على مدار الساعة

التحية والسلام عندنا

20 يناير, 2019 - 23:25
بقلم الدكتور محمد محمود أحمد محجوب

مِنَ الصِّفاتِ النَّمَطيّةِ للإنسانِ البدويِّ – ونحنُ قومٌ حديثو عهدٍ بالبداوةِ - انتهاجُه الطابعَ الاستِعجاليَّ في سُلوكه القَوْلِيِّ وغيرِ القوليِّ، وابتعادُه عَنِ التَّأنُّق والأنَاةِ في التَّعبيرِ اتِّساقًا معَ نَمَطِ حياتِه المتَّسِمِ بالانتجاعِ وعدمِ الاستقرارِ.

 

*

تِلْكَ قاعدةٌ عامّةٌ تَجِدُ الاستثناءَ منْها في ظاهرةِ التَّحيةِ والسلامِ؛ فقد جاءَ في تقريرٍ لإحدَى شركاتِ الاتصالِ المحليّةِ أنَّ الوقتَ الذي يُنفِقُه أَحَدُنَا، في تبادُل التحيَّة معَ مٌخاطَبه عَبْرَ الهاتفِ، يَفوقُ أحيانًا الوقتَ الذي يخصِّصُه للمهِمَّةِ الدافعةِ له إلى الاتصالِ الهاتفيِّ. فما السِّرُّ في ذلك؟

 

**

#التَّحِيَّةُ مُشتقَّة من _ الحياةِ، ومن معانيها: البَقاءُ. وهي – "فِي كَلامِ العَرَبِ - ما يُحَيِّي بِهِ الناسُ بعضهم بَعْضًا إِذا تَلاقَوْا" (معجم التاج) مثل: "صباح الخيرِ"، و"عِمْ صبَاحا"، و"حيَّاك الله، وَلَكَ الْبُشْرَى، وَلَقِيتَ الخَيْرَ" (معجم الفروق).

 #والسَّلامُ معناه الأمانُ. وهو أخصّ من التحية؛ إذ لا بُدَّ فيه من لفظِ "السَّلام"، ولهذا كانت عبارةُ: "السلام عليكم تُصَنَّفُ سلامًا وتحية معًا.

 

ويُصاحبُ التحيةَ القوليّةَ، عندنا، أنماطٌ من السُّلوك العمليِّ تَشملُ – إضافةً إلى المصافحةِ -: العناقَ، والانحناءَ، ووضعَ اليدِ على الكتِفِ... غير أنّ التحيةَ القوليَّة هي وجهتُنا.

 

*

باستقراءِ ما جاء في القرآنِ الكريمِ والآثارِ، إجمالّا، نَجِدُ الاقتضابَ هو السُّمةَ العامّةَ للتحيةِ، ونلحظُ أنها #تُلْقَى إلقاءً كأنّها إعلَانُ أَمَانٍ، ومَدخَلٌ سريعٌ إلى ما بعدها. قال الله تعالى – حاكيا عن الملائكة وإبراهيم عليه السلام-: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالبُشْرَى، قَالُوا: سَلَامًا قَالَ: سَلَامٌ، فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ" (سورة هود: 69) وقال: {فَقَالُوا: سَلامًا، قَالَ: سَلامٌ، قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} (سورة الذاريات: 25).

 

**

فَمَا بَالُنَا – ونحنُ في عصْرِ السرعةِ - نُطيلُ التحيةَ ونُعَرِّضُها؟ ونَمُطُّها، ونَزيدٌ فيها، ونَقْصدُ إلى ذلك قصْدَا؛ إذ نقول: "اشْطاري گاعْ"؟ بعد قولنا: "اشطاري"؟ عمْدا إلى الاستقصاءِ، واستدعاءً للمسكوتِ عنه من المخاطبِ؟

 

أَذَلِكَ استمراءٌ منا للحديث؟ أم أداء لدَوْرٍ اجتماعيِِ حضاريٌّ؟

 

***

ربما كانَ الجوابُ أنَّنا وجدْنا آباءَنا على أمّةٍ وأنَّا على آثارهم مقْتدون؟ نعَمْ، هذا صحيح، ولكنٍّه غيرُ كافٍ؛ إذْ يُوَجِّه السؤالَ نحو صياغةٍ جديدةٍ، هي: لماذا كانَ آباؤنا يُطيلون التحيةَ والسلامَ؟

 

هلْ:

1) لأنَّ ساكِنَ الصحراءِ في صراعٍ وجوديٍّ مَعَ بيئتِه، والمخاطرُ الطبيعيةُ والاجتماعيةُ تتهدَّده في ممساهُ ومصبحهِ؟ فهو - عندما يُطيلُ التحيةَ - التي هيَ مشتقَّةٌ من الحياةِ كما سبَقَ - ويُكْثرُ السؤالَ، ضمنَها، عنِ الحال إنما يعبِّر، تعبيرا غير واعٍ، عن تلك المخاطر، ويحاولُ مواجهتَها في بُعْدَيْنِ اثنينِ:

- #بُعْدٍ_شَخصيٍّ يَحِلُّ فيه الشخصُ المُحَيّا مَحَلَّ الذاتِ التي تحَيّيه اعتبارًا بوحدة التهديدِ وتشارك المصير.

