على مدار الساعة

بيرام الداه اعبيدي.. مسيرة مثيرة بين مطبات الحقوق وأشواك السياسة

17 يونيو, 2019 - 17:19

يقول أهل التصوف والقوم السائرون في فلك السلوك " من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة " وقد عمل بيرام ولد الداه ولد اعبيدي بالمعنى الحرفي، ونقل الحكمة الصوفية إلى المجال الحقوقي واتخذ من حرق كتب أثيرة في الفقه الإسلامي ومحبوبة لدى العديد من الموريتانيين إحدى أهم بوابته نحو الشهرة.

 

كادت "المحرقة" - التي يخلد ولد اعبيدي وأنصاره ذكراها سنويا - أن تقضي عليه، غير أنه خرج من أزمتها أكثر قوة وجماهيرية، وقبس منها جذوة أضاء منها طريقه السياسي لدى كثير من أبناء شريحته وخصوصا الشباب والفتيات.

 

فيما أظهرت العملية لدى آخرين معتديا على كتب فقهية، عرف الناس من خلالها الإسلام وأدوا صلواتهم وعباداتهم ومعاملاتهم من خلالها طيلة قرون ..لكن بيرام وأنصاره يرددون بصوت عال جدا إن تلك الكتب كانت الأساس الديني الذي استرق من خلاله الحراطين في موريتانيا ونالوا من بشاعة الاسترقاق ما لا يخفى واقعا وآثارا وشواهد.

 

ملكة خطابية لافتة

امتاز بيرام في خطاباته بحالة شديدة من الخطابية الغاضبة، حيث يملك الرجل بجدارة عنان الحسانية والفرنسية، ويتحدث الولفية والبولارية، ويجد نفسه مصاب باستفزاز المكيرفون فما إن يقف أمام الجماهير حتى يبدأ في إطلاق الحمم السياسية، مستخدما عباراته الأثيرة مثل "افظيمة، الكج، البربر، الإقطاعيين" ومستخدما تعابير الوجه وحركات الأصابع، فهو يعبر عن مراده بأكثر من طريقة وأسلوب.

 

لا يوازي حجم التهم التي كيلت للرجل الذي صعد في عالم السياسة والحقوق في موريتانيا بشكل لافت، سوى حجم الثناء والإعجاب الذي يناله من أنصاره، ففي حين يتهمه خصومه بأنه صاحب طفشات وصفقات في الكواليس مع السلطات وعلى مستويات مختلفة، يتفاخر أنصاره بأنه الرجل الذي انتصر في كل معاركه، ووظف كل علاقاته لخدمة قضيته، حتى أوصلها لمحور النقاش في البلاد، وحولها إلى القضية الأهم في التناول السياسي والإعلامي خلال سنوات قليلة.

 

وبعيدا عن خلاف الخصوم والأنصار، فلا شك أن العقد الأخير عرف نقل القضية الحقوقية بشكل عام، وملف الاسترقاق بشكل خاص من الجدل السياسي الرتيب إلى الحدة والقوة، وأن قضيته دخلت كل بيت وكل حوار سياسي أو اجتماعي، كما انتقلت من المحلية إلى العالمية، وأن الناشط الحقوقي والنائب البرلماني والمرشح بيرام الداه اعبيدي كان في عمق هذه الحراك، وأحد عناوينه الرئيسية.

 

فقد حمل الرجل خطابا سياسيا راديكالي وافق فترة زمنية وصلت فيه أسئلة الزمن الحقوقي وإشكالات الملف العرقي إلى سن البلوغ وانطلقت تعيث اضطرابا في ملفات السياسة ورفوف الإفتاء وأضابير النقاش الفكري والحقوقي.

 

تجاوز بيرام ما يوصف لدى بعضهم بالثوابت الأساسية، وأعاد ترتيب العلاقة مع المجتمع، حيث ينطلق بخطابه إلى مفردات بالغة الوضوح بالنسبة للمراهقين والشباب من أبناء شريحته، يخاطبهم بلغة آلامهم وبآمالهم، يزاوج معهم بين خطاب ديني يقدمهم على أنهم ضحايا ظلم فرعوني ماحق، فيما ينال المجتمع حظه من تحميل المسؤولية في خطاب الناشط الحقوقي الثائر، ولا تكفي الكلمات أحيانا ما يريد من تعبير فيستنجد بحركات فلكورية تكمل تعبيره.

 

يتهم أنصار زعامات الحراطين بيرام الداه اعبيدي بالتجاوز في حقهم، وفي حق رموزهم الكفرية، وفي التنكر لنجاحاتهم، وما راكموه خلال العقود الأربعة الماضية، ويعتبرون أنه حول أغلب نجاحاتهم إلى درجات في سلم صعوده السياسي، فيما رأى أن خطابهم السياسي شائخ وأنهم أصبحوا جزءا من منظومة البيظان ونظامهم العرقي، وكانت له تعبيرات بلغة لم ينج منها مسعود ولد بلخير، ولا بيجل ولد هميد ولا أي من القادة التاريخيين للحراطين.

 

ينتمي بيرام ولد اعبيد إلى أجيال متعلمة من شريحة الحراطين، وهو أحد أبناء شمامة العارفين بها كما عرفتهم، عرفها في مواسم السيل عندما يلتقي الماء على أمر قد قدر، وعندما تبدأ المناجيل في شق غضون الأرض التي ينتمون إليها سكنا وولاء وزراعة ويملكها قوم آخرون.

 

عرفها أيضا عند مواسم الحصاد، عندما تتكدس البيادر وتتساقط السنابل المفعمة، قبل أن يأتي الملاك الروحيون للأرض ليشرفوا على أخذ نصيبهم غير منقوص، زيادة على الإشراف على عمليات إخراج الزكاة التي تكون في الغالب من نصيب الأٍسياد المالكين للأرض وكثير مما فيها ومن عليها.

 

ولد بيرام سنة 1967 درس المدرسة الابتدائية وحصل على الباكلوريا الأدبية، وسجل في الأدب الفرنسي بجامعة نواكشوط، كما عمل أستاذا عقدويا للفرنسية في ثانويات الداخل، قبل أن يعمل كاتب ضبط في المحاكم الموريتانية.

 

واصل بيرام دراسته الجامعية في الجارة السنغال وحصل على شهادة الماجستر، وعاد ليدخل المشهد الحقوقي والسياسي من بوابة الزعامة مركزا على المظالم التاريخية، والغبن السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه شريحته وهي التعبير الأكثر صراحة عن الاختلالات السياسية والتنموية في موريتانيا.

 

كانت كل تلك الوظائف التي مر بها في مساره المهني قاصرة وغير محققة لطموحاته.

 

يتحدث من عايشوا الرجل عن نشاطه السياسي في صفوف الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، في عهد رئيسه معاوية ولد الطايع، وكان سقوط نظام ولد الطايع وما تلاه موعدا لبيرام مع التركيز على البعد الحقوقي بقوة، والبدء بناء حركة حقوقية ناشطة وفاعلة.

 

أقام ولد اعبيدي علاقات قوية مع الوزير الأول السابق الزين ولد زيدان الذي عينه مستشارا في حملته، وقد حصل ولد زيدان على 15% في الشوط الأول استثمرها في الشوط الثاني لينال بها منصب الوزير الأول بعد مفاوضات مع ولد الشيخ عبد الله.

 

مع بداية حكم الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله أعلن الناشط الحقوقي بيرام الداه اعبيدي عن "مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية إيرا"، وبدأ يربط علاقات قوية مع نشطاء حقوقيين من المهاجرين الموريتانيين في الغرب، وسرعان ما استطاع هؤلاء تسويق بيرام بقوة لدى دوائر دولية متعددة، مستفيدين من فاعليته، وكارزميته.

 

يتحدث نشطاء من الحراطين عن تركيز بيرام في علاقاته الخارجية على عناصر من الزنوج، والاعتماد عليهم في إقامة منسقيات حركته في الخارج، وتغافل – كما يتهمه خصومه - عن قضية الرق والطبقية المؤلمة في مجتمع الزنوج.. ويقول هؤلاء إنه رأيه في الموضوع هو أن الزنوج لم يستعبدوا الحراطين ويمكن الاستقواء بهم من أجل تحطيم قوة البيظان الذين استبعدوا الحراطين.

 

تقاطرت على الرجل جوائز دولية كثيرة، ومعها بدأ بيرام يشتد قوة وجماهيرية.

 

الأكيد أن بيرام نزع عن الملف الحقوقي الثوب المحلي، والأكيد أيضا أنه نزع من قلوب الآلاف من أبناء شريحته حالة من القبول والتسليم بالأمر، وزودهم بوقود حارق من الغضب والحنق تجاه المجتمع الذي يرونه ظالما وعنصريا والدولة التي يعدونها إقصائية بربرية.

 

وقود الغضب المذكور يتوالد كل يوم ومع كل فترة سياسية، ولا يتأثر لحد الآن بحالات الشد والجذب التي يمارسها بيرام في أحيان كثيرة انتقادا للمنظومات السياسية والفكرية للبيظان في بعض الأحيان وتحالفا مع بعضها الآخر في أحيان أخرى.

