على مدار الساعة

المرجعية المشتركة كأساس للهوية في موريتانيا محليا وإقليميا

7 نوفمبر, 2018 - 01:17
أمد ممد جالو - خريجي جامعة محمد الخامس بالرباط - باحث في جامعة ارتوى- فرنسا - Ahmeddiallo210@gmail.com

يفرض الموقع الجغرافي على الكيانات السياسية تبعات حضارية لا تنفك عنها نابعة من حقائق ذاتية وموضوعية، ومن بينها المرجعية التي يتحدد على مقتضاها العمل السياسي سواء مع الداخل أو الخارج.

 

وهو ما يجعل من موريتانيا موطن العلماء والإمارات والممالك الممتدة عبر الصحاري إلى نهر السنغال الواقعة في أقصى بلاد العرب غربا على أرض إفريقية مطالبة بحسم أمر مصيري على مستقبلها الحضاري في ظل المتغيرات المتسارعة، وما يؤكد من ضرورته ارتباطه الوثيق بوحدة الجماعة سياسيا وما يخلفه من آثار على التفاعل بين المحلي والجهوي.

 

على أن مكونات موريتانيا تنسجم بشكل تلقائي مع بعضها داخليا ثقافيا وحضاريا، وكذا مع جوارها المغاربي / الإفريقي، ما يعطي الأولوية مبدئيا للإسلام وللانتماء الديني على غيره من المرجعيات الأخرى، وهو ما نلمسه بصورة مباشرة من تسمية البلاد "الجمهورية الإسلامية الموريتانية" ما يجعل من الإسلام إطارا جامعا لكل الأعراق ومنطلقا للعمل الاجتماعي أيا كان نوعه. ومن ثم فإن المرجعية الإسلامية تضمن له التقاطع والالتقاء مع دول الجوار شمالا وجنوبا على نفس القيم الحضارية التي تجمع بين شعوبها.

 

لكن مع انتهاء حقبة الاستعمار وتأثر بعض أبنائها بالثقافة الغربية اختلفت الرؤية واختلت الموازين مما أدى أحيانا إلى التنازع على المرجعية وعلى تحديد مفهومها، خصوصا مع ظهور الحركات القومية المتعددة، لكن مع التغيرات الدولية الجسيمة بعد سقوط القطبية الثنائية وما لحقها على المستوى الإقليمي من مطالب الفئات الاجتماعية بمزيد من حقوقها وكرامتها وكذا العدالة الاجتماعية يكون من المنطقي إعادة النظر حول المرجعية المشتركة أمرا ملحا غير قابل للتأجيل حماية للمصالح المكتسبة واستدعاء لتلك المرجوة.

 

وباعتبار موريتانيا عرفت عبر تاريخها أعراقا متعددة ومتباينة يكون لزاما البحث عن مرجعية مشتركة يمكن أن تجمع جميع مكوناته، كما يعكس موضوع هذا البحث "المرجعية المشتركة كأساس للهوية في موريتانيا محليا وإقليميا" الأهمية القصوى لدى الفرد والجماعة لتحديد هويته مما يجعل سؤال الانتماء والهوية هو سؤال مصيري للفرد والجماعة من نحن؟

 

غير أن الإجابة على هذا السؤال يرتبط إلى درجة كبيرة بالمرجعيات المشتركة بين الجماعة الواحدة، حيث يبدأ من العقيدة، مرورا بالدولة الوطنية، وصولا بالموقع الجغرافي بمعني تحديد الثوابت التي هي بمثابة الخيط الناظم للجماعة.

 

يتكون هذا البحث من محورين. في المحور الأول تم التوقف أمام المشترك المطلق بين الموريتانيين كمجتمع، وذلك في محاولة لإلقاء الضوء على الثوابت المشترك كالدين الإسلامي، والدولة الوطنية، والموقع الجغرافي.

 

بعد تقديم حيثيات المشترك المطلق وركائز، يعالج المحور الثاني إشكالية الانتماء والهوية الوطنية الموريتانية وبيان الطابع المركب لهذه الهوية في المرحلة الراهنة.

 

أولا: المشترك المطلق:

وهي مجموعة من الثوابت التي تشكل الركيزة الجوهرية والمرجعية المشتركة بين مختلف الأعراق الموريتانية، وتضمن الوحدة بينهم، وتتمثل أساسا في الدين الإسلامي (أ)، والدولة الوطنية (ب)، ثم الموقع الجغرافي (ج).

