على مدار الساعة

المراجعة الدستورية في موريتانيا: قراءة في الأبعاد القانونية [1]

15 يناير, 2019 - 03:00
الدكتور / الحسين محمد جنجين - أستاذ متعاون بجامعة انواكشوط العصرية - ​​​​​​​hosseine.med@gmail.com

مقـدمـــــة

من المعروف أن الدستور هو مجموعة القواعد القانونية التي تحدد التنظيم السياسي في دولة معينة، أو بمعنى آخر هو مجموعة القواعد القانونية التي تُنظم كيفية ممارسة السلطات وتكفل الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات وتشتمل على القيود والحدود التي لا يجوز للسلطات أن تتعداها في ممارسة صلاحياتها. وإن هذه القواعد الدستورية تقع في قمة سلم التدرج الهرمي للنظام القانوني في الدولة، حيث مختلف القواعد القانونية (التشريعات) تتسلسل في ثلاث درجات: أعلاها الدستور (التشريع الأساسي)، وأوسطها القانون بمعناه الخاص (التشريع العادي)، وأدناها الأنظمة (التشريع الفرعي). ويؤدي هذا التدرج إلى وجوب تقيد التشريع الأدنى بالتشريع الأعلى وعدم مخالفته، فالقانون يجب أن يتقيد بالدستور ولا يخالفه، وكذلك يجب على الأنظمة أن تتقيد بأحكام الدستور والقانون ولا تخالفها.

 

وفي هذا الإطار تتدرج القواعد القانونية من الأعلى إلى الأسفل بالنظر إلى السلطة التأسيسية التي تضع القاعدة القانونية، فالدستور الذي هو من عمل السلطة التأسيسية أي الشعب، أو من يمثله، يمثل الهرم القانوني، ويأتي بعد ذلك القانون النظامي، ثم القانون العادي وهو من صنع السلطة التشريعية، وهي مرتبة أدنى من السلطة التأسيسية وتتدرج فيما بعد القواعد إلى اللوائح فالقرارات وأخيرا المنشورات والتعميمات...

 

إن سُمو الدستور يُعد من النتائج الهامة لمبدأ المشروعية في الدولة Le principe de la légalité وهو أهم مظهر من مظاهره، ولما كان المقصود من مبدأ المشروعية (أو سيطرة حكم القانون) هو خضوع الجميع، سواء كانوا حكاما أو محكومين، لسيطرة حكم القانون، فإن المقصود بمبدأ سمو الدستور هو خضوع هؤلاء لأحكام الدستور.. وإذا كان مبدأ المشروعية يُلزم الجميع باحترام أحكام القانون، فإن مبدأ السمو يُلزمهم من باب أولى باحترام أحكام الدستور باعتباره القانون الأسمى في الدولة. فما المقصود بمبدأ سمو الدستور؟ كيف لهذا السُمو أن يضمن عدم تجاوز المبادئ الدستورية؟ وهل الدستور الموريتاني كغيره من الدساتير المُقارنة حدد مجالات يجب أن لا تطالها المراجعة الدستورية تحصيناً واحتراماً لأحكامه العامة؟.

 

أولا: تأكيد مبدأ سمو الدستور

يقصد بمبدأ سمو القانون الدستوري أن يحتل الدستور مكان الصدارة بالنسبة لباقي القوانين المنظمة للعلاقات الاجتماعية داخل الدولة ، ويتعين على جميع السلطات الحاكمة احترامه والتصرف في إطاره والتزام الحدود التي وضعها.

 

وهذا المبدأ لا يعرف طريقه إلى التطبيق إلا في الدول الديمقراطية التي تعترف بوجود القانون والدستور، والتي ترفض الاستبداد ، والعنف، ويتضمن مبدأ سمو الدستور التسليم بمبدأ آخر هو مبدأ الشرعية، وخضوع الدولة للقانون. فقواعد الدستور تأتي في المرتبة الأولى وتعدوا بذلك على ما عداها من قواعد قانونية في الدولة وتلك هي معايير الدولة القانونية ووفقها يلتزم الحكام بممارسة سلطاتهم في النطاق المحدد والمرسوم لهم بموجب الدستور. وفي جميع الحالات يقتضي الأمر خضوع الحاكمين والمحكومين على حد سواء لأوامر القانون[2].

 

وسيادة الدستور تتسم بصفة الازدواجية، من حيث الموضوع ومن حيث الشكل. فسمو الدستور الموضوعي يجد سند له بالرجوع إلى موضوع القواعد الدستورية ومحتواها، وهي ميزة تنفرد بها جميع أنواع الدساتير المكتوبة منها والعرفية. ويعني السمو الموضوعي للدستور أيضا انفراده بالمرتبة العليا دون غيره من القواعد القانونية بالرجوع إلى طبيعة قواعده التي يقوم عليها النظام السياسي للدولة، فعدم الاعتراف لهذه القواعد بالمكانة العليا أو مخالفتها معناه انهيار نظام الدولة.

 

أما السمو الشكلي للدستور فإنه يجد مرجعيته في الطريقة والإجراءات التي يتم بها وضع وتعديل القواعد الدستورية. وبذلك فهذا السمو لا يتحقق إلا في الدساتير المكتوبة وهي مسألة أمر تحقيقها غير وارد في الدساتير العرفية. وخاصية السمو الشكلي للدستور لا يمكن الحديث عنها إلا عندما يتطلب تعديل وإلغاء الدستور مساطر وإجراءات وأشكال تختلف عن تلك التي يُعتد بها لتعديل وإلغاء القوانين العادية. ويسمى هذا النوع من الدساتير بالدساتير الجامدة، أي التي لا يجوز تعديلها بقانون عادي أو بالطريقة التشريعية العادية، عكس الدساتير المرنة التي يمكن تعديلها بالطريقة التشريعية العادية. والدستور بالرجوع إلى مضامينه، تأكيد بكونه الأساس الذي يقوم عليه بنيان الدولة، ونظامها القانوني المُلزم لكافة الهيئات والسلطات العمومية التي أنشأها.

