على مدار الساعة

ولد الغزواني.. أنا أتحفظ!

2 مارس, 2019 - 18:40
محمد ولد محمد سالم

يسألني أصدقائي: هل أقنعك محمد ولد الغزواني في خطاب إعلان ترشحه؟

 

فأجيبهم: لم أكن أنتظر من الخطاب أن يقنعني. فيستاءلون متعجبين: ولماذا؟ ألم تكن لغته عربية فصيحة ونبرة صوتيه رصينة، ألم تعبر لغة جسده عن اتزان وثقة بالنفس، ألم يتكلم بحكمة وينصفْ جميع الرؤساء السابقين، ألم يتعهد بالمساواة والعدالة والأمن وحفظ الوحدة والسيادة، وبالتنمية الشاملة، ألم يخاطب الموريتانيين جميعا دون استثناء، ويقدمْ لهم نفسه كواحد منهم.

 

ويحرضني النشطون منهم على مواقع التواصل الاجتماعي قائلين، انظر ها هي مواقع التواصل الاجتماعي تشتعل بالتعليقات المثمنة للخطاب المشيدة بما جاء فيه من إشارات ورسائل دالة على نهج جديد، وعلى أنه رجل "مخلتف"، وها هم كتاب وقادة رأي من أعتى المعارضين يعلنون دعمهم له.

 

فأرد: قد يكون لكل ما تقولونه وجاهته، وهناك الكثير من الناس الذين سيقتنعون بالمشهد والصورة الظاهرة البهية بكل تجلياتها، وهناك الكثير ممن فاتهم قطار الدولة في عهد ول عبد العزيز في أول انطلاقه لسبب أو لآخر، وأصبح الحياء يمنعهم من أن يلتحقوا به في آخره، وها هي الفرصة تواتيهم للقفز في هذا القطار الجديد قبل أن يتحرك، فهؤلاء مقتنعون قبل الخطاب، وأشد اقناعا بعده، لكنني أود وفي فورة الحماس التي تأخذ الغالبية العظمى منا أن سأتوقف عند عدة أمور أساسية، لكي تتضح الرؤية، ونعرف أين نحن وما الذي يحدث؟.

 

أولا أنا أعترف دون حرج بأننا أمام حدث تاريخي غير مسبوق في موريتانيا، حدث يصب في مصلحة ترسيخ الديمقراطية والحفاظ عليها، وهو كون رئيس عسكري قاد انقلابين وما زال يمتلك خيوط اللعبة يتنازل طواعية عن السلطة حفاظا على الدستور، وإقرارا بضرورة التناوب السلمي على السلطة، فهذا مكسب وطني كبير.

 

سأعترف ثانيا أن موريتانيا لا توجد فيها معارضة يمكن أن يعول عليها في الوقت الحاضر في تقديم مرشح مقنع للشعب الموريتاني، فقد ضُربت هذه المعارضة في الصميم يوم أن أعلن المناضل أحمد ولد داداه عام 2008 دعمه للانقلاب الذي قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا سيدي ولد الشيخ عبد الله، فكان ذلك قاصمة الظهر للمعارضة الوطنية الحقيقية التي تقف في وجه النظام وتناضل بثبات عن حقوق الشعب الموريتاني، لقد قضى أحمد ولد داده، غفر الله له، بموقفه ذلك على تاريخه النضالي من أجل موريتانيا، وفتح الباب لخلط سياسي ما زلنا إلى اليوم نعيشه، شهدت الأحزاب خلاله تنقلات عجيبة من أقصى المعارضة إلى أقصى الموالاة، وأصبحت الأحزاب أحزاب المعارضة بشكل خاص هشة باهتة، بدليل أننا لم نشهد في العشر سنوات الأخيرة ما كنا نشهده من حشود هائلة في ما قبل ذلك خاصة في حزب التكتل الذي شكل يوما عنوانا لمعارضة حقيقية ووصل مرشحه أحمد ولد دادّاه ذاته إلى نسبة 48% في الانتخابات التي سبقت انقلاب ولد عبد العزيز، هذا الوضع يجعل حظ المرشح محمد ولد الغزواني بالصورة التي ظهر بها، وبحقيقته الراهنة كقائد عسكري مستقيل لتوه، وليست له سوابق سياسية معلنة، حظا كبيرا في كسب ثقة الكثير من طوائف المعارضة التي بقيت حتى الآن تنتظر مرشحا منقذا لها من التهميش، وتتوسم فيه أن يكون أيضا منقذا لموريتانيا من الوضع الاقتصادي السيء الذي ما زالت تعيشه، أما الموالاة فهي تحت إبطه، وطوع بنانه.