 

أ. الدين الإسلامي:

 يبدو أن مجمل الموريتانيين يتقاسمون الإيمان بهذا الدين مما يجعله المقوم الأول والأساس المشترك بين جميع مكونات الشعب الموريتاني، وشرطا للانتماء إلى هويته الوطنية. كما أن هذه المرجعية الدينية المتمثلة في الدين الإسلامي الحنيف والذي يجمع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم)، هي الجامع المشترك، بل الأكثر من ذلك وحدة المذهب والقراءة داخل جماعة أهل موريتانيا (بالمذهب المالكي، وبقراءة ورش) وهي خصائص تتميز بها المجتمع، وهي خصائص نادرة في البلدان المجاورة أو في أي مكان أخر في العالم. وتشكل هذه المرجعية ثابتا ومصدرا للتسليم والإيمان، بحيث لا يترك المجال للمناقشة أو المجادلة فيها، مما تجعلها دعامة وركنا للأمة الموريتانية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الكل وهي الأمة الإسلامية والعربية.

 

وبهذا كان الإسلام كمرجعية دينية منطلقا لوحدة الموريتانيين في مواجهة المستعمر الذي سعى في أرض موريتانيا فسادا، بغية نيل شعبنا استقلالهم الذاتي، ومن إصرارهم على التحرر من التبعية الاستعمارية الفرنسية. إن الإسلام يعتبر مرجعية مطلقة في موريتانيا، ويشكل سلاحا لمواجهة التحديات سواء الماضي منها أو الحالي، وضمانة جوهرية للانسجام والتماسك بين مكونات شعب موريتانيا. وإذا كانت وحدة الأمة لم تكن قائمة إلا بناء على منطلق هذه المرجعية الموحدة، حيث يشكل القرآن الكريم الأصل الأول فيها والذي أنزل بلغة عربية مبينة، كان من الضروري رسم سياسة جديدة تضمن وحدة اللغة وخاصة داخل الإدارات والمؤسسات التربوية، وذلك لا يتم إلا عند تنزيل بنود الدستور التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، وهكذا نصت المادة: 6 من الدستور الموريتاني الحالي (25 يونيو 2006) : (اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسونكية والولفية. اللغة الرسمية هي العربية)، وبذلك يستكمل ولو جزئيا رفع المشروع الثقافي الفرانكفوني والتركيز على دعم اللغات الوطنية الأخرى كالفولانية مثلا وغيرها.

 

وفي الماضي وما تزال لعبت المحظرة الموريتانية والمدرسة (في السنوات الأخيرة) دورا بارزا في تعليم اللغة العربية وتوطيد اللحمة الوطنية، ورهانا على المستوى الخارجي للامتداد إلى العديد من البلدان المجاورة، بواسطة القوافل والندوات وتأطير الجمعيات والمنظمات الإسلامية. مما يبين بجلاء أن الإسلام استطاع أن يوحد الموريتانيين، على الرغم من الاختلاف الاجتماعي واللغوي، حتى أن بعضا من الحركات الفولانية والتي تطالب منذ سنوات عديدة بضرورة ترسيم اللغة الفلانية داخل المنظومة التربوية وفي المدارس الابتدائية، إنما تفعل ذلك داخل إطار الإسلام، أي باعتبار أن الدولة والمجتمع الموريتانيان إسلاميان، كما جاء في المادة: 5 من الدستور: (الإسلام دين الشعب والدولة).

 

إن الإسلام جمع بين مخلف المكونات الموريتانية الأربعة: (البيضان والفولان والسونكي والولف)، بحيث لا يحق أن ينسب الدولة لأي واحد من هذه المكونات، بل مضطرون بأن يكون الإسلام هو الأساس الجامع بينهم، ولعل ذلك هو السبب في انعكاس العقيدة في اسم الدولة "الجمهورية الإسلامية الموريتانية"، وليس التظاهر بالدين، كما يدعي البعض.

