على مدار الساعة

بين السفر والسياسة في وطننا

5 فبراير, 2019 - 07:41
بقلم الدكتور محمد محمود أحمد محجوب

أثارتِ الظروفُ الراهنةُ للبلَدِ فَيْضا من الجدَل السياسيّ لا يُضاهِيهِ إلا انتِعاشٌ ملحوظٌ لما أَضْحى يُعرف بظاهرةِ "الانتجاعِ السياسيّ" التي مؤدّاها: امتلاكُ بعضِ سياسِيِّينا مهاراتٍ عاليةً في سُرعة التَّكيُّفِ والتَّنقُّلِ بينَ الكياناتِ السياسيّةِ: أحزابًا وجماعاتٍ ومؤسساتٍ عَلَى وَجْهٍ ظَهَرَتْ بِهِ النُّخْبَةُ السياسيةُ كأنَّها مجموعةٌ من الأفرادِ مَرَدُوا على السَّفَرِ في "مَسَالِكِ السياسةِ ومَمَالِكِها" فهل مِنْ عَلاقة بين "السَّفَرِ"  و"السِّياسَةِ"؟ 

 

***

#السَّفَرُ_ضربان:

1) سفَرٌ تقْتضيه العِبْرِةُ وحُبُّ الاستكشافِ والنُّزوع إلى السّياحة. ومنه السَّيْرُ في أصقاعِ المعمورةِ تَعَرُّفًا على حاضرِ الشعوبِ وماضيها. 

ويَغْلبُ على مَن يُسافرُ هذا السفرَ أن يَشعرَ بالمتْعة، ويَنْعَمَ - على الرغْم مِن مُواجهةِ بعضِ الأخطارِ - بالاستِجْمامِ وراحة النفْسِ.

 

وبالنَّظرِ إلى أنّ الدافعَ وراءَ هذا النوعِ من السفَر ليسَ الحاجةَ المعتادةَ فإنّه يُمكنُ تسميتُه: "سفَرَ اعتبار".

 

2) سفَر تقْتضيه الحاجَةُ - وهو الغالبُ - كالضَّرْبِ في الأرضِ ابتِغاءَ العَيْشِ الكريم، والعُزوبِ عنِ الدِّيارِ طلَبًا للعلْمِ، ونحو ذلك.

 

وهذا الضرْبُ مِن السفَرِ الغالِبُ عليه المشقَّةُ (السّفرُ قِطْعةٌ من العذابِ)؛ لأنّ فيه تَحمُّلًا للأعباءِ، ونهوضًا بالمسؤولية الذاتيةِ أو الجماعيةِ.

 

ونظرا لأن الدافعَ إليهِ الحاجَةُ فإنّه يَسوغُ تَسميته: "سفَر مَصالِح".

 

***

#والسياسة_أيضا_ضربان: 

1) سياسةٌ قائمةٌ على #مبادئ نظريّةٍ صُلْبَةٍ، وعقائدَ وقناعاتٍ راسخةٍ يَكونُ العمَلُ السياسيُّ الممارَسُ انعكاسًا لها، وتطبيقًا عمليًّا لمضمونها، ويُكَيَّفُ السّلوك الخارج عنها ليُوائمَها بوجهٍ مِن أوْجُه التَّأويلِ.

 

 وهذا النوعُ من السياسيةِ فيه راحةُ للضّميرِ وسُموُّ للنَّفْسِ، وإن كان لا يَخْلو مِن بعض التحديات ِوالمخاطرِ.

 

2) سياسة تقوم على #المنافع، وإن لم تعدمْ - في خطابِها التّسويقي - غِطاءً أخلاقيًّا يُشَرِّعُ أهدافَها وغايتَها.

 

ويَسْهُلُ على السياسيِّ - في ظلِّ غيابِ المبادئِ التي تكبحُ جِماحَهُ – الانتقالَ "بسرعةٍ" بينَ دوائرِ النُّفوذِ والأُطُرِ الحزبيّةِ بحثًا عنْ مصلحةٍ ذاتيةٍ أكبر.

 

لا غُبارَ – في عالَم السياسةِ - على هذا السلوكِ ما لمْ يَكُنْ صادمًا (كأن يَكون الانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكسِ)، أوْ يَكُنْ خارجًا على الذَّوْقِ والأعرافِ السياسية القارّة بحكم #كثرته. وهنا مربِطُ الفرسِ.

 

***

تبرزُ المشكلةُ في أن التشابه الجزئي بين مفهومي "السفر" و"السياسة" - على مستوى التصنيف - أضحى تطابقا - بوجه ما - في فكر بعض نُخَبِنا السياسية وسُلوكها. فــــــ:

1) السفر انتقال عبر المكان، والسياسة - عند هؤلاء - انتقال عبر #الولاء_والانتماء.