 

إن دستور 20 يوليو 1991 ذا القوة الخارقة للصمود والذي يتوخى التوفيق بين الإسلام والديمقراطية مع إقامته لنظام رئاسي شبيه إلى حد ما بالنظام الأمريكي، وكذا اقتباسه لبعض سمات دستور فرنسا لسنة 1958. يبقى بإجراءاته المعقدة صامدا أمام من يطالبون الرئيس الموريتاني المنتهية ولايته منتصف العام 2019 بتعديل دستور البلاد وفتح المجال لتجديد المأمورية الرئاسية إلى فترة ثالثة خلافا لما ورد في المادتين: 26 و28 (جديدتان) من القانون الدستوري رقم: 2006/014 الصادر بتاريخ: 12 يوليو 2006 المتضمن إعادة العمل بدستور 20 يوليو 1991 كدستور للدولة مع تعديل بعض مقتضياته، حيث ركزت هذه المراجعة الدستورية الأولى على تقليص الفترة الرئاسية من سبع إلى خمس سنوات، وعلى تحديد مدة الرئاسة بمأموريتين.

 

إنهم بذلك يدعون إلى خلق الفوضى بتجاوز المبادئ الواردة في الوثيقة الدستورية الموريتانية والتعديلات التي أُجريت عليها في سنوات: (2006 و 2012 و 2017)، وهم بذلك أيضاً يدفعون بسلطة الدولة متمثلة في شخص رئيس الجمهورية أو قوة الإدارة السياسية لنظامه إلى انتهاك حرمة الدستور.

 

فهل لهذه القوة أن تعلو على إرادة الشعب الذي هو مصدر كل السلطات؟[3]. أليس في الأمر مخالفة لليمين الدستورية؟!!. التي أداها رئيس الجمهورية قبل تسلمه مهامه طبقا للمادة: 29 (جديدة) من الدستور الموريتاني التي نصت على أن: (يؤدي رئيس الجمهورية وظائفه بإخلاص وعلى الوجه الأكمل، وأن يُزاولها مع احترام الدستور وقوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية... ويقسم بالله العلي العظيم ألا يتخذ أو يدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و 28 من هذا الدستور).

 

إن فعلا كهذا الذي دعت إليه جماعات المصالح المناطقية أو الزبونية الجديدة[4] يُظهر بجلاء أن السياسة في موريتانيا لا تختلف عند الحكام السابقين عن غيرهم من الأنظمة الأخرى التي حكمت البلاد منذ نشأة الدولة الوطنية. ولعل مرد ذلك يعود إلى جملة من الظواهر الاجتماعية التي ترسخت في الوعي الجماعي لشعبنا وهي تفعل فعلها بكل قوة؛ ومن بين هذه الظواهر (سيادة الاعتبارات القبيلة، الفساد السياسي، وتأسيس الحكام على أنقاض سابقيهم،). فالقبيلة كظاهرة اجتماعية تسود في الكثير من بلدان العالم الثالث وتشكل عائقا أمام الممارسة السياسية. فالفرد في المجتمعات القبلية يكون مُقسم الولاء بين انتماءين (قبلي وسياسي) وهذه الازدواجية النكدة تسبب الكثير من الحرج كما تحول دون ممارسة سياسية واعية مرجعيتها المبادئ والأفكار السليمة والتجارب الناجحة.

 

هذا فضلا عن بناء شرعية كل نظام جديد على تضخيم أخطاء النظام السابق له واعتباره "شرا مطلقا" وأن النظام الجديد جاء لاستئصال هذا الشر، ليتطلب الأمر إعادة تشكيل الخارطة السياسية بعد ترسيخ شرعية النظام الجديد على أنقاض النظام المُطاح به[5]. وغالباً ما يعمد النظام الجديد إلى محاولة إعادة ترتيب الأدوار، وخلق طبقته السياسية التي يوطد من خلالها أركان حكمه، ويعتمد في ذلك على مبدأ الولاء، والمتتبع للشأن الموريتاني لا يجد كبير عناء في ملاحظة هذا السلوك. ولعل هذه القاعدة تمثل مُقوماً جوهرياً في صياغة سلوك المجتمع تجاه السلطة، بل وأكثر من ذلك ساهمت هذه القاعدة بشكل كبير في تحديد سلوك المسؤولين السياسيين والإداريين في التعاطي مع الشأن العام، كما أنها كانت سبباً مباشراً في أحد أهم تجليات الأزمة السياسية الموريتاني – أزمة النخبة– وذلك لحلولها محل الآليات التقليدية لدولة النخبة، فالنخبة في موريتانيا تتم صياغتها وفق أولويات النظم في تدعيم وترسيخ سلطتها، لا وفق مبدأ الدورية القائم على أساس الحراك الاجتماعي[6]. وهكذا أصبح الكلام على أزمة مزمنة تصيب الطبقة السياسية فجر كل انقلاب، سبباً لتسابق بيانات التأييد والمساندة كلما تأكدت سلطة الحكام الجُدد، وتوزع هذه الطبقة للعب الدور المطلوب منها في تشويه نظام كانت جزء منه، وإضفاء الشرعية على من انقلبوا عليه، وهذا كله وفق منظورين هما: "الخوف المفرط والطمع المفرط"[7].

 

ثم إن تحليل أبعاد الظواهر السابقة يُظهر أن العلاقة بين الدولة والمجتمع غير سوية ، لأن الديمقراطية الموريتانية عبارة عن تجربة تمارسها النخبة الحاكمة من دون بقية أفراد المجتمع، فلم تغر التجربة الديمقراطية الموريتانية السواد الأعظم من المجتمع بتبني الديمقراطية كوسيلة تمكن المجتمع من مراقبة الدولة، الأمر الذي أصبحت معه الديمقراطية الموريتانية مجرد أداة تستخدمها الدولة لمراقبة الشعب من أجل توجيهه لما تراه في مصلحتها ويضمن استقرارها[8]. أو أنه من جهة أخرى لا يزال مفهوم السياسة غير واضح لدينا ذلك أن مجتمعنا لا يفرق في الغالب بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي، كما أن الغلبة فيه تكون دائما للاجتماعي على حساب السياسي. وفضلا عن ذلك يمكن القول بناء على تحليلات الواقع السياسي العام إن نهج سياسة "الغاية تبرر الوسيلة" في تعاطي الخطاب السياسي الرسمي أو ما يفهم من تصرفات الأنظمة السياسية وبعض القوى الحزبية الوطنية يُفسد السياسة في موريتانيا ولا يمكن أن يكون وسيلة ناجعة للقضاء على الفساد والمفسدين.