 

ب. الدولة الوطنية:

 وتشكل كذلك الدولة الوطنية إحدى الروابط والثوابت التي تجمع بين كل الموريتانيين وتسموا عن العلاقات الأخرى سواء كانت قبلية أو عشائرية أو حزبية، كما أن هذه الروابط لا تنحصر فقط في مجرد الشعور بالانتماء وما يطبع ذلك من عواطف، بل يتجاوز كل ذلك إلى جانب الارتباط في الخضوع بالالتزامات وأداء الواجبات اتجاه الوطن في مقابل الحقوق.

 

ورغم ثبات هذا الكيان القانوني والسياسي للهوية الوطنية لدى جميع المجتمع الموريتاني، الذي يشكل الدولة الراهنة، وبعد مضي بضعة عقود من تاريخ نشأت الدولة الوطنية فما زال الموريتانيون وبحكم طبيعة التركبة الاجتماعية متشبثون بالانتماءات العشائرية ومتمسكون بقيم القبيلة وتقاليدها التي تلعب أدوارا بالغة من الأهمية في التضامن والتكافل الاجتماعي، وإصلاح ذات البين والتسامح. وفي الواقع فإن الدور المتنامي للقبيلة والعشيرة داخل المجتمع سيستمر على حساب الدولة ما دامت هذه الأخير لم تقدر على القيام بالمهام الموكولة إليها خاصة في المجالات الخدمية كالصحة والتعليم وكل جوانب الحياة الكريمة، وعند تحقيق هذه الصلاحيات وقتها يمكن الحديث عن بوادر قطع الارتباط التدريجي مع القبيلة، والمصالحة بين الفرد ومؤسسات الدولة (من الولاء بالقبيلة إلى الولاء بالوطن) التي تسعى إلى وضع المصلحة العامة فوق كل الاعتبارات.   

 

ج. الموقع الجغرافي:

إضافة إلى المرتكزين السابقين (الدين الإسلامي، والدولة الوطنية)، نجد مشتركا آخر بين الموريتانيين يتمثل في الموقع الجغرافي الذي يجعل موريتانيا تتمحور بين فضاءين إقليميين مختلفين يجمعها بهما رابطة الانتماء والعضوية في مؤسساتهما الرسمية، وهما الفضاء العربي خاصة الشمال إفريقي منه (بلدان المغرب العربي)، والفضاء الإفريقي من جهة أخرى (الاتحاد الإفريقي)، مما يجعل الدولة الموريتانية جسرا بين هاتين الحضارتين وحلقة وصل بينهما، وقد فرض هذا الوضع الجيوستراتيجي المزدوج للدولة وانطلاقا من اعتبارات سياسية واقتصادية واقعية ضرورة تفعيل العلاقات بين كلا الجانبين والسعي نحو الاندماج داخل مؤسساتها الإقليمية مما يخولها لعب أدوار مهمة على هذين الصعيدين بناء على موقعها المتوسط. فالموقع الجغرافي لموريتانيا يحتم على القائمين عليها القيام بمزيد من الأدوار لجعل موريتانيا تحتل مكانا مناسبا في منطقة متعددة الشعوب والثقافات، ويجمعهم الإسلام منذ مراحل تجارة القوافل التي كانت ترابط بين منطقتي تمبكتو وسجلماسة.

 

غير أنه في هذا الصدد لا بد من الإقرار أن مسار تطور الدولة عرف بعض الانحرافات والعراقيل من حين إلى آخر، وهو الانحرافات والعراقيل التي أثرت سلبا، وحالت دون بلوغ الأهداف الكبرى للدولة حتى الوقت الراهن، ويتجلى ذلك في إخفاق الدولة الموريتانية في جمع مختلف مكونات الشعب في لحمة وطنية منسجمة، وذلك إيجاد هوية وطنية جامعة تضمن الاستمرار والتعايش، مما جعل البعض ينتهز هذا الظرف ليحاول تجاوز الخطوط الحمراء والقفز على الثوابت الوطنية، ليتظاهر بالفئوية والانفصال والتشطير، وهذا ما يؤكد بجلاء عجز الدولة عن تحقيق التطلعات والحاجيات الملحة والمشروعة لشعبنا من سوء التدبير لموارد الدولة وانتشار الفساد الإداري واختلاس المال العام لدى المسؤولين إلى غير ذلك، أي كل ما يدخل في قاموس سوء التدبير الذي رافق نشأة الدولة إضافة إلى خضوع القيادات الحاكمة لضغوطات المؤسسات المالية الدولية في التخطيط والهيكلة دون الانتباه إلى مضاعفاتها الخطيرة على البلاد والأمة. كما شكل أيضا التذبذب وعدم الاستقرار في الخيارات التربوية، للتصدي للاختراق الفرانكفوني الصاعد منذ مرحلة الاستعمار والمستمر بسبب عدم تفعيل اللغة العربية واللغات الوطنية المرسومة في الدستور تحديا حقيقيا للتواصل بين شعبنا، وعائقا أمام التنمية والنهوض بالدولة وضربا لأمنها القومي.