 

2) السفر قطع للمسافات، والسياسة قطع للالتزامات والتعهدات وتملص منها.

 

3) السفَر يُتَخَفَّفُ فيه من المتاعِ والأثقال، والسياسة يُتَخَفَّفُ فيها من حِمْلِ المُثُل وعِبْءِ القِيَمِ.

 

4) السفَر سَيْرورَةٌ دائمةٌ لا تَنتهِي إلّا بالمحطّةِ الهدفِ، والسياسةُ سيرورةٌ دائمةٌ بين "محطاتِ"، وكلُّ مَحَطَّةٍ فيها تُمثِّلُ هدفًا.

 

***

أخْطَرُ ما في الأمرِ أنَّ المسافرينَ مِنَّا - عَبْرَ مَسالِكِ السياسةِ - يَحملون معَهم - في حَقائبهمُ السياسية دائمًا موقفَيْنِ: موقِف مُعْلَن سِيمَاهُ التَّذبذُبُ والتأَرجُحُ، وموقِف متَحَفِّز للظُّهور بديلًا عنهُ وفْقًا لمساوماتٍ رخيصةٍ وسريعةٍ.

 

***

إذا كُنّا نَخْضَعُ "لسفَر المصالِح"، ويَنُدُرُ عندنا "سفَرُ الاعتبارِ" - لدواعٍ تتعلَّقُ بالأبعادِ الاقتصاديةِ ومستوى الوعيِ الحضاريِّ - فإنَّ ضَرْبَنَا صَفْحًا عنْ "سياسةِ المبادئ" إلى نوعٍ مِن "سياسة المصالح" التي نفقدُ فيها القدرةَ على الثَّباتِ على الموقِف، ونَتَلَوَّن فيها - خلالَ الموسمِ الانتخابيّ الواحدِ - عشراتِ المرّاتِ، يستلزمُ البحثَ عنِ السببِ.

 

*** 

حالُنا يقولُ:

1) لا نَوَدُّ أن يُفسِّرَ أحدٌ الأمْرَ بحياةِ الانتجاعِ التي دَأَبَ عليها أوائلُنا؛ ففي ذلكَ تبسيطٌ لظاهرةٍ استفحلتْ، وضربتْ بأطنابِها في مَعاقِل ذَوِي الرأي والتنويرِ (افتراضا).

 

2) ولا نَسْمحُ لمحلِّلٍ مّا أنْ يَصِمَنا بأنّنا خَلَعْنا ربقَةَ القِيَمِ مِن رقابِنا، مُعلِّلا ذلك بأنَّ مَنظومةَ الأخلاقِ لدينا تعرَّضتْ - جُمْلَةً - لهزَّةٍ عنيفةٍ نتيجةُ لأنماطٍ سلوكيةِ وافدة. كيفَ نُتَّهَمُ بذلك ونحن قومٌ نَأْوِي  (نظريّا) مِن الدِّينِ والأخلاقِ إلى رُكْنٍ شديدٍ؟

 

3) وليس مقبولًا أنْ يُقَزِّمَنَا أحدٌ سياسيًّا، فيزعمَ: أنّنا لا نِمْلِكُ أفقًا سياسيًّا، ولا رؤيةً استراتيجيةً نُحاكِمُ الواقعَ ونُواجِهُ تحدياتِه في ضوئهمَا، زاعمًا أن تجربتَنا السياسيةَ لم تَخْرُجْ عنِ إطارِ الحِزْبِ الواحدِ، والحُكْمِ العسكريِّ ، وأنَّ حِرْمانَنَا مِن مِظلَّةِ الحُكْمِ المركزيِّ - في عهْدِ ما قبلِ الاستعمارِ - ظَلَّ أثرُه السلبيُّ يُلاحِقُنا حتّى اليوْم. 

 

ففي جميعِ هذا الزَّعْمِ تَجَنٍّ على سياسيِّـي بلَدٍ بلَغَ عددُ أحزابِه السياسيةِ أكثرُ من مئةٍ، متفوِّقًا بذلك على كثيرٍ من البلدانِ الأوربيةِ، بلْهَ العربية!

 

***

وإلى أن يَرِدَ تفسيرُ مقبولٌ للظاهرةِ يَبْقَى السُّؤالُ مُثارًا: لماذا يُقْبِلُ بعضُ سياسيِّينا على تغْيير مواقِعَهم على الخريطةِ السياسيةِ - ولاءً وانتماءً - بسرعةٍ غيرِ معهودٍة في العالَمِ كلِّهِ؟