على مدار الساعة

العلامة ولد التلاميد في عيون تلامذته..

4 يناير, 2019 - 01:59
بقلم: أحمد حسن الزيات

أول ما عرفت الشنقيطي

- 1 - 

كنت في مولد هذا القرن غلاما ناشئا أهوى الأدب وأحفظ الشعر وأعالج القريض. وكان مجلسي المختار يقع في الركن الغربي من الرواق العباسي بالأزهر، في رفقة من الطلَّاب كانوا كأنجم الثريا لا يفترقون لا في الدرس ولا في المذاكرة ولا في الرياضة.

 

وكنا على خلاف إخواننا الأزهريين في ذلك العهد نقرأ الصحف ونغْشي الأندية ونتتبع المعارك الأدبية في الضياء اليازجي ومصباح الشرق للمُويلحيّ، و"المؤَيَّد" لعلى يوسف.

 

وكان حديثنا وحديث المُتأدبين يدور على ما تتناقله الأفواه وتداوله الصحف من الجدل المضطرم الحاد بين الحافظ الحجة الشيخ محمد محمود الشنقيطى وخصومه من علماء الأزهر وأدباء العصر.

 

وكان الشيخ قد هاجر منذ قريب من مدينة الرسول إلى قاهرة المعز فوجد من الإمام محمد عبده لقاء جميلا وعطفا كريما، فأجرى عليه رزقا من الأوقاف، ووكل إليه إحياء الأمهات العربية الكبرى، فنشر المخصص وحرر القاموس وأملى الأراجيز ، وإلى ذلك يشير في رثائه لنفسه من قصيدته الميمية المطولة:

تذكرتُ من يبكي على فلم أجد *** سوى كتُب تُخْتَانُ بعديَ أَو علْمِ

 وغيرَ الفتى المفتي محمد عبده *** صدیقی الصدوق الصادق الود والكلم

فَعُصم العلوم كنت أَنْثُرها له *** إذا اعتَامت أَرواها على كل ذي فَهم

 مُخَصَّصُهَا المطبوعُ يشهَد مُفْصِحًا *** بِحِفظِيَ عندَ الحَذْفِ والبَتْرِ وَالخَرْمِ

 بذا يَشْهَدُ المفْتِي وأصْحَابُ طبْعِهِ *** ولا يكتمون الحقَّ کِتْمَانَ مَنْ يَكْمِي

وقَامُوسُها المشهور يَشهد في الضحَى *** بذاك وفِي بِيض اللَّيالى وفِي الدُّهْمِ

 

وكان الأزهر قد درج طويلا على إغفال اللغة والأدب من مناهجه حتى أدخلهما الأستاذ الإمام في الدراسة الحرة، وجعل دراسة اللغة للشيخ الشنقیطی، ودراسة الأدب للشيخ المرصفي. وكان ابن التلاميد آية من آيات الله في حفظ اللغة والحديث والشعر والأخبار والأمثال والأنساب لا يند عن ذهنه من كل أولئكَ نصٌّ ولا سند ولا رواية.

 

وكان شَمُوسَ الطبعِ حاد البادِرة قويَ العارضة، يجادل عن نفسه بالجواب الحاضر والدليل المفحم واللسان السليط.

 

كان لا ينفك يتحدى رجال اللغة بالمسائل الدقيقة والنوادر الغريبة مستعينا على جهلهم بعلمه، أو على نسيانهم بحفظه، حتى هابوا جانبه وكرهوا لقاءه، وأصبحت حياته سلسلة من الخصومات الأدبية سجَّلها بالشعر اللاذع والنثْرِ القارص في كتابه (الحماسة). وأكثر هذه الخصومات كانت بينه وبين أحمد البرزنجي في المدينة، والنبيلي في تونس (1)"، وحمزة فتح الله وإبراهيم اليازجي وسليم البشرى وعبد الكريم سلمان في القاهرة.

 

اجتمع ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في دار السيد عبد الباقي البکری بجماعة من كبار العلماء يتصدرهم إمام المالكية الشيخ سليم البشرى. فحَلا لبعضهم أن يتحرش به فسأله سؤال المنكر عن رأيه في صرف عمر وخروجه على إجماع النحاة، فقال: إنما صَرفته بالأدلَّة القاطعة والشواهد الصريحة، وخطأت جميع النحويين من سيبويه إلى ابن هشام في قولهم إن عمر ممنوعٌ من الصرف لأنه معدول عن عامر، والحق اليقين أنه جمع لعُمرة وهي الحج الأصغر، وبه سمي عمر ابن الخطاب ومن قبلَه ومن بعده، فهو علم منقول عن جمع نكرة، وما كان كذلك من الأعلام صرف اتباعا لأصله، ككلاب وضِباب وأنصار وأنمار، وجمعت من الشواهد على صرف عمر مائة شاهد ونيفا، منها قول كعب الأشقريّ:

يا أيها الزاري على عُمَرٍ *** قد قلتَ فيه غيرَ ما تَعلمُ

 

ومنها قول بشار العقيلي:

إذَا أيقظتْك حروبُ العِدا *** فنبه لها عُمَرًا ثمَّ نم

 

فقال الشيخ عبد الكريم سلمان: ولم لا يكون التنوين في بيت بشار للضرورة، وتكون الرواية في بيت كعب بالفتح المدود لا بالكسر المنون؟ فقال له في حِدَّةٍ عصبية ولهجة مغربية: إنك بالعروض أجهل منك بالنحو، ومثلك لا يناقش.