 

إن تلازم ظاهرتا القانون والسلطة هو محل إجماع رجال الفقه، فالقانون أداة السلطة السياسية في حكم المجتمع، ذلك أن السلطة تمارس بالقوانين ، لذلك وبالنظر إلى ما عرف لدى الجميع من تعارض بين السلطة والحرية فإن القانون الذي هو أداتها يتعارض بطبيعته مع الحرية متى تعاملنا مع المفهومين بمعناهما الواسع والمطلق واللا محدود. لهذا السبب، وباعتبار السلطة ضرورة تحتمها الحياة الاجتماعية في ظل نظام تسهر عليه من أجل تحقيق الصالح العام، فإننا لا نجد غرابة في أن الإنسان عمل عبر التاريخ جاهدا من أجل تقييد هذه السلطة. وقد قطع في ذلك مراحل عديدة ومهمة يؤرخ لها تطور الفكر القانوني والسياسي، هذا الذي انتقل من تبرير الحكم المطلق في المدنيات القديمة، إلى تأسيس السلطة على مرتكزات دينية لا يجد الفرد معها من بديل سوى خيار الخضوع للتأويلات التي تؤسس عليها السلطة. وهنا قد يطرح التساؤل عن أساس سلطة الدولة بناء التلازم الذي أشرنا إليه؟.

 

ثانيا: أصل سلطة الدولة

لعل أهم ما يثير الانتباه في هذا المجال هو تعدد المقاييس، والنظريات الفقهية، لتحديد أصل نشأة سلطة الدولة، فجانب من الفقه جسد أصل سلطة الدولة في القوة أو القدرة المادية، فالطبقة القوية وفق هذا الاتجاه تفرض سلطتها على باقي الطبقات. والتاريخ القديم والحديث على حد سواء يشهد بهذه الفرضية التي تتبلور بالخصوص عند الطبقة المنتصرة في حرب أو في ثورة، أو في انقلاب.

 

ويرى جانب آخر من الفقه أن أصل الدولة هي الأسرة، وذلك بالنظر إلى كون الأخيرة هي الخلية الأساسية في المجتمع فتعدد الأسر أدى إلى تكوين العشائر، التي أصبحت قبائل لكل منها رئيس خاص، وهو ما أدى في مرحلة متطورة من تاريخ البشرية إلى تكوين المدينة السياسية المنضوية تحت لوائها عدة قبائل، كما أن تطور واتساع هذه الأخيرة جعلها في مرحلة زمنية جد متطورة تتشكل بمفهومها العصري، فالمصدر الأول للسلطة في الدولة وفق هذا البناء الفكري، هو رب الأسرة[9]. هذا وتتعدد المذاهب في تفسير أصل الدولة (Origine de l’Etat). ويمكن رد هذه المذاهب إلى أصول وأسس عامة، دينية، وفلسفية واجتماعية، وتاريخية.

 

ومن بين تلك المذاهب يستند الحديث عن فكرة السلطة كظاهرة قانونية سياسية واجتماعية وتاريخية في أساسه على نظرية رئيسية هي "نظرية العقد الاجتماعي" وبذلك وُجدت الدولة مُسندة إلى هذا العقد الذي تم بين أفراد الجماعة عند إنشائهم للمجتمع السياسي والذي تتولد عنه إرادة عامة <<Volonté générale>> هي إرادة المجموع أو إرادة الأمة صاحبة السلطة على الأفراد جميعا. ويعتبر ذلك العقد مصدر الدولة والسلطة العامة فيها[10].

 

تُنسب هذه النظرية إلى الفيلسوف الفرنسي ((جان جاك روسو)) « Jean-Jacques Rousseau » مع أنه ليس أو القائلين بها فقد سبقه إلى ذلك كثيرون من الفلاسفة ، ورجال الفكر والدين ، ولكن العلة في نسبة النظرية إلى روسو أنه خير من عرضها بوضوح وعبر عن آرائه و آراء من سبقوه بأسلوب ثوري رائع في كتابه الشهير المسمى ((العقد الاجتماعي)) الذي مهد للثورة الفرنسية ، وأثر في رجالها تأثيرا بالغا حتى أنهم وصفوه بإنجيل الثورة[11].

 

وفحوى نظرية العقد الاجتماعي حسب ما تقدم ومن ناحية تفسيرها لنشأة الدولة أن أصل الدولة يرجع إلى الإرادة المشتركة لأفراد الجماعة <<Volonté collective de société>>  أي أن الأفراد اجتمعوا واتفقوا على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا ، ومعنى ذلك أنهم اتفقوا على إنشاء دولة. فالدولة وجدت نتيجة عقد أبرمته الجماعة.

 

هذا وقد كان فلاسفة القرن الثامن عشر، لاسيما هوبس ، لوك ، روسو ، اعتبروا أن مصدر السلطة أساسه الشعب، وعملوا خصوصا بعد سقوط الكنيسة على تجريد السلطة من طابعها الديني ، لتعطي للحكام في صورة عقد. وتجدر الإشارة هنا ، أن فكرة العقد الاجتماعي إذا كان الفكر الغربي يربطها بهؤلاء، فإنه من باب الإنصاف وللموضوعة العلمية التذكير أن الإغريق ومن بعدهم الفكر الإسلامي، كانوا أول من أكد على أن الأمة هي أساس ومصدر السلطات، والتعاقد يتم بين الأمة والحكام، وموضوع العقد محدد. والحاكم ملزم عند مباشرته لسلطاته العمل على تحقيق الصالح العام، وليس له تعدى هذه الأحكام وإلا أصبح من واجب الأمة إعفاؤه من مهامه[12].   

باعتبار الدستور ليس نصا جامدا أو مقدسا، إذ هو قابل للتعديل كلما كانت حاجة المجتمع إلى ذلك حسب الزمان والمكان، فإن أي مراجعة جديدة وتعديل له قد تطرح أمامها عديد الأسئلة عن الظروف، الخلفيات السياسية والأبعاد القانونية؟. فمثلا دستور 20 يوليو 1991 يستمد أهميته من الظروف التاريخية التي جاء فيها، حيث تم وضعه في ظرف كانت فيه البلاد تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي، وكبت الحريات العامة، وكان التشاؤم يطبع نظرة الكثيرين حول مستقبل النظام العسكري في هذا البلد، لذلك شكل وضع هذا الدستور حدثا هاما على مستوى الحياة السياسية في موريتانيا وإعادة الأمل إلى نفوس المواطنين بإمكانية الرجوع إلى العهد المدني والعيش في ظل تجربة ديمقراطية تصان فيها كرامة الفرد ويسمح له بممارسة حقوقه وحرياته العامة[13].