 

لكنْ، لنتوقفْ قليلا، فأنا أتحفظ على بعض الأمور.

 

أتحفظ أولا على أن ولد الغزواني كان اليد اليمنى لمحمد ولد عبد العزيز لمدة عشر سنوات من الحكم، وأن هذه السنوات العشر في حساب التنمية كانت قادرة على أن تدفع موريتانيا في التقدم الاقتصادي والتنموي بأضعاف ما هي عليه الآن، ولو أن ذلك حصل لكُنا الآن نعيش رخاء وتقدما وننعم في بلادنا بالعيش الكريم، لكن ذلك لم يحدث، وما تم إنجازه من تغييرات ظل جزئيا وبطيئا، وضاع في خضم الفساد الذي ما زال ينخر جسم الدولة، فهو بشكل أو بآخر مساهم في ضياع تلك السنوات سدى.

 

أتحفظ ثانيا لأن الوجوه الواضحة في الصورة منذ شائعة ترشح ولد الغزواني إلى يوم الإعلان عنه رسميا، هي نفسها وجوه التطبيل والفساد والإفساد التي التفت حول ولد عبد العزيز، والتي تعودنا عليها خلال السنوات العشر الماضية بل، ومن قبل ذلك بكثير، فمغفل من لا تستوقفه تلك الوجوه ويستاءل عن معنى وجودها في العمق من صورة مرشح يراد له أن يكون مرشح أمل لموريتانيا.

 

أتحفظ ثالثا لأن ولد عبد العزيز بنى الحملة الشرسة التي خاضها في الانتخابات النيابية الأخيرة على مفهوم "استمرارية النهج" ودعا الناخبين إلى التصويت لأحزاب الموالاة بكثرة إذا كانوا يريدون تلك الاستمرارية، وقد لبوا دعوته، وأوصلوا معظم مرشحي الموالاة إلى البرلمان، وكذلك بشر سيدي محمد ولد محم الرئيس السابق لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية بهذه الاستمرارية في رسالته على تويتر التي أعلن فيها ترشيح ول الغزواني، واصفا إياه بأنه "أفضل خيار لاسمترارية هذا المشروع الوطني الرائد.. الذي أسسه وقاده فخامة رئيس الجمهورية النهج الوطني الرائد الذي أسسه وقاده فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز".

 

كيف نفهم من كل ذلك أن ولد الغزواني سيكون "مختلفا" وأنه هو الرئيس المنقذ الذي كنا نبحث عنه؟، كيف سيخرج من عباءة ولد عبد العزيز، الذي مهد له طريق الترشح والوصول إلى الرئاسة، وكيف سيخرج براثن المفسدين الذين سيحملونه بأيديهم ليجلسوه على الكرسي، كيف نصدق أنه ليس "مدفيدف موريتانيا"؟، وأن هذه ليست صيغة من صيغ "التحليل" يريد بها ولد عبد العزيز أن يطمئن على أن الأوضاع ستبقى على ما هي عليه حتى تحين الانتخابات الرئاسية الموالية لكي يعود من خلالها إلى الحكم؟.

 

تحتاج موريتانيا اليوم بعد مسيرة عقود طويلة من التعثرات إلى تغيير، وصفه ولد الغزواني نفسه بأنه "تغيير منشود"، وآمل أن يكون هو قادرا على إحداثه، وليس ذلك ببعيد لأنه رغم التحفظات السابقة فإن "الرجال صناديق مقفلة"، وإن وضع الإنسان تحت السلطة يختلف عن وضعه عندما يكون هو صاحب السلطة، وبشكل خاص في السلك العسكري، الذي يحتم على العسكري الانضباط والالتزام بالأوامر عندما تصدر من إليه من هو أعلى منه رتبة، وتقتضي منه يمارس كل صلاحياته عندما يكون هو القائد الأعلى رتبة، وأن لا يتنازل عن شيء منها لغيره، فذلك ضعف لا يليق بقائد، فآمل أن يمارس ولد الغزواني كل صلاحياته عندما يصير رئيسا للجمهورية، وأن يخرج فعلا من تلك العباءات والأطواق التي تطوق ترشحه الآن، ويؤسس لموريتانيا جديدة، بعيدة عن مفهوم "استمرار النهج" الذي يروج الآن، وأهنئه مقدما بالرئاسة مع الدعاء له بطول العمر، وأعلن له أنني لن أصوت له في هذه المرة لأنني ما زلت متحفظا حتى يصدق فعلُه قولَه، ولن يُعرف ذلك إلا بممارسة الحكم.