربيع العربي وإن كنت أختلف في التسمية الأخيرة، ثورة أعطت دروسا للإنسان العربي بأن العلم والثقافة أساس التقدم والبقاء، وأن الولاء للوطن أولا أساس الاستقرار والتماسك.

 

استوقفت تلك السيارة وكنت متوجها إلى حي النصر، أحد أحياء العاصمة تونس، والذي يفضله الموريتانيون بعد حي التحرير - الذي يجدون فيه وطنهم الثاني - صعدت السيارة وما إن ربطت حزام الأمان حتى دار الحديث مع سائق التاكسي والذي كان مثقفا ولا غرابة، ففي تونس قد تجد سائق التاكسي يحمل شهادات عليا بناء على طبيعة المجتمع التونسي المتعلم، فعندهم حامل الشهادة لا يجلس وينتظر التوظيف وإنما يبحث عن لقمة العيش مهما كان العمل، فالاعتماد على الآخر لا يوجد في قاموسهم.

 

بدأ الحوار على النحو التالي:

قلت له: السلام عليكم

السائق: وعليكم السلام، أين تقصد؟

أجبته: حي النصر

انطلقنا نحو الوجهة وبعد لحظات شغل الراديو حيث كانت تبث نشرة الأخبار فالساعة تشير إلى الثانية زوالا، كنا نستمع للنشرة وجلها كانت أخبارا محلية، بدأ يحلل ويناقش فلم أتجاوب معه ثم أطفأ الراديو.

وقال: من أي البلدان أنت؟

فأجبته موريتانيا

فقال: نتشرف

فأجبته: شكرا

فقال: وهل عندكم مشاكل كما يوجد عندنا؟

فقلت: نعم

فقال: ما هي مشاكلكم؟

قلت له: بلد لديه موارد كبرى كالحديد والذهب والسمك والثروة الحيوانية ومع ذلك فشعبه فقير.

قال: وعلى من تلقي اللائمة؟

قلت: كنت ألقيها على الحكومات المتعاقبة أول الأمر ثم أصبحت ألقيها على الشعب، شعب يندفع إلى من يحكمه، ففي كل تظاهرة انتخابية توزع الحكومة المساعدات، فيعتبرها منة أو هبة من مال الوزراء الخاص أو من مال الرئيس فيعاود انتخابهما من جديد، شعب لا يتظاهر على أبسط حقوقه، ترتفع الأسعار فلا يتكلم، يفسد التعليم فلا يتكلم، تعطل الصحة فلا يتكلم، تنهار الطرق ويموت البشر فلا يتكلم، شعب راض بكل شيء يبايع من يحكمه وبأية طريقة حكم بها سواء انتخابات أو انقلابات.

 

قاطعني في الحديث وقال لي: مهلا أنا لا أتفق معك صديقي.

قلت: ولم؟

قال: لأنني لا ألقي باللائمة على الإثنين

قلت: وعلى من تلقيها إذن!

قال: على النخبة

فقلت: من الذي تقصده بالنخبة؟

قال لي: تلك الطبقة التي بين القاعدة والقمة تلك الطبقة المثقفة والتي تحمل الشهادات، بها يصلح أو يفسد المجتمع، والله سبحانه وتعالي يبعث في الأمم رسلا، فتلك الرسل تشكل نخبا يكون عليها إصلاح المجتمع، والعالم الغربي لم يصلحه إلا نخبه والدليل على ذلك الثورة الفرنسية، وبدأ يسرد في الحديث عن دور النخبة في الحاكم والمحكومة وأنها هي همزة الوصل بين الرئيس والشعب فدورها أن تري الرئيس طريق العدل والانصاف، وأن تبعده عن الظلم، وأن تنتشل الشعب من غياهب الجهل والتخلف، وتريه طرق التقدم والازدهار، فالنخبة هي من يضمن للمجتمع بقاءه.

 

أطرقت هنيهة وأنا أتأمل في كلامه، ثم قلت: صدقت صديقي وإن كانت المسافة لم تسعفني لأشرح لك صدق كلامك.

 

فقال: لا عليك صديقي هل أن تريد أن أقف هنا؟

فقلت له: نعم.

أعطيته الحساب، وأغلقت باب السيارة، وبدأت أسير على الرصيف وأتأمل كلامه، قلت في نفسي ما قاله في منتهي الصدق، فعلا لم تفسدنا إلا هذه النخبة، نخبة تتلقى الكثير من التكوينات في الخارج ومن أرقي الجامعات ثم ترضخ لثلاثية القبيلة والجهة والعرق، بل وتكرس هذه العقلية فلا يوجد اعتبار للوطن، لا يستطيع أحد منا أن ينكر ذلك فهذه الحكومة ومن تحتها لا تمتلك إلا الكوادر العلمية كوادر غيبت الحاكم عن دوره وشقت له طرقا في الاستبداد حتى تمكن له ولنفسها وتبتلع ثروات هذا البلد، وتضحك على هذا الشعب، أستغرب من شخص يتلقى تكوينا عاليا في أي مجال من العلوم ثم يومن بهذه الثلاثية يؤسفني أن أرى طبيبا يجمع بطاقات التعريف من أجل أن يتبوأ بها منصبا في المستشفى، ومهندسا أو دكتورا يقوم بنفس الفعل أملا في التوظيف.

 

على نخبنا أن تجلس مع ذواتها وتحكم ضمائرها حتى يخرج هذا الوطن من هذا المستنقع فقد بلغ السيل الزبى.