 

والجدير بالذكر هنا أنه لم يكن لدستور 1991 تعديل واحد ، بل عرف عدة تغييرات متباينة الأبعاد. فأي ظرف إذا يستوجب مراجعة وتعديل دستور أنهكته ثلاثة تعديلات متلاحقة بمسوغات أحيانا ما تثير التساؤل؟.!!. ولعل هذا التساؤل يُحيل إلى آخر أساسي يبحث في طرق وضع الدساتير وكيفية مراجعتها؟.

 

ثالثا: أساليب وضع الدساتير

من المعروف أن هناك عدة طرق لوضع الدساتير بعضها غير ديمقراطي كطريقة صدور الدستور في شكل منحة من الحاكم[14] وطريقة التعاقد بين الشعب والحاكم، وبعضها ديمقراطي كأسلوب الجمعية التأسيسية التي تكون منتخبة أو معينة من طرف الحكومة، وإذا كانت غالبية الفقهاء تسلم بديمقراطية طريقة الجمعية التأسيسية المنتخبة، فإن ديمقراطية أسلوب الجمعية المعينة محل خلاف بين أساتذة القانون الدستوري، إذ يشكك البعض في أنها ديمقراطية نظرا لعدم اختيار الهيئة التي تتولى وضع الدستور عن طريق الانتخاب وبهذه الطريقة وضع الدستور الموريتاني لسنة 1991[15] حيث تم تعيين لجنة من طرف رئاسة الجمهورية عُهد إليها بمهمة إعداد مشروع الدستور.

 

وعلى المستوى الدستوري نميز بين نوعين من المراجعة، إما تعديل كلي أو جزئي للدساتير وهذه المسألة منظمة بالدستور وليست عفوية، بل إن الدساتير عادة ما تفرد للمراجعة الدستورية بابا خاصا. فمثلا الدستور الموريتاني لسنة 1991 خص بذلك الباب الحادي عشر منه: حول مراجعة وتعديل الدستور، والأمر كذلك بالنسبة لدستور فرنسا للجمهورية الخامسة الصادر بتاريخ: 14 أكتوبر 1958 حيث تعرض لذلك في الباب السادس عشر: حول تعديل الدستور، أما بالنسبة لدستور المملكة المغربية لعام 2011 فقد أفرد لذلك الباب الثالث عشر تحت عنوان: مراجعة الدستور.

 

والمراجعة كيفما كانت مرتبطة بالسلطة الفرعية التي يخول لها الدستور صلاحية المراجعة. والإشكال الذي يُطرح في هذا الصدد يكمن في البحث عن: المؤشرات المعتمدة للتمييز بين التعديل الكلي والجزئي؟ فهل التجربة الدستورية الموريتانية عرفت ثلاثة دساتير منذ تأسيس الكيان الموريتاني في أول جمهورية؟ أم لديها دستور واحد تمت مراجعته لأكثر من مرة؟.

 

لذا فلنميز بين المراجعة الكلية أو الجزئية لابد أولا أن نُميز بين المساطر المعتمدة، وثانيا نرصد مضمون المراجعة والمدى التي تصل إليه. فالمراجعة الكلية تتطلب أن تعرض كل الوثيقة الدستورية على سلطة المراجعة، أي الاستفتاء الشعبي، سواء في موريتانيا، فرنسا، أو المغرب وإسبانيا، هنا يتعلق الأمر بمراجعة كلية. في حين إذا عُرض فصل واحد للمراجعة فإنها تكون مراجعة جزئية لأن فصلا واحد من فصول الدستور هو الذي تمت مراجعته وتم عرضه على الاستفتاء الشعبي.

 

وإذا أخذنا بهذا المعيار هل نقول إن موريتانيا عرفت 3 دساتير وليس دستورا واحدا في حين تجربة 2006[16] التي أضافت تحسينات من شأنها تعميق الديمقراطية، والسماح بالتناوب على السلطة، كتقليص مدة الرئاسة إلى خمس سنوات وتحديد سن 75 سنة كحد لمن يترشح لرئاسة الجمهورية ، وعدم إمكانية انتخاب رئيس الجمهورية لأكثر من مرة واحدة، ومنع الشروع في أي إجراء يرمي إلى مراجعة الدستور... وغير ذلك في المواد: (26، 27، 28، 29، 99). ثم مراجعة 2012 التي ركزت على تعزيز حقوق الإنسان وتجريم الانقلابات العسكرية، مراجعة المدونة الانتخابية، تعزيز رقابة البرلمان على الحكومة، وإعادة تشكيل المجلس الدستوري... (الفقرة: 4 جديدة، مدرجة بديباجة الدستور والمواد الجديدة: 2، 13، 42،52، 68، 81، 89، 96، 97 )، ذلك أنه في الحالتين معا تم عرض مواد دستورية معينة على المراجعة وليس النص بكامله وبقي الدستور الجاري به العمل هو دستور 20 يوليو 1991 بالنسبة للمراجعة الأولى وفي المراجعتين: (الثانية 20 مارس 2012 والثالثة 05 أغسطس 2017).

 

هذا عكس ما يراه أستاذنا د/ سيدي محمد بن سيد أب اعتبارا منه أن الذي جاء به الأمر القانوني رقم: 2006 – 014، الصادر بتاريخ: 12 يوليو 2006 ليس تعديل دستوري، وإنما هو دستور جديد للبلاد. ولكن إذا أخذنا بمدى وأفق التعديل سندخل في مناقشات أخرى فتصنيف وتحديد هل التعديل كلي أم جزئي يقترن بجوهر وفلسفة الدستور، هل تم تغييره؟ هل التغيير يغير طبيعة النظام القائم والتوازنات الدستورية؟. إذا كان كذلك فإننا نكون أمام تعديل كلي دون الأخذ بعين الاعتبار المسطرة ، أما إذا كان التعديل لم يمس طبيعة النظام الدستوري ولم يغير مضمونه نكون أمام تعديل جزئي.

 

إذا فالتعديلات التي وردت على الدساتير الموريتانية عدا دستور 22 مارس 1959 الذي لم يستمر طويلا لكونه وضع في فترة الاستقلال المحلي الذي عرفته البلاد خلال الفترة ما بين (1958 - 1960)، لم تمس فلسفة وجوهر دستور 1991 ولم تغير من طبيعة النظام الدستوري القائم. كما أنه لم يتم المساس بالهندسة الدستورية فترتيب الأبواب لم يتغير، وإنما التغيير حصل في زيادة عدد أعضاء المجلس الدستوري إلى 9 بدلا من 6 في السابق، وعلى مستوى الاختصاص لم يتغير، حذف الغرفة الثانية للبرلمان الموريتاني (مجلس الشيوخ) والإبقاء على غرفة واحدة هي: (الجمعية الوطنية)، الارتقاء بلجنة حقوق الإنسان إلى مؤسسة دستورية استشارية، وإضافة المجال البيئي إلى اختصاص المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مع إحداث مجلس أعلى للفتوى والمظالم وتجريم ظاهرتي العبودية والانقلابات العسكرية... وكذا تغيير العلم والنشيد الوطنيين (المادة: 8 جديدة).