 

ثانيا: الانتماء والهوية الموريتانية:

وانطلاقا من معطيات المحاور السابقة يمكن القول إن التطور الاجتماعي العام في موريتانيا أفرز إشكالية الانتماء (أ) والهوية الوطنية (ب).

 

أ. الانتماء:

وقد تعرضت موريتانيا لدخول المستعمر منذ القرن الرابع عشر الميلادي، رافقته بعثات احتلالية من مختلف بلدان أروبا من أسبانيا والبرتغال وفرنسا، وذلك نتيجة للانهيار والتفكك الذي أصاب المغرب العربي خاصة إبان سقوط دولة الموحدين خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر (1269)، ومنذ القرن السابع عشر تمكنت فرنسا من احتلال السنغال والسيطرة عليها، كما اختارت داخل هذا البلد مدينة (سان لويس) قاعدة للانطلاق والسعي إلى احتلال دول غرب إفريقيا، ومن بينها موريتانيا التي ظلت تدار من قبل إدارة الاحتلال الفرنسية في المدينة السنغالية المذكورة سابقا طيلة مدة الاستعمار، وقبل بداية مرحلة الاستقلال والبدء في بناء مؤسسات الدولة في سنة 1960 م، حيث لم يكن الحسم حول إشكالية الهوية والانتماء آنذاك مطروحا بشكل واضح لدى النخبة السياسية والحزبية وقتها، ولعل السبب في ذلك يرجع أساسا إلى افتقاد تلك النخبة السياسية آنذاك إلى تجارب نضالية طويلة، وعدم خضوع المجتمع لسلطة مركزية لعدة قرون، غير أن إشكالية الانتماء شكلت اهتمام القيادات وخاصة خلال السنوات القليلة اللاحقة من تاريخ الاستقلال حيث سعت إلى تداركها وطالبت بالانضمام إلى الجامعة العربية، غير أن تلك الجهود منيت بالفشل في البداية، وذلك نتيجة رفض الجامعة العربية طلب انضمام موريتانيا إلى مؤسساتها الرسمية بدعوى اعتراض المغرب التي كانت ترى آنذاك في موريتانيا جزءا لا يتجزأ من أراضيها، كما أن فرنسا كانت تسعى جاهدة إلى ضم موريتانيا إلى التكتلات الغرب الإفريقية من مستعمراتها السابقة، وفي هذا السياقي التاريخي من تجربة الدولة الحديثة تبقى السمة الأبرز لموريتانيا آنذاك هي التوجه والانتماء الإفريقي، ويظهر تفسير ذلك من خلال الضغوطات الخارجية التي أشرنا إليها سابقا، وخاصة إذا استحضرنا حاجة الدولة الوليدة خلال تلك المرحلة إلى الظهور وإلى الوجود والقبول الواسع الذي ناله من قبل زعماء الدول الإفريقية للانضمام إلى مؤسساتها الإقليمية، مما مكن موريتانيا من رئاسة منظمة الوحدة الإفريقية في سنة 1971م.

 

غير أن الموقف العربي سيتغير وخاصة بعد الاطلاع على تفاصيل ومطالب الجانب الموريتاني، وتخلي المغرب عن معارضة الانضمام، بل أصبح من إحدى أهم الدول العربية التي تأيد وتدعم انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية في سنة 1973 م أي بعد مرور ثلاثة عثرة سنة على تاريخ استقلال البلاد، وقتها طرح موضوع ازدواجية الهوية والانتماء لموريتانيا التي تشكل سمة للمجتمع الموريتاني الذي يتمحور بين فضاءين هما الفضاء المغاربي (اتحاد المغرب العربي) ومن ثم بالعالم العربي، ومن جهة أخرى الفضاء الإفريقي ويجسده التواجد في منطقة الساحل والصحراء والعضوية في (الاتحاد الإفريقي)، وبين هذا وذاك يبقى الإسلام هو الخيط الناظم بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني المسلم، وهو ما يأتي في الفقرات الأولى من ديباجة الدستور: "ووعيا منه بضرورة توثيق الروابط مع الشعوب الشقيقة، فإن الشعب الموريتاني كشعب مسلم عربي إفريقي، يعلن تصميمه على السعي من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي الكبير والأمة العربية وإفريقيا... ".

