الحلقة الرابعة
من نصوص المازري المعينة على تصور بعض كلام أهل المتون المعتمدة ممن أحالوا عليه:
تعددت الإحالات على كتب الإمام المازري وخاصة شرح التلقين في كتب المالكية وغيرهم فقد تقدم قول ابن بزيزة فيه إنه كتاب مذهب... وأنه من أربعة اعتمد عليهم خليل في مختصره.
ومن نصوص المازري التي أشار إليها بعض أهل المتون المعتمدة فيما يبدو ولم أر نصها مجلوبا في كتب شارحيهم.
كلام المازري الذي أحال عليه خليل في مختصره بقوله "قال كشكه في صوم يوم عرفة هل هو العيد" هو قول الإمام المازري في سياق كلامه على حكم من شك في الوضوء والغسلة الثالثة هل هي رابعة أم لا؟: "تنازع الأشياخ فيمن شك في إيقاع الثالثة هل يكره له إيقاعها مخافة أن تكون رابعة فيقع في المحظور أو لا يكره ذلك؛ لأن الأصل في الطهارة والصلاة أن يبنى على اليقين إذا شك في العدد... وقد كتب إلي بعض أهل العلم يسأل عن صوم التاسع من ذي الحجة إذا شك أن يكون يوم النحر هل يكره مخافة أن يقع في صوم يوم النحر وهو محظور فيكون طلب فضلا بأن رعى في محرم، فأجبته بأنها مثل هذه المسألة التي تنازع الشيوخ فيها وطريق الكلام عليهما واحد.." انتهى من شرح التلقين ط دار الغرب الإسلامي ج: 1، ص: 171.
لم أر نص المازري هذا مع أهميته في حل لفظ قول خليل المتقدم "قال كشكه في صوم يوم عرفة هل هو العيد) فيما طالعت من شروح مختصر خليل.
قول خليل في مختصره أيضا : "فقال وغيره لا نص ومقتضى المذهب الوجوب" فإنه يعني به قول الإمام المازري.
"إذا لم يستطع المريض أن يومئ برأسه للركوع والسجود فهل يومئ بطرْفه وحاجبه ويكون مصليًا بهذا الفعل مع النية للصلاة؟ مقتضى المذهب فيما يظهر لي أنه يؤمر بذلك ويكون مصليًا به، وبه قالت الشافعية وقال أبو حنيفة لا يصلي في هذا الحال وتسقط الصلاة..." راجع شرح التلقين ج: 2 / ص: 865. ومن خلال هذه المقارنة يتبين لنا أن خليلا نقل كلام المازري هنا بالمعنى لا بالنص.
على قول سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم عن الأمر:
(وقال بالتأخير أهل المغرب *** وفي التبادر حصول الأرب)
لعله عقد به قول المازري عن الأمر في إيضاح المحصول. ط دار الغرب الإسلامي بيروت ط 2008م ص: 211.
"ومنهم من ذهب إلى حمله على التراخي... وبه قال بعض المتأخرين من المالكية المغربيين".
وهذا النص الأقرب إلى معنى البيت مما لم أره فيما بين يدي من شروح المراقي، والله يهدينا وإياكم إلى خير السبل والمراقي.
من الأحداث التاريخية في شرح التلقين
هذه الحلقة ألصق بترجمة الإمام المازري فهي في الحقيقة رجوع إليها وكذلك سائر هذه المقالات هي من ترجمة الإمام المازري كما أخبرني به بعض أهل العلم لما عرضت عليه ما نشر منها وليس كتاب شرح التلقين كتاب تاريخ لكن أمثال الإمام المازري من المجتهدين الذين يعيشون واقع أمتهم وأفراحها وأتراحها لا يمكن أن تخلو كتبهم من واقع هذه الأمة فقد تكلم المازري في شرح التلقين على مراحل مهمة من حياته ومن تاريخ أمته.
ينقل لنا الإمام المازري من عصره في شرح التلقين خبر تركيب النضال للمناظرة بيننا معاشر المسلين مع النصارى ويسجل قوة علماء المسلمين في عصر المازري ورده على بعض حذاق نصارى المشرق في كتابه "المترجم بقطع لسان النابح في المترجم بالواضح" الذي يقول عنه: "وهو كتاب نقضنا فيه كتابا ألفه بعض حذاق نصارى المشرق قصد فيه إلى جمع المطاعن التي تشبث بها الملحدون وقذفها الطاعنون على ديننا وأضافوها إلى العقل والنقل فاكتفينا بذكرها هناك عن ذكرها ها هنا لاشتغال أهل الأصول عن الخوض فيها دون أهل الفروع" شرح التلقين، ج: 2، ص: 680.
ومما يمكن أن يستنتج من كلام المازري هذا أن عصره كان عصر حجاج بين المسلمين والنصارى وبين المشرق والمغرب وأن المازري كان ممن يشار إليهم في الانتداب للرد على هذه المطاعن التي تشبث به الملحدون وكل هذا مما يؤكد أنه "من أذكى المغاربة" كما تقدم في تعبير ابن السبكي.