 

إلا أن هذا لم يغير كذلك من جوهر فلسفة الدستور وجميع المؤسسات حافظت على موقعها ولم تفقد الدور الذي كانت تحظى به في كافة الدساتير. كما أنها لم تفقد شرعيتها منذ دستور 1991 ولم تتغير مكانتها، فقد حافظت على التوازنات التي انطلق منها أول دستور للبلاد. فهناك عقلنة برلمانية بحصر اختصاصات البرلمان. لكن قد يُثار التساؤل عن من يمتلك حق المبادرة بالمراجعة؟. وما هي المسطرة المعتمدة في ذلك؟. وهل لتلك المراجعة من حدود؟.

 

خامسا: المبادرة بالمراجعة

تُخول المادة: 99 (جديدة) من الدستور الموريتاني لرئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور. والأمر كذلك بالنسبة للتشريع الفرنسي حيث تنص: المادة: 89 من دستور فرنسا لسنة 1958 على أنه: ((لرئيس الجمهورية، بناء على اقتراح من رئيس الوزراء. ولأعضاء البرلمان، كل على حدة، الحق في المبادرة بطلب تعديل الدستور))، غير أن اقتراح الوزير يظل شكليا. وعلى هذا النحو سار المشرع المغربي في دستور 2011 (الفصل 172 من الباب الثالث عشر) حيث يخول للملك ولمجلسي النواب والمستشارين حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور، ويُعطي للملك الحق في أن يعرض على الاستفتاء، المشروع الذي اتخذ المبادرة بشأنه.

 

كما أن المادة: 166 تمنح حق المبادرة بالمراجعة للحكومة والكونغرس ومجلس الشيوخ حسب الدستور الإسباني الصادر في ديسمبر 1978، ويضيف كذلك جمعيات المناطق المستقلة ذاتيا التي يمكنها التقدم كذلك بطلب مراجعة الدستور.

 

وبالرجوع للمادة: 99 من الدستور الموريتاني حسب التعديل الدستوري الأخير 2017 نجد أن الحق في التقدم بطلب المراجعة مشروط بالحصول على توقيع ثلث النواب (3/1) على الأقل وبتصويت ثلثا (3/2) أعضاء الجمعية الوطنية ليتسنى تقديمه للاستفتاء. والأمر كذلك بالنسبة للتشريع المغربي حيث »يشترط لصحة الموافقة على مقترح مراجعة الدستور الذي يتقدم به عضو أو أكثر من أعضاء أحد مجلسي البرلمان تصويت ثلثي أعضاء كل مجلس« . وحتى وإن توافرت تلك النسبة المشروطة فإن مشاريع واقتراحات المراجعة التي يتقدمون بها ينبغي عرضها وجوبا على جلالة الملك الذي له صلاحية النظر فيها لعرضها على الشعب قصد استفتائه فيها.

 

هذا ولم تتخذ الدساتير موقفا موحدا من الجهة التي تملك حق اقتراح التعديل، فبعض الدساتير جعل هذا الحق من اختصاص الجهاز التنفيذي وحده، ومن أمثلة ذلك دساتير فرنسا لسنوات: 1814، 1848، 1875، 1958. وقد يجعل الدستور هذه المهمة من صلاحيات الجهاز التشريعي كما كان مقررا في دساتير فرنسا: 1791، 1793، 1795، 1946، نجد ذلك في الدساتير التي عملت على تقوية السلطة التشريعية[17]. كما قد يكون حق اقتراح المراجعة مشتركا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا ما تعرضنا له في الحالات السابقة بما في ذلك الحالة الموريتانية الواردة في المادة: 99 السالفة الذكر.

 

المطلب الثاني: مسطرة المراجعة

إن الغاية من إقرار مسطرة المراجعة تكمن في ضرورة التوفيق بين حماية الدستور من جهة التعديلات التعسفية مع السعي إلى عدم منع التغييرات الضرورية، وعليه فسواء كان الهدف هو حماية الدستور أو ضرورة السماح بالتعديلات الأساسية فإن المساطر تختلف، الشيء الذي جعل المراجعة مسألة صعبة. فمن هو الجهاز المختص إذا؟ وما هي أبرز المساطر المتبعة بصدد المراجعة الدستورية؟.

 

تُظهر التجارب الدستورية لمختلف دول العالم أن الجهاز الذي يأخذ المبادرة بقصد مراجعة الدستور ليس بالضرورة أن يكون دائما هو الذي يعمل على إقراره، ذلك أن تلك التجارب عادة ما تبرز أن إقرار التعديل يمكن أن يُخول إلى أجهزة مختلفة وذلك كأن يُناط إلى البرلمان أو إحدى غرفه وهذه الطريقة تعتبر الأكثر شيوعا. وفي الولايات المتحدة يكون اللجوء إلى جمعية خاصة منتخبة من أجل مراجعة الدستور (الجمعية التأسيسية) وهي نفس القاعدة التي أخذت بها فرنسا في دستور 1848. وأيضا يمكن أن يُعرض مشروع المراجعة الذي تم إعداده سواء من قبل البرلمان أو الحكومة أو الجمعية التأسيسية على الشعب عبر الاستفتاء كما جرى في المراجعة الدستورية الأخيرة لدستور 20 يوليو 1991 الموريتاني خلال الخامس من أغسطس 2017، وكذلك في تعديلات دستورية سابقة عرفتها موريتانيا.

 

وإذا كان اتخاذ المبادرة باقتراح تعديل الدستور هو حق لكل من رئيس الجمهورية والملك، وأعضاء البرلمان بغرفتيه في فرنسا والمغرب ، وحق الحكومة وأعضاء البرلمان بغرفتيه والمناطق المستقلة ذاتيا في إسبانيا. فإن مسألة إقرار التعديل أو مسطرة هذه المراجعة تختلف من دستور لآخر[18].