 

فهم بالرد الشيخ سلمان، ولكن الشيخ البشری مال بالنقاش إلى جهة يراه القوم فيها واحد الآحاد وهي السنة.

 

فقال للشنقيطي: إنك تلبس خفين أسودين وذلك من لباس النصارى.

 

فقال له إنما ألبس ما كان يلبس الرسول. أما أنتم فتلبسون الخفاف الحُمرَ وهي لباس نساء المغرب، والخفاف الصفر وهي لباس نساء المشرق، فأنكر البشري أن يكون الرسول صلوات الله عليه قد لبس خفين أسودين ، وقال إن الإجماع منعقد على خلاف ذلك.

 

فرد عليه بأن رواية الأثبات تثبت أن النجاشي أهدي إلى الرسول خفين أسودين فلبسهما. ثم انفجر عليه بما روی الترمذي وابن ماجه وأبو داود والبيهقي، يؤديه عن ظهر قلبه كأنما كان يتلو من كتاب. فلم يجد الشيخ البشري رحمه الله درءا لهذا السيل إلا أن يطعن في الرواية والرواة، وانتقلت الجادة من دار البكري إلى دور الصحف، فكتب الشيوخ. ورد الشيخ، واستطار بينهم الخلاف أكثر العام فسماه الناس "عام الخفين الأسودين".

 

- 2 -

ترامى إلى مجلسنا بالرواق ذات ليلة أن الشيخ الشنقيطي قد نشر كتابا سماه (الحماسة السنية، الكاملة المزية، في الرحلة العلمية الشنقيطية التركزية) صدرها بطولةٍ له في خمسة ومائتي بيت من بحر الطويل وقافية الميم مطلعها:

ألا طرقت ميٌّ فتى مطلع النجم *** غريبا عن الأوطان في أمَم العُجْم

 

روی فيها حديث سفره إلى مدينة استوکهلم عاصمة السويد إجابة لدعوة ملكها أوسكار الثاني ليشهد مؤتمر المستشرقين الثامن الذي اجتمع بها في سنة 1309 هـ، فوصف الرحلة ومدح الدَّاعی وذكر جملة من أمر حياته ورحلاته وتحقيقاته، ثم ختمها برثاء نفسه وسرد لأسماء أشهر القبائل العربية جريا على المنهج الذي اقترحه عليه سفير السويد بمصر الكونت کارلودی لندبرج، وهو مستشرق سمى نفسه (عمر السويدى) ونشر بعض المخطوطات العربية كشرح دیوان زهير للأعلم الأندلسي الشنتمری. وكان الشيخ يومئذ في الآستانة فسافر إليها ليلقاه ويدعوه. فشرط عليه الشيخ بعد إذن الخليفة عبد الحميد الثاني أن يصطحب ثلاثة من علماء العربية ومؤذنا من المتعلمين وطاهيا من المسلمين. فأجابه إلى ما شرط. ولكن الرحلة لم تتم لأسباب يعرفها قصر الخلافة.

 

كان الشيخ لا يبيع هذا الكتاب وكان يهديه إلى من يُحسن إلقِاءة فيه من طلاب العلم أمامه. وكنت في ذلك الحين هش العود لا أظنني أثبتُ على عَجْمِهِ فتفاديت ذلك الحرج بنظم قصيدة في مدحه من بحر قصيدته وقافيتها. ثم حملتها متوكلا على الله وذهبت إليه. وكان صديقي الطيب الذكر محمود حسن زناتي قد سبقني إليه فأثبت قدرته وأخذ نسخته. فصحبني إلى داره وقت الأصيل - وكانت بأول شارع الباطنية من حي الأزهر - فدخلناها فإذا هي دويرة ذات طابقينِ صغيرين ونصف طابق فوق السطح كان يسكنه هو وزوجه وخادمه. صعدنا إليه. في درج براه الزمن وعوجه فلا تستقر علیه قدم. ودخلنا عليه ردهة غير مسقوفة انسدلت على نافذتها ستارة فلا تطلع على غيبها عين.

 

كان جالسا على فروة بيضاء فوق کلیم انبسط على نصف المكان وانتشرت على حواشه بعض الأدوات المنزلية.

 

لم أكن رأيت الشيخ من قبل. كان شخصا يَنْصَرُّ كما يقولون في صُرَّة: هيكَلٌ ضئيلٌ، وبدَنٌ نَحِيلٌ، ووجه ضامرٌ، ولون أخضَرُ، وصوتٌ خَفِيضٌ. فمن يره أول مرة لا يصدق أن هذا الجرم الصغير قد جاب البر والبحر، وطاف الشرق والغرب، وكافح الأنداد والخصوم، ووعي صدره الضيق معاجم اللغة وصحاح السنة ودواوين الشعر وعلوم الأدب.