 

ب. الهوية:

 وللحديث عن الهوية في موريتانيا لا بد من الرجوع إلى مدخلاتها، وتتمثل في الهجرات القليلة من القبائل العربية واندماجها مع القبائل الفولانية وبعض القبائل البربرية والطوارق وقبائل إفريقية أخرى ومع مرور الزمن انصهر بعضها مع البعض، مما يجعل موريتانيا دولة من المفهوم السياسي وأمة من المفهوم الاجتماعي، يربط بين مكوناته رابطة الانتماء والتبعية للدولة الموريتانية على أساس قومية واحدة، تقوم على الاندماج والرغبة في التعايش أو بعبارة أدق الاندماج بين أعراق متعددة ومنفصلة في وحدة اجتماعية واحدة. غير أنه يبقى من المهم تبيان ما يهدد هذه الهوية الوطنية الموريتانية من اختراق ثقافي استعماري فرانكفوني من جهة، وبالإضافة إلى عامل العولمة التي يهدم الحدود الجغرافية والثقافية ... الخ، وقد صدق المرحوم الأستاذ محمد عابد الجابري عندما يصف العولمة بأنها "نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن: نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدول الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية". إلى غير ذالك من الأضرار السلبية التي تحاول ضرب الهوية الوطنية وتفكيكها. ومن جهة أخرى نجد عوامل أخرى هي في الحقيقة تؤثر أيضا في الهوية الموريتانية كالتركيبة الإثنية والموقع الجغرافي للبلد الذي يقع في حلقة وصل ما بين البلدان الإفريقية والبلدان العربية، إضافة إلى البعد القانوني والتاريخي والثقافي، فالبعد القانوني للهوية الذي يقوم على الانتماء الرسمي أو القانوني للأرض والوطن والذي ينشأ فيه الفرد وتؤكد وتؤمن عليه الوثائق الرسمية التي يملها كجواز السفر والجنسية والبطاقة الشخصية، أما البعد التاريخي والثقافي للهوية فيتجهان نحو تعزيز الشعور بالانتماء لجماعة أو جماعات تعيش على أرض واحدة لها حدود واحدة وتخضع لنظام سياسي وقانوني واحد تحت ظل دولة وأمة واحدة، وهذه الأبعاد جميعها في الحقيقة تحسم الهوية الموريتانية. ومن هنا لا بد من التأكيد أن اللغة العربية أثرت في ثقافة الموريتانيين وفي تكوين هويتهم جميعا، منذ أن أصبح الإسلام دين هذه المجموعة البشرية التي يطلق عليها اليوم اسم موريتانيا، وانتشرت بانتشار القران الكريم الذي يشكل العبادة والعقيدة، كما اهتم كل مكونات الشعب الموريتاني بنشر اللغة العربية والتي هي جزء لا يتجزأ من هويتهم الإسلامية، من منطلق أن العربية هي لغة القران أي لغة الإسلام وليست لغة العرب وحدهم، كما أن المتكلم أو المثقف بهذه اللغة ليس بالضرورة أن يكون عربيا بالعرق أو الأصل، وإنما العربية هي عنصر توحيد لفكر الشعوب الإسلامية و ثقافتها و مكون جوهري لهويتهم.

 

وقد اتسمت التطور السياسي في موريتانيا بسمات لا تختلف عن البلدان المجاورة من العالم الثالث وخاصة تلك التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي سابقا، حيث بدأت النخبة الحاكم بتغيير الصيغة الدستورية من الأنماط البرلمانية إلى نظام رئاسي، ومن التعددية السياسية إلى الحزب الوحيد ممثلة في حزب الشعب الموريتاني، وصولا إلى دوامة من الانقلابات العسكرية المتتالية، غير أن خصوصية تلك النخبة السياسية الموريتانية هي أنها لم تكن امتدادا بطريقة مباشرة للحركات الاستقلالية،كما أنها تفتقد التجربة النضالية الطويلة، ورغم ذلك لم يمنعهم آنذك من القيام بأدوار مهمة في تجربة الدولة الوليدة سياسيا، من خلال الأنشطة العمالية والنقابية، والنضالات السياسية.