 

ففي موريتانيا إذا كان الدستور قد اشترط للمراجعة الدستورية، كما سبق في المادة: 99 (جديدة) تصويت ثلثا (3/2) أعضاء الجمعية الوطنية ليتسنى تقديمه للاستفتاء. فإن المشرع الموريتاني عاد في المادة: 100 من الدستور ليعتبر مراجعة الدستور نهائية إذا نالت الأغلبية البسيطة من الأصوات المعبر عنها في الاستفتاء. وتأتي المادة: 101 بشرط آخر هو أنه : ((لا يُـقدم مشروع المراجعة للاستفتاء إذا قرر رئيس الجمهورية أن يعرضه على البرلمان مجتمعا في مؤتمر. وفي هذه الحالة لا يصادق على مشروع المراجعة ما لم يحصل على ثلاثة أخماس (5/3) الأصوات المعبر عنها. ويكون مكتب المؤتمر هو مكتب الجمعية الوطنية)).

 

وفي المغرب ينص الفصل: 174 من دستور 2011 على أن: »تُعرض مشاريع ومقترحات مراجعة الدستور، بمقتضى ظهير على الشعب قصد الاستفتاء. تكون المراجعة نهائية بعد إقرارها بالاستفتاء«. فلا يمكن إقرار مشروع أو مقترح التعديل إلا عن طريق الاستفتاء. ذلك أن مراجعة الدستور تعتبر من المجالات التي تمارس فيها الأمة السيادة مباشرة تطبيقا للفصل: 2 من الدستور المغربي. بينما نجد الدستور الفرنسي يقر إمكانيتين لإقرار الدستور، الأولى تتمثل في دعوة رئيس الجمهورية مجلس البرلمان لعقد جلسة مشتركة ويتم إقراره بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المعبر عنها.  وهذه الإمكانية لا يمكن اللجوء إليها إلا إذا كان الرئيس هو الذي اتخذ المبادرة بتعديل الدستور بناء على اقتراح الوزير الأول. أما الإمكانية الثانية التي يتيحها الدستور فهي اللجوء إلى استفتاء الشعب بشأن مقترح تعديل الدستور، وتتاح هذه الإمكانية فقط إذا كان التعديل مقترحا من طرف أعضاء أحد مجلسي البرلمان.

 

أما الدستور الاسباني فيشترط موافقة ثلاثة أخماس أعضاء كل غرفة من غرفتي البرلمان على المراجعة، وإذا لم يتم ذلك يتم إنشاء لجنة مكونة من عدد متساو من النواب والشيوخ لإعداد وتقديم نص يصوت عليه كل من الكونغرس ومجلس الشيوخ، وإذا لم تتم الموافقة على المراجعة فإن مجلس النواب وبأغلبية الثلثين يمكننه أن يصادق على المراجعة، ليتم عرضها من طرف الكورتيس على الاستفتاء من أجل المصادقة عليها استنادا للمادة: 167 من دستور 1978، حيث يتولى الملك الدعوة للاستفتاء.    ونتيجة الاستفتاء في كل من موريتانيا وفرنسا والمغرب وكذا اسبانيا هي التي تحدد إقرار التعديل من عدمه، وهي نتائج لا يمكن التراجع عنها أو إلغاؤها.

 

سادسا: حـــدود المـراجعـة الدستورية

زيادة على الإجراءات المسطرية التي ينبغي أن تخضع لها كل مبادرة قصد مراجعة الدستور، فإن جمود الدستور يقتضي كذلك حدودا معينة للمراجعة، بمعنى أن الدساتير التي توصف بأنها جامدة تحظر إجراء مراجعة للدستور خلال فترات معينة، كما أنه قد تمنع ذلك بالنسبة لبعض النصوص الوارد فيه والتي تتناول بعض المقتضيات. فقد حدد كل من دستور موريتانيا والمغرب وفرنسا مجالات لا يمكن أن تكون محط اتخاذ مبادرة بالتعديل من جميع الأطراف التي تملك هذا الحق.

 

الفقرة الرابعة من المادة: 99 من الدستور الموريتاني المراجع أخيرا 2017 حددت ستة مواضيع يُحظر المساس بها، كما يحظر الشروع في أي إجراء يرمي إلى مراجعتها وهي التي جاءت في نص المادة السابقة كما يلي: ((لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمي إلى مراجعة الدستور. إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصيغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة.))

 

والدستور المغربي الجديد لعام 2011 نص هو الآخر في الفصل: 175 على أنه: ((لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الديمقراطي للأمة، وبالمكتسبات في مجال الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في هذه الدستور)). وتنص المادة: 89 من الدستور الفرنسي لسنة 1958 على أن: ((الشكل الجمهوري للحكم لا يمكن أن يكون محلا للتعديل)).

 

ويعتبر منع التعديل الذي أقره كل من دستور موريتانيا 1991 والدستور المغربي 2011 ودستور فرنسا 1985 منعا موضوعيا حيث إنه يهم مواضيع معينة ومحددة على سبيل الحصر لا يمكن تعديلها أو الاقتراح بتعديلها. بينما الدستور الإسباني لم ينص عل أي مجال لا يمكن أن يتم تعدله تعديله واكتفي في المادة: 169 منه بالنص عل أنه: (لا يمكن أخذ مبادرة المراجعة الدستورية في زمن الحرب ولا في الحالات المنصوص عليها في المادة: 166). وهذه الحالات هي: (الإنذار ، الاستثناء ، الحصار). وجاءت المادة: 98 السالفة الذكر من الدستور الفرنسي بالنص على أنه: (لا يمكن البدء أو الاستمرار في أي إجراء لتعديل متى كان هناك اعتداء على سلامة الأراضي).                       

 

تجدر الإشارة إلى أن أغلبية الفقه لا تفهم من جمود الدستور أنه وثيقة أبدية أو لا يجوز أي تعديل نص فيها فهذا المعنى مستبعد من معنى الجمود المتبادل في مؤلفات القانون الدستوري وإنما المقصود هنا هو تحريم نسبي، أي نسبي من حيث الزمان فيكون التحريم قاصرا على فترة زمنية محددة أو نسبي من حيث الموضوع أو بعض نصوص الدستور وليس كلها.

