على مدار الساعة

مقياس الإيمان في ضوء سورة (الماعون)

16 مايو, 2019 - 23:57
بقلم الدكتور محمد محمود أحمد محجوب

الشفَقَة، والحِلم، والعطف، والرحمة، والْمُعاوَنَة، والعطاء... مَعانٍ سامية، وأخلاقٌ رفيعة، يؤمِن بها الجميع، لطابعها الإنسانيّ، ويتعزَّز الإيمان بها لدى أولئك الذين لهم أسوة حسنة في الموصوفِ ﷺ بالرأفة والرحمة، والمنعوت بــ{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [الْقَلَم]، حيث كان يدعو إلى الفضيلة ويتحلى بها؛ عملا بما يُوحَى إليه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى] فساغ نعته "بأنه كَانَ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ".

 

 فأين نحن من ذلك؟ وهل يعكس سلوكُنا العملي ما نؤمن به من جزاء وحساب؟

 

سورة (الماعون) تُجيب عن ذلك؛ فلْنَعْرُجْ إلى مضامينها السامية، مُلتمسين - من الْمَدخل الأخلاقي فيها - البحثَ عن مقياس الإيمان.

 

***

أوّل ما يَسْتَرْعِي انتباهَ مَن يتدبَّرُ السورةَ الكريمةَ اسمُها: (الماعون) الذي هو لفظٌ لم يردْ في غيرها، ويُؤذِنُ - بحُكْمِ وروده ضمن سياق المنْع {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} - بمنزلة العطَاء في السورة، وعلاقة ذلك بالإيمان.

 

***

تتألَّف السورة من ثلاثة مقاطعَ متضافِرةٍ، متآزرةٍ، تُشكِّل في جُملتها: سؤالا:

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} (المقطع الأول).

 وجوابه: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ...} (بقية السورة).

وترسم - في مقطعيها: الثاني والثالث، للإنسان المكذِّبِ بالدين، مَشْهدَيْنِ قاتميْنِ، يَبْدُوانِ مُتمايِزيْنِ، ولكنهما - عند التأمُّل - متكاملان:

أحدهما تظهر فيه علاقة الإنسان بأخيه الإنسان {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)}.

 

والثاني تحضر فيه علاقته بربه {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}.

 

***

تَبدأ السورة، في مقطعها الأولِ، بدايةً لافتةً للنَّظر، مُمهِّدةً لمضمونها، ومشوِّقة متلقِّيها {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)}؟ فكل من في قلبه ذرة إيمان سَيُرْهِفُ السمعَ متطلعا إلى ما بعد هذا الاستفهام؛ استشعارا لهول الموقف، ووعيا بعظمة ما يترتب عليه!

 

***

وفي المقطع الثاني يَكْسِرُ القرآنُ الكريمُ - ببلاغته المعجزة - أُفقَ انتظار المتلقي؛ إذْ ضَرَبَ صَفْحًا عن المفاهيم القوليّة والاعتقاديّة جوابًا عن السؤال، واتَّجه، عوضا عن ذلك، وجهةً تطبيقيةً خالصةً، غير متوقعة: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)}!

 

ولك أن نستحضرَ صورةَ هذا المكذِّبِ الذي خسَّتْ نفسُه، ولَؤُمَ طبعُه، فجمع بين:

  • الفعل القبيحِ {يَدُعُّ الْيَتِيمَ}.
  • والترك المذموم {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}.

 فهو:

حين يُصادفه طفل بائس يتيم، جدير بالعطف والحنان والملاطفة، يُهمله، فلا تُحرِّك فيه حالتُه البائسةُ إحساسا ولا تُثير فيه أدنى شفقة أو شعور بالمسؤولية! وليته اكتفى بذلك! فلو اقتصر الأمر على إهماله (أي اليتيم) والإعراض عنه، أو صرفه بكلام - ولو غيرَ مناسب - دون أن تمتد يده إليه بالسوء - لكان الخطبُ هيِّنًا. لكن الطامة الكبرى أن هذا الدعي الذي انحرف عن الأخلاق السوية، والفِطَرِ السليمة خَلَعَ جِلبابَ الآدمية، وطفِق يقهر مَن قهرتْه الحياة أصلا (اليتيم) ويدفعه بيده دفعا متجاوزًا التعنيف القولي إلى الأذى الجسدي {فذلك الذي يدع اليتيم}!