 

وكان يلبس قفطانا أبيض من القطن، ويرتدي جبة دکناء من الصوف، ويعتم عِمامة مكية قد أرخى لها عذبة على ظهره. فلما رآنا هَش بعينه وبش بفمه، فقبلنا يده ثم جلسنا بين يديه. كان كل ما في الردهة يَرف بالهدوء ويشف عن النظافة، فلا حس ولا حركة ولا هباءة إلا ما يقع في أسماعنا من أصوات الباعة على بعد. وكانت الخادم الحبشية العَجوز قد أقبلت في سكون وأدب بأكواب الشاي الأخضر فشربنا. ثم أخرجتُ القصيدة من جيبي وأخذت أتلوها في رجفة خفية وهيبة ظاهرة، والشيخ يستمع ولا يظهر على مخايل وجهه البربريّ ما ینم على استحسانه أو استهجانه؛ حتى بلغت إلى قولي منها:

رفعت درَفْسَ الدين بالعلم والتقى *** وصُنْت لسان العُرب بالحفظ والفهم

فقال: ما الدِّرَفْسُ؟ قلت: الراية. فقال: أتحفظ شاهدا عليها؟ قلت: نعم، قول البحتري:

والمنايَا موائلٌ وأَنُوشَرْو ** *وانُ يُزجي الصفوفَ تَحْتَ الدِّرَفْسِ

فقال: أحسنتَ، بارك الله فيك. وانتهت التلاوة والزيارة بأخذ النسخة. ثم لزمته بعد ذلك إلى أن فارقنا إلى لقاء ربه.

 

لزمته أنا وأربعة أو خمسة من الرفاق فكنا نصلى معه الجمعة من كل أسبوع في الجامع الأزهر. ثم نجلس أمامه بالجانب الأيمن من المنبر فنقرأ عليه ساعة وبعض الساعة ثم ينصرف إلى داره، قرأنا عليه كتابه (الحماسة) ثم ديوان المعلقات. وكانت طريقته في التلقين أن يعني بدقة الضبط وصحَّةِ الرواية، فلا يشرح لفظا ولا يفسر معنى إلا إذا سألناه.

 

ومن النوادر التي أذكرها أن طالبا ممن كانوا معنا كانت فيه سذاجة وغفلة. وكانت إحدى عينيه مظلمة. وكان أحدنا  يقرأ مطولة الشيخ الأولى وفيها قوله:

إلى مثلهَا يصبو الحليم صبابةً

فقال الطالب: إن هذه الشطرة مسروقة من معلقة امرئ القيس.. فقال الشيخ في غضب وحدة: المسروقة عينك العوراءُ إن للعرب أبياتنا وأشعارا شاعت شیوع الأمثال فلكل شاعر أن يستعملها كقولهم:

وقوفًا بها صَحْبِي علَيَّ مَطِيَّهُمْ.

وقولهم:

تبَصَّر خليلي هل ترى من ظعائِن.

وقولهم:

فدعها وسَل الهم عنك بحسرة

وهذا من ذاك.

 

كذلك أذكر أن الشيخ كان كلما انفلت من صلاة الجمعة دعا بالشيخ إمام السقا خطيب الجامع الأزهر في تلك الأيام، وكان رجلا طاهر القلب ظاهر الورع. فإذا جاءه أخذ يعنفه أشد التعنيف على اقترافه الكذب على الرسول بما أورد من الأحاديث الموضوعة في خطبته. ثم لا يخليه حتى يستغفر الله ويتوب..

 

فلما تكرر هذا الموقف كان الشيخ السقا يتحاشاه فلا يكاد يخرج من الصلاة بالتسليم حتى يخرج من المسجد بالركض!

 

رحم الله الشيخ ومن جرى ذكرهم معه من الشيوخ، وجزاه الخير وجزاهم على ما قدموا للغة القرآن وفقه السنة وعلم العربية من حسن القول وإخلاص العمل وصدق الغيرة.

 

الهوامش

1 - كان موضوع الخصومة بينه وبين أديب المدينة وعالم تونس أنهما لحنا الإمام مالك رضي الله عنه في قوله باب النذور من موطئه: (وعليه هدى: بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد إلا هي) فهما يقولان: إن مقتضى الظاهر أن يقول : إن لم يجد إلا إياها ، وهو يقول: إن وجَد معني غنِي من الوُجد وهو الغِنَي فلا تحتاج إلى مفعول، وقد أفردوا في المسألة مؤلفين، مؤلفا لهما ومؤلفا له.

 

المصدر: في ضوء الرسالة. أحمد حسن الزيات ص: 247 – 252  الطبعة الأولى: 1963، ملتزم الطبع والنشر مكتبة نهضة مصر بالفجالة شارع كامل صدقي.