على مدار الساعة

ويبقى الإصلاح ما بقي المصلحون!

16 مايو, 2019 - 11:37
ابراهيم الدويري

في زمن سطوة الصور وتدفق الأخبار يمارس المغتربون هواية الحنين كل صباح بتصفح المواقع الإخبارية  بحثا عن أخبار تثلج الصدور بتقليل نسب البطالة أو الفقر أو تحسن صحة وتعليم أو محاكمة من كان سببا في هذه المعضلات وغيرها من أدواء أوطاننا المزمنة، قبل أيام كنت أتصفح ببطء موقعا إخباريا فاعترضني خبر يحيل لصور وفيديو يتكلم فيه  شيخان جليلان عن جمعية   إصلاحية أغلقت بلا مسوغ قانوني واضح يبرئ ذمة النظام، ويوهمنا ولو قليلا أننا دخلنا عصر الدولة الوطنية وتركنا دهر السيبة وزمن اللا قانون وراءنا ظهريا لكن نظام العشرية "الكالحة" ورموزه ما فتئوا يذكروننا بالمبادئ الانقلابية كلما أوهمنا الزمن أنه يقربنا من دولة القانون والرشد.

 

حديث الشيخين الجليلين ذكرني زمنا جميلا من موقظات الشوق والحنين، فنهضت الذاكرة الكسلى تستعيد تلك الذكريات بهدوء، أو على الأصح حاولت ترتيب سيلها المتدفق، فقفزت بي إلى أعوام 2001-2005، في هذه الأعوام كان من طقوس الطالب المحظري إذا زار نواكشوط في "الخميسة" أن يمر بمنبر الخميس في جامع الذكر، فيحدث زملاءه عما نثر فيه من علم وحكمة وتربية، وإن استطاع جلب "شريط" المحاضرة وبالأخص إن كانت ندوة فقد بالغ في الإكرام والتبجيل، وهناك جلبت لنا أشرطة مباركة منها "وقفات مع التاريخ" للشيخ الإمام الددو، وندوة "هذه دعوتنا"، ومئات الأشرطة الأخرى. 

 

حين بدأ التضييق على الدعوة ورموزها في أواخر سني ولد الطائع العجاف، كان استمرار منبر الذكر تحديا كبيرا، لسببين؛ الأول: التحدي الأمني للنظام الطائعي الذي كان يلفظه أنفاسه الأخيرة بتقربه للصهاينة، فجعل الدعوة هدفا بالتضييق والتنكيل والملاحقة والإغلاق، والثاني: ملء مكان كان يجلس فيه الشيخ الددو بموسوعيته المتقنة، وحافظته الخارقة، واستنباطاته الدقيقة، وإلقائه الآسر، وحضوره الرباني، وقبوله   الشعبي والرسمي الواسع، وأخلاقه الجمة التي وسعت الناس والوطن والخارج.

 

في يوم من أيام 2003 كنت رفقة بعض الزملاء الطلبة يتبادلون أطراف الحديث، فسمعت عند نبيه منهم يحدث أن اثنين إذا خلفا الشيخ الددو في منبر الذكر قاما مقامه، لعلمهما وفضلهما وتأثيرهما، وقال هما يمثلان سعة جغرافية الدعوة والإصلاح في البلد، وقال أحدهما ينتمي لأقصى الجنوب الغربي، والآخر ينتمي لأقصى الشرق الموريتاني، وقال إنهما الرجلان القرآنيان الشيخ محمد عبد الرحمن ولد أحمد الملقب "ول فتى"، والثاني: الشيخ أحمد جدو ولد أحمد باهي –حفظهما الله-.

 

في دروس العلامة "ول فتى" وتوجيهاته التربوية لا تجد نشازا بين تفسير الطبري وشروح البخاري وسيرة ابن هشام، وغرر أشعار العرب من مختلف عصورها، وأنظام البدوي وآل احمذيه، واطْلع أهل هدار وغيرهم من أرباب المقول والحكم، كل ذلك مصاغ بمنهجية متناسقة، ولسان جهوري فصيح يأخذ بالألباب، وينشر الطمأنينة والهدي الوسطي، والرأي المستنير، ويربط الناس بالوحي في صفائه، وتاريخ البلد الثقافي بثرائه. 

 

الشيخ أحمد جدو ولد أحمد باهي، عالم موفق، كثيرا ما سمعت باسمه يتردد بين مجامع الطلبة القادمين من ثانويات الحوضين، إذ كان مرشدهم الناصح والحريص على تفوقهم وأصالتهم، وكنت أستغرب من إجماعهم عليه من مختلف المشارب والجهات حتى قدر الله أن رأيته ذات يوم يعظ الناس في مسجد بعيد في قرية نائية، فكان داعية تبشير لا تنفير، ذاكرا أن الله قدم البشارة على النذارة في كل الآيات، وخصوصا في وصفه سبحانه وتعالى لنبي الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم، فعرفت السبب وازداد الإعجاب، والشيخ أحمد جدو في فكره وفقهه داعية تحرير، وستعلم الأجيال القادمة قيمته حين يقرأون هذه الفقرة من فتواه الخالدة " فإنني أفتي - مستعينا بالله تعالى - ببطلان أي اعتبار لوجود أي نوع من الرّق الشرعي اليوم في موريتانيا، وأن جميع أبناء هذا الوطن سواسية في الحرية، وأن الإسلام بريء من أي عمل ينشأ عن هذا الاعتبار، وأشدّد على أن استغلال الحرّ باسترقاقه، أو الانتقاص من شأنه أو اغتيابه في غيبته أو إذايته بحضرته باسترقاق زائف، أمر يحرمه الشرع ويرفضه الإسلام". (فتوى شرعية بشأن الرّق ومخلفاته في بلادنا). 

 

هذه خواطر تداعت إلي وأنا أرى بعض حدثاء السن والعقل والتجربة والنعمة يتطاولون على رموز الدعوة، ويتطايرون فرحا بإغلاق جمعيات الإصلاح والدعوة، استجابة لجهات خارجية تعلن حربها على الإسلام وأهله، وتتفاخر بولائها للصهاينة وأعداء الملة والدين، إن الإصلاح والدعوة الوسطية في هذه الأرض باقية بقاء محيطه وصحرائه وعلمائه ومحاظره، إنها قبس من إرث عقبة ابن نافع وأبنائه، وجهاد عبدالله بن ياسين وابن تاشفين، ومن عمر بعدهم هذه الأرض من علماء ولاته وتيشيت وشنكيطي ووادان، ومن نشروا العلم على ظهور العيس، ومن صدعوا بالحق في موريتانيا الحديثة.