على مدار الساعة

إلى روح أبى الطاهرة..

25 ديسمبر, 2018 - 13:28
الناجي ولد عبد العزيز

أبكيك ما طلعت شمس وما غربت *** يا خير من أبصرت بين الورى مقلي

وما دموع الذي يبكي على أمل *** من اللقاء كمن يبكي بلا أمل..

 

حين رحلت، ظننت في البدء أنني أعيش كابوسا لن يطول أكثر من غفوة خفيفة، قبل أن تتجلى أمامي تلك الحقيقة التي نسفت قناعتي - التي طالما تشبثت بها - بأن الأحبة لا يرحلون...

 

رحلت عنا... وكنا بك نستجلي معاني الحياة، فأصبحنا نحاول - دون جدوى - أن نسبر غور كنه الموت...

 

الموت الذي لم يكن أبدا شيئا غريبا بالنسبة إليك فقد كنت دائما تنتظره كأنك على موعد محدد معه...

 

 

لقد أدركت الآن وأنا أقف على قبرك الطاهر، كل معاني ألم الفراق... وتذوقت مرارة الفقد وها هو قلبي يسكب عبراته الحرّى فتذرفها عيوني سيولا جارفة...

 

أبي...إن غابت ملامح وجهك الوضاء فستبقى ذكرياتك بحرا تطفو على سطحه الشجون، وتسبح فوق أمواجه الأحزان...

 

كلما استرجعت في مخيلتي صور ابتساماتك المملوءة حنانا، ونظراتك المتدفقة عطفا، شعرت بالانكسار والفشل لعدم قدرتي على ملامستها...

 

فأعود بذاكرتي إلى قاموس حياتك الذي لا يحوي إلا مرادفات الحب والعطف والحكمة والحنان... قاموس تعلمت منه كيف أسير في دروب الحياة دون تيه....

 

تعلمت منه كيف أقوم بعد السقوط.

تعلمت منه التضحية والإيثار...

تعلمت منه كل معاني الصبر والمثابرة...

 

أبي... لقد ظللت طفلا... أستظل بأغصان شجرتك الوارفة، وآوي إليها لأجني منها ما طاب لي من ثمرات الحكمة والمعرفة والمثل، فمن ذا الذي سأسمع منه بعدك، نوادر القصص، وطرائف الأدب، وروائع الأشعار، وجميل المأثورات والمرويات.؟!.

 

من ذا الذي سيزودني بدقيق الأنساب، وخفي القرابات والأرحام؟!

 

من ذا الذي سيريني كيف تكون المحبة والودّ ماء ورد معطّرا يسكب فوق رؤوس الجميع؟! من ذا الذي سيعلمني صلة الرحم وعيادة المريض، والمشي في الجنائز؟!

 

من ذا الذي سيعلمني الإدراج في ظلم الأغلاس وتحت سموم الهجير، وفي زمهرير الشتاء إلى بيوت الله؟!

 

من سيعلمني الإحسان والصدقة من غير رياء؟!

 

لقد كنت طفلا... أتعلم كل يوم شيئا جديدا، وحين رحلت... شخت فجأة، ولم تعد الأشياء هي نفسها كما كنت أراها... ولم تعد للحياة نكهتها، وفقدت الأيام طعمها... فأصبحت كالمسافر في سفينة بلا شراع تمخر عباب بحر هائج...

 

حين غابت شمسك عن حياتي لم يعد لي من ألوذ به... لم يعد لي من أشكو إليه سراب حياتي، لم يعد لدي من يزيل بضوء بصيرته حوالك الظلم عن طريقي... فادلهمّ الكون في عيني، وامتلأت نفسي بالأحزان والآلام، وازداد شوقي إليك كلما تباعدت الأيام... فلم أر صورة تذكرني بك إلا زادتني وجعا وأسى...

 

أبي... بحثت بين معارفك وأصدقاء العمل القدامى والأهل والجيران بحثت كل البحث عن من يطالبك بدين أو حساب، فلم أجده، لكني وجدت من تطالبهم أنت به رغم أنك لم تكن من أهل التجارة والتسليف...

 

ليس لي وأنا ألملم شتات أحزاني إلا أن أرجو الله أن يمنحني العزيمة والصبر على فراقك...

 

سقى الله قبرك يا أبي بما علمت فيك من الصدق والوفاء والطهر والمحبة...

 

أسأل الله الذي أكرمني بمحبتك أن يكرمني برحمتك... وأسأله أن تغشاك تلك الرحمة في وحشة رمسك لتقيم في نعيم الجنان هناك في أعلا عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا...