على مدار الساعة

التواصليون: نقاشات حرة وقرارات ملزمة

18 مارس, 2019 - 22:42
أبو إسحاق الدويري

من الرشد السياسي والحرص على مستقبل الوطن وتماسك مجتمعنا أن نشجع كل التجارب المعلية من قيم الحرية والشورى والانضباط التعاقدي، فقد لاحظت أن بعض المهتمين بالتدافع السياسي في البلد استشكل أمرين أعتبرهما ميزتين مهمتين في البناء والأداء السياسيين لدى حزب تواصل الإسلامي والدائرين في فلكه، الميزة الأولى: غزارة النقاش الحر المفتوح، وكثافة الشورى والمشاورة حول قضايا من طبيعة البشر الاختلاف في تقديرها؛ بسبب تفاوت المدارك والمعطيات والأولويات والاهتمامات، ولكون تلك القضايا تتسم بالتغير والمرونة والنسبية، والميزة الثانية: أن لتلك النقاشات المفتوحة والآراء المختلفة ضوابط تعصمها، وقرارات تُلزمها، وقادات تحسمها، وأهم الضوابط العاصمة؛ التجرد والبحث عن الأصلح والأنفع للبلاد والعباد، ودور القرارات العامة إضاءة الطريق واستبعاد غير المناسب، وحين تتعدد الرؤى والخيارات يأتي دور المخوَّلين المفوضين فيحسمون الجدل ليبدأ العمل.

 

للمهتم بتاريخ الأفكار ودورها في توجيه القيم السياسية والأداء العملي أن يسأل كيف وصل الإسلاميون عموما والتواصليون خصوصا لهاتين الميزتين الجامعتين بين أمرين ظاهرهما التنافر والتضاد، وحقيقتهما التكامل والتعاضد، أقصد حرية النقاش والتشاور، وإلزامية القرارات الضابطة، وللمهتم المنصف نقول: إن أدبيات الصحوة الإسلامية المعاصرة في شؤون القرارات واتخاذها أعلت قيميا من أمر، وحسمت نظريا وعمليا في آخر، والأمران هما؛

الأول: إعلاء قيمتي الحرية والشورى، فقد أولت مدارس الوعي الإسلامي المعاصر في كتاباتها الفكرية ورؤاها السياسية اهتماما خاصا بقيمتي الحرية والشورى، فكتابات حسن البنا وابن عاشور والغزالي والغنوشي والقرضاوي ومحمد أحمد الراشد وغيرهم كثير طافحة بإبراز هاتين القيمتين

 

لقد جعل ابن عاشور الحرية مقصدا من مقاصد الإسلام، وله في مدحها أقوال سائرة، مثل قوله: "فلم تزل الحرية مظنة فضائل الأخلاق من قديم حتى صار لفظ الحرية مؤذنا بمعنى الكمال"، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام 100، وأوضح فوائدها في موضع آخر من الكتاب نفسه فقال: "إن الحرية هذه خاطر غريزي في النفوس البشرية فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق، فلا يحق لها أن تسام بقيد إلا قيدا يدفع به عن صاحبها ضر ثابت أو يجلب به نفع" ص: 162، أما الإمام البنا فقد جعل الحرية فريضة من فرائض الإسلام وذلك حين بين أصول دعوته في رسالة "بين الأمس واليوم" فقال: "ندعو إلى الإسلام، والحكومة جزءٌ منه، والحرية فريضةٌ من فرائضه...." ، رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص: 529.

 

وأهم كتب راشد الغنوشي كان عن "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، وللشيخ القرضاوي في معاني الحرية والشورى قولا وعملا وضرائب مواقف سَبْحٌ طويلٌ في كتبه ومنبره و"برنامج الشريعة والحياة"، وكان شيخه محمد الغزالي مقارع الاستبداد والمبشر بالشورى، يرى أن "الاستبداد السياسي ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام، وليس إماتة لشرائع فرعية فيه، بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته" ، ولعل أبلغ مدح واحتفاء بالشورى يوضح منزلتها في أدبيات الإسلاميين ما سطره محمد أحمد الراشد في كتابه الباذخ "أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي"، حين قال: "كلمة الشورى أجـمل لفظ وأعذبه في فقه الدعوة، وغدت عند الداعية العصري: عنوان وعي ودليل فهم حضاري، وأصبحت يومًا بعد يوم تُستعمل كوصف للتنظيم الجاد، ورمزًا للنبل، فإذا قلت: فلان يؤمن بالشورى ويمارسها فكأنك تمدحه وتـقـول: هـو داعية خبير في الإدارة، منصف في التعامل، واقعي في النظر".

 

أما الأمر الثاني الذي حسم فيه الإسلاميون نظريا وطبقوه عمليا، فسهل عليهم الانضباط واحترام القرارات فهو ترجيح أغلب فقهائهم ومفكريهم للقول الذاهب إلى أن الشورى ملزمة لا معلمة، وذلك لأنهم يرون أن "المقصود من الشورى إنضاج الرأي على نار هادئة فيها المداولة الحرة، والصدر الفسيح، والالتزام الصارم بما تفضي إليه من نتائج، والقول بأنها معلمة غير ملزمة يفسد أمرها ويخرب ديارها فإذا هي بلاقع وما عرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يشاور ويعصي ذوي شوراه بل عرف عنه أنه كان يتنازل عن رأيه لرأي الأخرين كما حدث في حادثة تهديم القلب وردمها وكما حدث في الخروج عن المدينة يوم أحد، وكما قال لصاحبيه أبي بكر وعمر لو اجتمعتما ما خالفتكما"، (بحث الشورى في سياق التأصيل والمعاصرة للدكتور عصام أحمد البشير).

 

 وحين نصل إلى أدبيات حزب تواصل نجد احتفاء كبيرا بقيمتي الحرية والشورى، فقد جاء في رؤية الحزب الفكرية أنه "ظلت الحرية حية في وجدان البشرية متجذرةً في ثقافتها متأصلةً في وعيها وذاكرتها. وفوق ذلك كانت في مقدمة المطالب والإشكالات السياسية والحقوقية التي احتفى بها الفكر الإسلامي وسعى إلى تحرير محل النزاع فيها وتنقيتها مما علق بها من فهوم خاطئة وتصورات مسبقة أرادت تشويه نصاعة الإسلام وسعةَ شريعته ومرونةَ أحكامه"، وحسمت الرؤية في قضية الشورى وإلزاميتها فقالت: "فالشورى في الإسلام منهج في الحياة وطريقة في الحكم وفلسفة شاملة. والشورى في فهمنا فريضة ملزمة ابتداء وانتهاء لا تترك لرغبة الحاكم وتقديره الشخصي".

 

لعل هذا السرد يكشف للبعض ما استشكل عليه أو ما اعتبره البعض الآخر تناقضا وتضاربا، فكل المجتمعات الراشدة قديما وحديثا هذا شأنها؛ فحرية التعبير متاحة للكل، والقرارات تلزم الكل، وما عدا هذا فسهل ميسور سيما في زمن تحكم الأهواء، وبهاتين الخصلتين كان حزب تواصل أكثر الأحزاب الوطنية المعارضة حضورا وتأثيرا رغم حداثة الترخيص، ولغياب تلك الميزتين زهد المنصفون في أحزاب سبقته، فالشورى واحترام المواثيق هما العاصمان.