- #بُعْدٍ زَمَنِيٍّ تَلعبُ فيه الأسئلةُ عن الحال(مثل: أشحالكم؟، إياك لا باس؟، إياك الخير؟، إياك معافيين؟، إياك مانكم حاسين ابش؟ ... ) دورَ مواجهةِ المخاطرِ في #الزمنالحاضرِ، ويَلعبُ فيه الدعاءُ مثل (يعطينا ويعطيكم العافية، الله يسلمك،...) دورَ مواجهتِها في #المستقبلِ. والبٌعدانِ معًا يَعكسانِ تَشَبُّثًا واضحًا بالحياةِ في بيئةٍ جُلُّ ما فيها يَتهدَّد الحياةَ.

 

2) أم أن الأمرَ يمثِّل في الأصلِ احتفاءً مبالغا فيه بالضيفِ؛ تعويضًا عن قِرى مناسبٍ قد يكونُ مَنَعَ منه شُحُّ المواردِ وشَظَفُ العَيْشِ، فكان طولُ السلامِ - المصحوبِ بطلاقةِ الوجهِ وبشاشته - مُشعرًا للقادِمِ بمقامِه، ورافعًا الحرجَ عن المستضافِ؛ لأنَّه طَبَّقَ مبدأَ:

#فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إن لَمْ تُسْعِدِ _ الحَالُ؟

 

3) أم لأنّ الأنشطةَ في البيئةِ الصحراويةِ محدودةٌ عادةً، ولا تُغَطِّي الزمنَ الذي يُؤطِّرُها؟ ولإحداثِ ضرْبٍ من التوازنِ بين فائضِ الوقتِ ومحدوديةِ الأنشطةِ يَعمدُ أبناءُ تلك البيئةِ إلى استغلالٍ أيّ حدثٍ استغلالًا يتجاوزُ حجمُه المعتادَ سدًّا لفراغاتِ الزمنِ. وما التحيةُ – وهي نشاطٌ اجتماعيٌّ متجدّدٌ – بٍبْدْعٍ في ذلك.

 

4)أم لأن اندِياحَ المكانِ واتساعَه يَجعلُ سُكّانَ الصحراءِ يَشعرون بالتباعُد رغْم تقاربِهم، فيكونُ في تطويل التحيةِ تقصيرٌ للمسافاتِ المتصوَّرَة وتقليصٌ للأبعادِ المتوهَّمَة؟

 

5) أم لأنّ العلاقاتِ،بين الأفراد، في الوسَط البدويّ، تَتِّسمُ بالترابُطِ والتلاحم الشديدين، فتكونُ التحيةُ الطويلةُ إحدى الوسائلِ للتعبيرِ عن ذلك بما تتضمنه من مظاهر المودة، وبما يُرافقُها من ابتسامٍ وعباراتٍ ناعمةٍ تَشي بالتقارُبِ والتَّواشُجِ؟

 

6)  أم لأنّ الأسئلةَ الكثيرةَ التي تتَسلَّلُ إلى التحيةِ، فتتضخَّمُ التحيةُ بسببها، مَرَدُّها الفضولُ وابتغاءُ الحصولِ على المعلومةِ والخَبَرِ في بيئةٍ ليس فيها بريدٌ، ولا وسائلُ اتصالٍ. لنلاحظْ التركيزَ على هذا الجانبٍ من خلالِ عباراتٍ مِن قبيلٍ: (اشْطارِي؟) (ماهَلَّ ما طارِي شِ؟) (اشْ رَيْتُ طارِي؟) (اشطاري كاع؟ ...)؟

 

7) أم لأنّ الإنسانَ "السَّائبَ" يَعشقُ الكلامَ؛ فيَنْبَرِي إنتاجًا له عند أدْنى سًبَبّ؟

 

**

لا يستطيعُ المرءُ الجزمَ بالعاملِ الحقيقيُّ المُوَلِّدُ لظاهرةِ طولِ التحيةِ قديمًا، وَرُبَّمَا كانتْ نتيجةَ عدّةِ عواملَ مشترَكَة، لكنّ محافظةَ الظاهرةِ على نفسِها في زمنٍ تزاحمتْ فيه الأنشطةُ، وتسارعتْ فيه حركةُ الزمنِ، وأضْحى الإنسانُ فيه مكَبَّلا بالأعباءِ والالتزاماتِ يُثِيرُ أسئلةً عن علاقتها (أي ظاهرة  طول التحية) بالوَعْيِ بأهمية الوقتِ على الرغم ممّا لها من أبعادٍ اجتماعيةٍ إيجابيةٍ. فهل نحكُم لها أم عليها؟

 

الأمرُ متروكٌ للقارئِ الكريمِ.