 

وتعد الثراء والتنوع سواء في العادات والتقاليد أو سواء تعلق الأمر باللغات الوطنية الموريتانية هي السمة الأبرز الذي يمتاز بها هذا الشعب الواحد، مما يجعل الناظر في عمق هذا المجتمع يتأكد في النهاية وحدة الثقافة، وهو تقارب يستمد جذوره من أبعاد تاريخية وحضارية مشتركة عبر الزمن، جعلت موريتانيا تنغمس بعمق في روح الحضارة الإسلامية العربية الإفريقية.

 

وعلى العموم يبقى من مسؤولية الدولة تحقيق المزيد من حاجيات وتطلعات الشعب الموريتاني نحو التنمية والنهضة، والدفع بالقوة عجلة بناء دولة وطنية راسخة لجميع مكوناته، تنعم بالاستقرار والعدل، وتصون وحدتها الوطنية، وتحافظ على الثوابت والتراث الحضاري بشكل أكثر رسوخا وتجذرا، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن المرحلة القادمة تطرح علينا أولويات جمة تفرض ضرورة إيجاد في الوقت الحالي حوار وطني شامل لشعبنا من أجل التناغم والتكامل وللتوصل إلى حلول توافقية حول بعض القضايا العالقة، والتي هي مصيرية بالنسبة لأمتنا كالسياسات التربوية وضرورة تفعيل اللغة العربية كلغة للإدارة، وتدريس جميع اللغات الوطنية، وإعطائها المكانة المناسبة داخل المؤسسات الوطنية (مثلا: في الجمعية الوطنية - بدلا من الحديث باللغة الأجنبية) وتدريسهما في مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي، وذلك من أجل ضمان السير المنتظم للبلاد والحفاظ على تماسك شعبه، وتعزيز حضورنا في العالمين العربي والإفريقي. وهذا الحضور هو الذي يجعلنا في نهاية المطاف قادرين على لعب أدوار مهمة، و تقديم الدعم الفاعل لقضيانا الوطنية أي بالدفاع عن مصالح بلدنا، وفي دعم القضايا العادلة للشعوب.

 

قائمة المراجع:

- د. محمد عادل شريح : إشكالية الهوية في الفكر الإسلامي الحديث، دمشق:دار الفكر . 2010.

- د. محمد عابد الجابري: العرب والعولمة: العولمة والهوية الثقافية، تقييم نقدي لممارسة العولمة في المجال الثقافي. مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت. ص: 299 ، 303.

-  د. أبو صلاح الدين: إشكالية التوفيق الحضاري في الخطاب العربي المعاصر قراءة نقدية: في أزمة المثقف، مفاهيم النهضة، الهوية، التقدم والحداثة. ص: 142 – 143.

- د. محمد سعيد ولد أحمدو: موريتانيا بين الانتماء العربي والتوجه الإفريقي دراسة في إشكالية الهوية السياسية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2005 . ص: 150 ، 208

-  حماه الله ولد السالم: المجتمع الأهلي الموريتاني: مدن القوافل (1591 – 1898) . مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: 2008 ص: 65، 103 ، 206.

- د. عبد القادر العلمي: في الثقافة السياسية الجديدة. منشورات الزمن. طبعة ثانية 2013 ص: 156.

- د. محمد الأمين: تأملات حول إشكاليات موريتانية. دار جليس الزمان للنشر والتوزيع. ط:1 - 2010. ص: 77 – 94.

- د. محمد الأمين ولد سيدي: مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا. مركز دراسات الوحدة العربية. ط: 1. 2005 . ص: 105 – 206.

-  الدستور الموريتاني الحالي

- مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية: مستقبل الهوية المغربية أمام التحديات المعاصرة، سلسلة ندوات  تطوان يناير 1997. ص: 147 - 148 -  149.

- د. محمد المختار بن سيد محمد: المجتمع والسلطة في موريتانيا 1961 – 1978، ص: 54.