 

- من حيث الحظر الزمني: يتعلق الأمر بحدود المراجعة من حيث الشكل، وتتجلى عندما يمنع الدستور المراجعة خلال فترة زمنية معينة بعد دخولها إلى حيز النفاذ أو خلال فترات معينة كحالة الحصار أو حالة الحرب كما في المادة: 169 السابقة من الدستور الإسباني، أي يقتصر فقط على عدم جواز إجراء تعديل على أي نص أو مادة طوال فترة زمنية معينة تقدر بأنها مدة كافية لنفاذ أحكام الدستور وثباتها وتحقيق الهدف الذي وضعت من أجله. والهدف هو حماية الدستور فترة من الزمن لا يجوز خلالها اقتراح تعديل أحكامه.

 

- من حيث الحظر الموضوعي: فيقصد به حماية أحكام معينة من الدستور، بحيث لا يجوز تعديلها، نظرا لكونها تشكل الحجر الأساس في النظام السياسي الذي يقيمه الدستور، ولاعتبارات خاصة وتاريخية وسياسية[19]. ويعني هذا النوع من الحظر تقرير حصانة لبعض أحكام معينة في الدستور لا يجوز تعديلها مطلقا، ولعل الحكمة أن واضعي الدستور يرون أن تلك القواعد تؤلف كيان الأمة وتعتبر جوهرية وأساسية في بناء الدولة ونظام الحكم أكثر من غيرها، ولذلك فإن السلطة التأسيسية واضعة الدستور تريد إبعاد أي تعديل محتمل يمسها أو يهدها لضمان استقرارها الأبدي، وذلك كما هو الشأن بالنسبة للدستور الفرنسي لسنة: 1958 الذي لا يسمح بمراجعة النظام الدستوري في الدولة.

 

إن هذا المنع أو الحظر الموضوعي الذي يستثنى بعض المقتضيات من أية مراجعة يعني الاعتراف بأن هناك بعض المعايير أو القيم تتمتع بقيمة ومشروعية متعالية على الدستور، وبالتالي الاعتراف بسلطة أعلى من السلطة التأسيسية، وهذا السمو يجد أساسه ومصدره في القانون الطبيعي أو في القانون الدولي الخاص ما يتعلق منه بالحقوق والحريات الأساسية.

 

وتأسيسا على هذا التصور توجد فعلا قيود على السلطة التي تراجع الدستور بما أن بعض المبادئ لا تمس وسابقة على الدستور نفسه. هنا يبقى التساؤل مطروحا هل يمكن مراجعة فصول المراجعة التي أشرنا إليها في تجارب الدساتير المقارنة السابقة بما فيها الدستور الموريتاني؟.

 

عندما نتحدث عن هذه الوضعية لابد من الأخذ بعين الاعتبار التميز بين السلطة التأسيسية الأصلية  «Pouvoir Constituant Originair» والسلطة التأسيسية المنشأة أو الفرعية «Pouvoir Constituant Dérivé»  فهذه الأخيرة مفوضة من قبل الأولى. وهذا التفويض جزئي مع تحديد المواد التي لا يمكن التصرف فيها. فهل من حق السلطة الفرعية التي خولتها السلطة التأسيسية إمكانية المراجعة، مراجعة فصول المنع من المراجعة؟؟. في هذا الصدد نميز بين: المراجعة الكلية أو التعديل الكلي، والتي يمكن من خلالها مراجعة المادة: 99 من دستور موريتانيا 1991 والفصل: 175 من الدستور المغربي 2011 باعتبار التعديل الكلي يقيد النظر في الطبيعة الدستورية والنظامين الجمهوري والملكي. أما التعديل الجزئي فلا يؤدي إلى تغيير ثوابت النظام السياسي، وبالتالي لا يمكن مراجعة الفصل 175 بالنسبة للمغرب والمادة: 99 على مستوى موريتانيا.

 

خاتمة

يمكن أن نخلص بالقول في هذا الصدد إن الدساتير الجامدة لا يمكن تعديلها إلا وفق إجراءات محددة، وترمي الدول من ذلك إلى توفير نوع من الثبات والاستقرار للقواعد الدستورية التي تقوم فيها، وإلى ضمان نوع من المكانة السامية لها.

 

وإذا كان الفقه قد اختلف في مدى مشروعية النصوص التي تمنع تعديل بعض فصول الدستور أو تمنع تعديله كليا ، يبقى أن الضمانة الأساسية التي تكفل بقاء وسمو الدستور هي مدى تمسك الأمة بأحكامه ودفاعه عنها وحرصها على استمراريتها ، وخير دليل على ذلك سمو الدستور الفرنسي لسنة 1875 (الجمهورية الثالثة) الذي بقي معمولا بمقتضياته حتى 1940 نتيجة احتلال الألمان لفرنسا رغم ما كانت تتيحه نصوص هذا الدستور من إمكانية تعديله كله أو بعضه في أي وقت، فواقع الحياة السياسية لا يمكن صياغته وفق مشيئة واضعي الدساتير، فالأمة تبقى الحكم الأخير في مثل هذه الأمور، فكلما ففقدت الدساتير دعم الأغلبية أصبحت متجاوزة.

 

والإرادة العامة للجماعة مستقلة عن إرادة كل فرد على حدة، وتتميز بأنها مظهر لسيادة المجتمع، وهي التي تعبر عن تلك السيادة، ويترتب على ذلك أن المجتمع صاحب السيادة والسلطان لا يستطيع التصرف في هذه السيادة بالتنازل عنها لأن السيادة – كما ذكرنا– ما هي إلا إرادة المجموع والإرادة بطبيعتها تفنى وتزول بمجرد انتقالها، ومن ثم فإن الشعوب لا تستطيع أن تتنازل عن سيادتها، والحاكم (أيا كان لقبه) ما هو إلا خادم للشعب ووكيل عنه يعمل باسم الشعب وبإرادته. وبقاؤه في الحكم مرهون برضائه عنه.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) - حاصل على شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة عبد المالك السعدي - كلية الحقوق - طنجة - المغرب.

[1] - يُمثل هذا المقال جزءا من دراسة قيد النشر حول موضوع: "تعديل الدستور بين سلطة الدولة وقوة القانون".

[2]  - الدكتور محمد يحيا، الوجيز في القانون الدستوري للمملكة المغربية، مطبعة سبارطيل – طنجة ، الطبعة الخامسة: 2010. ، ص: 55.

[3] - تنص المادة: 2 من دستور 20 يوليو 1991 على أن: "الشعب هو مصدر كل سلطة".