تسجيل الإمام المازري لفتواه وهو ابن عشرين سنه:
يبعث الإمام المازري لنا رسائل من خلال شرح التلقين مفادها أنه كان يستفتى ويفتي وأنه مارس الفتوى وهو ابن عشرين سنة: يقول الإمام المازري "وقد كنت في سن الحداثة وعمري عشرون عاما وقع في نفسي أن القراءة في الشفع لا يستحب تعيينها إذا كانت عقب تهجد بالليل. وإن الاستحباب إنما يتوجه في حق من اقتصر على شفع الوتر فأمرت من يصلي التراويح في رمضان أن يوتر عقيب فراغه من عدد الأشفاع ويأتي بجميع مقروءاته بالحزب الذي يقوم به فيه ويوتر عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذٍ بالبند على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي وكان ممن يقرأ علي، ويصرف الفتوى فيما يحكم به إلى. فسألوه أن يمنع من ذلك فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فأبوا، فأبى. واتسع الأمر وصارت المساجد تفعل كما فعلت وخفت اندراس ركعتي الشفع عند العوام إن لم تُخص في رمضان بقراءة. فرجعت إلى المألوف. ثم بعد زمن طويل رأيت أبا الوليد الباجي أشار في كتابه إلى الطريقة التي كنت سلكت، فذكر في بعض كتبه قول مالك في الشفع: ما عندي فيه شيء يستحب القراءة به فيه، فقال هذا يدل على أن الشفع من جنس سائر النوافل. قال وهذا عندي لمن كان وتره واحدة عقيب صلاته بالليل. فأما من لم يوتر إلا عقيب الشفع فإنه يستحب له أن يقرأ في الشفع بسبح وقيل يا أيها الكافرون" شرح التلقين، ج: 2 ص: 784 ـــ 785. وقد تعرض لفتوى المازري هذه قبلي الشيخ محمد المختار السلامي في مقدمته لشرح التلقين موردا هذا النص نفسه وأوردتها هنا جمعا للنظائر.
حديث الإمام المازري عن مآسي المسلمين في عصره واستيلاء النصارى على بعض مدنهم وسبيها مما تذكر به محن المسلمين اليوم في الشام وغيرها تكلم الإمام المازري على نكبة مدن مسلمة منها زويلة والمهدية في عصره فقال في سياق كلامه عن فتواه بتصديق المرتهنين وعدم ضمانهم رهان الناس إذا علم احتراق أمكنتهم نسأل الله العافية".
"وقد كان نزل عندنا سنة ثمانين وأربعمائة لما فتح الروم دمّرهم الله زوياة والمهدية، وقتلوا كثيرًا من أهلها، ونهبوا الأموال من سائر الديار، وكثرت الخصومات مع المرتهنين من الصناع، وفي بلد المشايخ من أهل العلم متوافرون فأفتى جميعهم بتكليف المرتهن والصانع البينة أن ما عنده من رهن، أو شيء يصنعه، قد أخذه الروم.
وأفتيت أنا بأنهم مصدقون لأجل أن الغالب صدقهم فيما زعموا من التلف، كما أن مالكا أسقط ضمان ما لا يغاب عليه وإن لم يثبت تلفه بعينه، ولكن قنع بالعلم على الجملة أنه لا يستتر ولا يخفى ولو كان موجودًا لظهر، فإذا أقام بالبلد أياما كثيرة ينهب، وتخرج منه الخبايا كان ذلك آكد في غلبة الظن بأن مدعي ذهاب الشيء مصدّق، وغلبة الظن قد أشار مالك رضي الله عنه إلى اعتبارها في هذا، على حسب ما قلناه. وكان القاضي يعتمد على ما أفتيته به، فتوقف عن القضاء لأجل كثرة من خالفنا من المفتين، حتى شهد عنده عدلان أن الشيخ أبا القاسم السيوري رحمه الله، وهو شيخ الجماعة الذين خالفوني، أفتى بمثل ما أفتيت به لما غلب الأعراب على القيروان ونهبوا ما فيها، فأنفذ الحكم بسقوط الضمان. ثم بعد ذلك وصل كتاب المنتقى لأبي الوليد الباجي ذكر فيه أنه كان بطرطوشة لما احترقت. أسواقها فأفتى بتصديق من عنده رهن أنه احترق في جملة ماله الذي الشأن خزنه في الأسواق، وذكر أنه يغلب على ظنه أن بعض أهل العلم وقفه على رواية عن أبي أمِن بمثل ذلك..." فقد نقل لنا الإمام المازري مأساة استيلاء الروم سنة ثمانين وأربعمائة على المهدية وزوياة أو زويلة كما صوبه به محقق المطبوع منه ويؤيده نقل الدسوقي عن التوضيح الذي فقد ورد في حاشية الدسوقي ج: 3 ص: 254 "لما فتح الروم زويلة والمهدوية..." ولم يرد في ط مركز نجيبويه 1429 هـــ م: 6 ص: 146. بل الذي فيه: "لما فتح الروم رومة والمهدية.." والله تعلى أعلم وفتوى المازري.
وهذه الفتوى هي التي أشار إليها خليل في مختصره والرهن بقوله: "وأفتى بعدمه في العلم...".
ولا يبعد من هذا تدوين المازري لفتواه لما سئل فيمن شك أهو في ثالثة أم رابعة في غسل أعضاء الوضوء فقد قال فيها: "في سياق كلامه على حكم من شك في الوضوء والغسلة الثالثة هل هي رابعة أم لا؟ "تنازع الأشياخ فيمن شك في إيقاع الثالثة هل يكره له إيقاعها مخافة أن تكون رابعة فيقع في المحظور أو لا يكره ذلك؛ لأن الأصل في الطهارة والصلاة أن يبنى على اليقين إذا شك في العدد... وقد كتب إلي بعض أهل العلم يسأل عن صوم التاسع من ذي الحجة إذا شك أن يكون يوم النحر هل يكره مخافة أن يقع في صوم يوم النحر وهو محظور فيكون طلب فضلا بأن رعى في محرم، فأجبته بأنها مثل هذه المسألة التي تنازع الشيوخ فيها وطريق الكلام عليهما واحد.." انتهى من شرح التلقين ط دار الغرب الإسلامي ج: 1، ص: 171.
انتهت هذه الحلقة من تحقيقات من كتب وأخبار الإمام المازري وخاصة شرح التلقين، لقننا الله وإياكم الحجة في كل وقت وحين.