تجلس نبيلة في سُدَّة بيت من الصفيح منحنية بخشوع على قطعة خشبية مستطيلة ملفوفة بقماش أبيض، أخذته من سَقَطِ الأقمشة الذي يرمي به مصممو وخيَّاطَةُ الدراريع في سوق كبتال، بيدها إبرة يتدلى منها خيط بني فاتح تنسج به "شِبْكَة"، لقد اقترب وقت العصر ولما تنته من تطريزها بعد، وبين الحين والآخر ترفع مرفقها لتدفع الرضيع الذي يراودها عن ثديها منذ ساعة.
تذكرت أن عليها أن تشتري "صَامًا" من اللحم وحبة طماطم وأخرى من البصل تطبخ بها مرق العشاء، تحتاج إذن 300 أوقية، أما بائعة الكسكس فستُنْظِرُهَا حتى نهاية الشهر، استلت الحقيبة اليدوية من تحت ركبتها، وقلبت بطنها بحثا عن نقود، تعرف أن لا شيء هناك، ولكنها فعلت ذلك بذاكرتها العضلية، لم تجد بها سوى أكوام من الخيوط وإشفى وطقما من الإبر ورائحة بخور قديم.
تصدح إذاعة محلية بنشرة الأخبار: اعتقال ناشطين بتهمة نشر وثائق تتعلق بمليارات مشبوهة للرئيس وعائلته في بنوك دبي، تقرير دولي يقول إن 65% من المجتمع الموريتاني يعيش بـأقل من دولار واحد يوميا، كانت تلك عناوين النشرة وإليكم الأنباء بالتفصيل.
عادت إلى خشوعها بين يدي ذلك المستطيل الخشبي، ترفع إبرتها وتخفضها، تترك دوائر مفتوحة وتغلق أخرى حريصة على تناسق المثلثات والمربعات التي ستشكل تطريزا فنيا لتلك "الشِّبْكَه"، لكن ذاكرتها ظلت تجوب كل أودية التفكير في كيفية الحصول على ذلك المبلغ.
لا بد أن أحصل على 300 أوقية، فلو كنت أنا وأبنائي فقط لصنعت لهم إدام الكسكس من الملح والفاصوليا كما العادة، ولكن لا مناص من قرى الضيوف، فكرت في أن تذهب إلى السوق وتطلب من زبنائها أن يقرضوها ذلك المبلغ، ولكن ثمن وصولها إلى السوق وعودتها منه ستكلفها أكثر منه، أخيرا، قررت أن تذهب راجلة، صلت العصر وخرجت مسرعة تنهب الخطى من كبة المربط إلى سوق كبتال.
رأت الدكاكين مغلقة فاستغربت الأمر أولا، ظنتهم أغلقوا أبوابهم وخرجوا إلى الصلاة، ولكن العصر صلي منذ ساعة ونصف تقريبا، اقتربت أكثر من المكان، كان أحمد أحد باعة الشمس يعرفها من كثرة ترددها على تلك الدكاكين، ما إن رآها حتى بادر قائلا:
- الخَيَّاطَة أرغمتهم الشرطة على الإغلاق اليوم لأنهم لم يدفعوا الضريبة.
كان خبرا بوقع صاعقة، ارتبكت ثم تماسكت لتقول من دون وعي:
- ...وأنا جئت مشيا على قدمي من كبة المربط، وليس لدي ما أشتري به مرق العشاء
ندمت حين عرفت أنها تفوهت بتلك الكلمات دون وعي، كان قولا فائضا من لا وعيها، فهي امرأة اعتادت أن لا تُرِي الناس إلا تَجَمُّلا رغم قوارع الدهر وفجائعه التي لا تبرح إحداها ساحتها إلا مفسحة لأخرى أطم، أجابها وهو يعيد ترتيب بضاعته التي تناثر بعضها حين شكسها حمار يجر عربة:
- يعلم الله أني لم أبع اليوم شيئا، وأنه ليس في جيبي سوى مائة أوقية سأستقل بها تاكسي آئبا إلى بيتي.
ضاعفت ملحفتها على رأسها ثم ولت مدبرة حتى لا يرى دمعتها التي تحدرت غصبا عنها، واندست في زحام المتسوقين لا تلوي على شيء، استعادت في لحظة كل حياتها، الجامعة التي تركت مقاعدها في السنة الأولى بعدما حملت ابنها الأول، ونذرت نفسها لزوجها الذي تركها قبل سنتين وهي تحمل ابنتها الثالثة في بطنها، ثم تزوج من أخرى ولم يزر بناته منذ ذلك الحين، أبواها اللذان يسكنان في كوخ مستعار بحي الترحيل رفقة أختها المصابة بالصرع.
لم تستفق إلا وهي تعبر زحام باعة الخضروات بسوق مسجد المغرب، والشمس تهوي للغروب، ونفسها النازفة أسى تثقل خطواتها اليائسة، فكرت في أن تمد يدها خلسة وسط ذلك الزحام فتخطف حبيبات طماطم وبعض الجزر والبصل حتى تقري ضيوفها، دفعت ذلك الخاطر الشيطاني مستغفرة، رأت قطعة كبيرة من اللحم ملقاة على الأرض وقد أخفاها الذباب، تبدو طرية، كادت أن تنحني لتأخذها، ولكنها دفعت ذلك الخاطر أيضا، ثم أسرعت وكأنها تهرب من نفسها التي تكاد توقعها في المكروه.
كانت شابة في ربيعها الخامس والثلاثين، ما يزال وجهها يحتفظ بنضارته وجماله رغم صفعات الدهر القاسية، قدها الممشوق وقامتها الفارعة توحيان بأنها ذات تاريخ مع الدلال الحلو والجمال الغرير، فجأة أحست بأنفاس سيارة تقترب منها، التفت مذعورة خشية أن تدهسها، كانت سيارة PRADO سوداء مظللة، أطل منها وجه رجل أربعيني تظهر عليه آثار النعمة والمال، غمزها بعينيه، وأشار لها أن تركب، تمنت أن تركب معه لعله أن يمنحها ما تقيم به أود ضيوفها في تلك الليلة، ولكنها أعرضت عنه متمتمة: وهذه أيضا من البلاء.
ظلت السيارة تسايرها والرجل يراوح بين الغزل العذري والفاحش، وهي توسع خطوها هربا منه، حتى خرجا معا من زحام السوق، غيرت اتجاهها، ولكنه غير اتجاه سيارته نحو وجهتها الجديدة، تتنازعها الخواطر، فقيرة معدمة يراودها عن نفسها رجل غني، وامرأة شريفة على حافة السقوط في الرذيلة، كانت تمتم مستعيذة من نفسها الأمارة، وتمسح دمع ألمها الممض:
اللهم إن عزمت على الفجور فخذني إليك.