[4] - ورد هذا المصطلح في مؤلف: الدكتور محمد الأمين ولد سيدي باب، مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، أيلول/ سبتمبر 2005. ويمتد المصطلح ليشمل تكوين جماعات التنسيق لمنحدري الولايات حيث تتأسس جماعة على أساس الانتماء المشترك لولاية واحدة ويطلق عليها في الحديث العامي ((جماعة أهل آدرار، أو جماعة أهل القبلة، أو جماعة أهل الشرق)). للتعرف على بداية تبلور هذه الجماعات، أنظر المؤلف المذكور، خاصة الفصل العاشر منه حول: النخب السياسية وجماعات المصالح الوطنية.

5 - لعل سياسة التأسيس على الأنقاض هي ما دأبت عليها تجارب الأنظمة السياسية في موريتانيا، ويمكن التعرف على أحد نماذج هذه التجارب على سبيل المثال لا الحصر. من خلال مراجعة كتاب: الدكتور/ محمد الأمين ولد سيدي باب،"مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا"............. مرجع سابق: الصفحة: 464 وما بعدها 

[6] - أنظر: محمد ولد دده: النظام الموريتاني وإشكالية الشرعية. المجلة العربية للعلوم السياسة، العدد: 29 – شتاء 2011. الصفحة: 51.

[7] - محمد ولد دده: النظام الموريتاني وإشكالية الشرعية.....................، نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.

[8] - راجع: الدكتور محمد الأمين ولد سيدي باب، "الانتماء والموضوعية في الموقف السياسي الموريتاني"، النجم – 5 تموز يوليو 2004، ص: 10.

[9] - الدكتور محمد يحيا، الوجيز في القانون الدستوري للمملكة المغربية، مطبعة سبارطيل – طنجة ، الطبعة الخامسة: 2010. ص: 86 و 87.

[10] - يفرق بعض الكتاب بين العقد الاجتماعي الذي أنشأ الجماعة السياسية (أي الدولة) والعقد السياسي الذي نشأ السلطة التي تتولى الحكم. وقد أشار إلى هذه التفرقة "جان جاك روسو" إذ ذكر أن البعض ((مثل بو فندورف)) يذهب إلى القول بأنه يحسن بنا قبل أن نبحث في كيفية اختيار الشعب لنفسه ملكا أن نعرف أولا كيف صار الشعب شعبا لأن هذا العمل الأخير السابق بطبيعته على العمل الأول هو بحكم الضرورة الأساس الصحيح للجماعة.

   ولكن "روسو" - ومعه غالبية الكتاب - يرفض هذه النظرية ولا يفرق بين هذين العقدين ويطلق عبارة العقد الاجتماعي على كليهما. والواقع أن التفرقة لا مبرر لها ولا أساس. فالذي يمكن ملاحظته أن عقدا واحدا هو الذي ينشىء الدولة والسلطة فيها ويتم ذلك في آن واحد ، ولا يستقيم أمر النظرية على نحو غير ذلك ، فمن أركان الدولة وجود سلطة سياسية ((حكومة)) فكيف يمكن القول بوجود الدولة دون توافر هذا الركن؟ ، إن الذي يحدث هو الاتفاق على إيجاد السلطة ، وبمجرد وجودها تنشأ الدولة في الحال وذلك بعد أن توافرت الأركان اللازمة لنشأتها وتكوينها، أما القول بأن الدولة توجد أولا ثم توجد السلطة التي تتولى الحكم فيها بعد ذلك بمقتضى عقد آخر. مثل هذا القول غير سليم ، وينطوي على تناقض.

   أنظر: مؤلف ديراتيه عن: ((روسو وعلم السياسة في عصره)) سنة 1950 . ص: 100 ، 120 ، 222 ، 247 ؛ ويعرض فيه لنظرية "بو فندور" في ازدواج العقد بمعنى أن الدولة نشأت على مرحلتين بمقتضى عقدين: الأول وجدت به الجماعة المنظمة والثاني وجدت بمقتضاه الحكومة. والعقد الأول يتم برضاء أفراد الجماعة ومن لا يقبل الموافقة عليه يستمر خارجا عن الجماعة ، أما العقد الثاني فإنه يتم برضاء غالبية أفراد الجماعة فلا يشترط فيه موافقتهم الاجتماعية.

[11]  - أنظر: الدكتور: محمد كامل ليلة، النظم السياسية "الدولة والحكومة" ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، بيروت لبنان 1969. ص: 48 و 85.

[12] - أنظر: الدكتور محمد يحيا، الوجيز في القانون الدستوري للمملكة المغربية، مطبعة سبارطيل..................... ، مرجع سابق. ص: 88.

[13] - أنظر: د/ سيدي محمد بن سيد أب. التجربة الدستورية الثالثة في موريتانيا ، المجلة الموريتانية للقانون والاقتصاد. العدد: 15 (2001 ، 2002) ، ص: 3.

[14]  - مثل الدستور المصري لسنة 1923 الذي منحه الملك فؤاد في شكل أمر ملكي، والدستور الإثيوبي لسنة 1936 الذي منحه الإمبراطور هيلا سلاسي دون أن يعرضه على أي جهة أخرى للمصادقة عليه,

[15]  - وبهذه الطريقة أيضا وضع الدستور المغربي لسنة: 1962.

[16]  - هذه التجربة التي يعتبرها أستاذنا د/ سيدي محمد ولد سيد أب دستورا جديدا ، وإن كانت لا تختلف كثيرا من حيث طبيعة النظام السياسي الذي أسسه دستور 1991 والتوازن بين الأجهزة الدستورية الذي أرساه. راجع بهذا الصدد: مقالا له بعنوان: الإصلاحات الدستورية الأخيرة في موريتانيا: قراءة في الخلفيات السياسية والأبعاد القانونية،........... مرجع سابق. ص: 89 ، 91.

[17] - يمكن أن ينظر في هذا الصدد مبحثا خاص بتعديل الدستور، في كتاب الدكتور: سيدي محمد بن سيدي أب، النظرية العامة للقانون الدستوري والأنظمة السياسية، شركة الطباعة والتمثيل التجاري (سيرك ش.م) ، الطبعة الثانية: 2008. ص: 68 وما بعدها.

[18]  - يمكن بشأن المراجعة الدستورية، الرجوع إلى محاضرات أستاذنا: الدكتور: محمد العمراني بوخبزة. حول: "القانون الدستوري والأنظمة الدستورية الكبرى خلال سنوات: (2009 / 2010 و 2014 / 2015).

[19] - يمكن مراجعة موضوع الحظر في مؤلف الدكتور: سيدي محمد بن سيدي أب، النظرية العامة للقانون الدستوري والأنظمة السياسية،.............. مرجع سابق. ص: 69 وما بعدها.