 

وعندما تجمعه الحياةُ بمُعدم ناءَ عليه الدهر بكلكله يبخل عليه بماله؛ بل بمجرد الحضِّ على الإنفاق عليه: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)}!. وهذه غاية البخل. البخل بمجرد كلمة. {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ (38)} [مُحَمَّد].

 

ويبرز هنا سؤال جدير بالإثارة: ما العلاقة بين التكذيب بالدين (الجزاء) والسلوك المنفِّر الذي مثَّلَه دَعُّ اليتيم، وعدمُ الحضِّ على طعام المسكين؟

 

والجواب أن المقياسَ في الإيمان بالدين، والتكذيب به، هو السلوك العملي، والتطبيق الحي. واختير دعُّ اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين لأن الإيمان بالدين هو الدافع وراء عدم الانجرار إلى مثل هذين السلوكين؛ إذ ليس وراء صاحبيهما قوةٌ تدفع عنهما، ولا تُرجى منهما منفعة عاجلة لمن أحسن إليهما، فلم يبق إلا الإيمان (بالجزاء) وعدم التكذيب به: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}.

 

قد تقول بلسانك: إنك مؤمن، وتعتقد، في نفسك، أنك مؤمن، لكن الإيمان الحقيقي، بمعيار السورة الكريمة، ليس قولا فقط أو اعتقادا فقط. ولهذا فإن الشعائر التعبدية لا تسمن ولا تغني من جوع إذا لم يُخلصْ المرءُ فيها، فتَحمِله على السلوك الحميد، ولو كانت تلك الشعائر صلاةً! ولِأمرٍ ما رُبط المقطع الأخير، من السورة، بما قبله، بالفاء {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ...}.

 

***

 وفي اتساق بين شطري السورة نجد صورة المكذب بيوم الدين وهو يصلي! {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ...}. ولَعَمْري، إنها لمفارقة عجيبة أنْ يقفَ المرء بين يدي ربه يُناجيه، ثم يكونَ مكذِّبا بيوم الدين!

 

نعمْ، تلك ليست صلاة الذين { يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)} [المعارج]. أولئك صلاتهم: تقف في وجه الجشع والهلع {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج].

 

 تقف في وجه السلوك المنحرف {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ45} [العنكبوت]

 

أما هذه الصلاة فهي مجرد عبادة شكلية "ذات أقوال وافعال، تُفتتح بالتكبير وتنتهي بالتسليم" من غير أن تكون لها ثمرة. فصاحبها ساهٍ عنها سَهْوَ إعراضٍ وترْك،ٍ عن عمد! فحاله ناطقة بأنه من قوم إذا {قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُونَ النَّاسَ(142)} [النساء].

 

لا يجادل أحد في أن مِن ثمار صلاة المصلي الذي لا يُرائِي زكاة النفس، وسماحة النفس، فهونه لا يكون بخيلا، لا في أخلاقه، ولا في ماله، ثم هو لا ينتظر جزاء من أحد، ولا سيّما مَن كان كَسِير العظْم، مَهِيضَ الجناح كاليتيم والمسكين: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)} [الْإِنْسَان].

 

أما المرائي فهو من قوم {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ (37)} [النساء] {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ (67)} [التَّوْبَة] لا يمنعون الزكاة، فقط، والحقوق الواجبة، والأشياء المتمولة؛ بل {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}، أي يمنعون ما لا ينفعهم، ويضر منعُه غيرَهم، كالماء والملح والنار، وما يُتبادل عادة بين الجيران من الأدوات ونحوها، وهذه غاية البخل والشحّ واللؤم والدناءة!

 

وبذاك يتلاحم عجز السورة مع صدرها، فنرى المكذب بيوم الدين منّاعا للخير: يبخل على اليتيم بالعطف، وعلى المسكين بمجرد الحض على الإطعام، وعلى نفسه بالإخلاص في الصلاة، وعلى جاره بمنع الماعون. وهذه مجرد أمثلة لانحراف السلوك.

 

***

وهكذا نتبين من السورة الكريمة أن مقياس الإيمان ليس كلاما يقال، ولا عقيدة تضمر، ولا شعائر تعبدية تؤدى دون إخلاص؛ بل هو سلوك عملي يتجسد في: الأخلاق الحميدة، والمعاشرة الكريمة، والتعامل الراقي الذي ينعكس على حياة الناس: تكاملا، وتكافلا، وتعاونا، وبُعْدا عن العداوة والغش، والحرصِ، ... وغيرها من ضروب الأمراض الاجتماعية والنفسية، طمَعا فيما عند الله، وتصديقا بيوم الحساب.