 

بيرام وعزيز... العداء المرن

ربط بيرام ولد اعبيدي علاقات بالرئيس محمد ولد عبد العزيز تميزت بفترات مختلفة، حيث يتهمه خصومه بالقيام بأدوار سياسية في العام 2008 رفضها بقوة مسعود ولد بلخير، وبيجل ولد حميد وعرضت على شخصيات أخرى من الحراطين.

 

كما تحدث ولد اعبيدي نفسه يناير الماضي عن لقاءين سريين جمعاه مع ولد عبد العزيز، مؤكدا أن زمن اللقاءات السرية انتهي، وأنه لن يتلقي به مجددا إلا بشكل علني.

 

 كان مشروع الرئيس بيرام كان براغماتيا جدا في التعاطي مع الفاعلين في الساحة السياسية، واستغل كل علاقاته لخدمة الملف الحقوقي الذي جعله عنوان أنشطته، وركز في ذلك على حالة من الغضب والحراك المستمر في الشارع الحرطاني أو الحرطوني كما يقول بعض أنصاره.

 

بعد المحرقة التي صورها التلفزيون الرسمي في موريتانيا في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ تعامل الإعلام الرسمي مع الأنشطة ذات البعد المعارض، خرجت مظاهرات منددة بها في العديد من مناطق البلاد، وخرج الرئيس محمد ولد عبد العزيز ليلتقي إحدى المظاهرات ملثما، وليؤكد أن موريتانيا إسلامية غير علمانية، ويتوعد بإنزال العقوبات المناسبة ضد من ينتهكون حرمة الدين الإسلامي.

 

وسقطت ورقة الثورة التي حركتها جماهير معارضة، واتهمت فوق ذلك بأن لها علاقات مع حارق الكتب، وكسب ولد عبد العزيز معركة واسعة ضد كثير من خصومه في آن واحد.

 

أحيل بيرام إلى السجن ولقي هنالك عنتا وسوء صحة، قبل أن يخرج بعفو رئاسي بمناسبة ذكر المولد النبوي الشريف.

 

وفي 2014 تقدم ولد اعبيد للسباق الرئاسي، ونال تزكية العشرات من منتخبي حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، كما نال دعما ماليا معتبرا من مجموعتي أهل غده وأهل ودادي المقربتين اجتماعيا من الرئيس ولد عبد العزيز.

 

نال بيرام الرتبة الثانية في السباق الرئاسي، وبدأت الأزمات تتصاعد بينه والرئيس محمد ولد عبد العزيز وبدأ الخطاب يحتد أكثر.

 

دخل بيرام السجن مرة أخرى بعد مسيرة قادها في مناطق الضفة رفقة نائبه إبراهيم ولد بلال، مكثا في السجن قرابة سنتين، وخرجا منه وقد تحولت رفقتهما إلى عداء مستحكم، فأسس الأخير جمعية الساحل وبدأ يتحدث عن التعليم كأساس مركزي لحل مشكل الحراطين.

 

الزعيم الأوحد

لم يكن إبراهيم ولد بلال المنشق الوحيد عن حركة بيرام فقد خرج منها عدد كبير من القيادات السياسية والشبابية ونشروا كثيرا من غسيلها، واتهموا بيرام بكثير من التهم عنصرية واستبدادا، وهوسا بالمال وجهوية وبيعا للقضية في دهاليز الغربيين...

 

غير أن جميع المنسحبين لم يستطيعوا حجز مكان منافس لولد اعبيد الذي تزداد شعبيته مع الزمن ويتطور خطابه في سياق البراغماتية بشكل كبير.

 

البعثي القديم

عانى بيرام من غياب الشرعية القانونية، وعانى حزب الصواب من غياب الشرعية الشعبية خلال الفترة الأخيرة، وأعاد الطرفان العزف على أوتار "البعث والحراطين".

 

في انتخابات 2006 حصل الصواب على مستشار واحد في عموم البلد، وفقد المستشار في انتخابات 2013، وفي 2018 وبعد التحالف بين الصواب وحركة إيرا بقيادة "البعثي القديم" – كما يقول بعض المتابعين للشأن السياسي - بيرام ولد اعبيد، فقد استطاع الحصول على مقعد نيابي لرئيسه عبد السلام ولد حرمة ومقعدين لحركة إيرا.

 

ينشط قادة الصواب أيضا بقوة ضمن الحملة الرئاسية لبيرام الذي يصف بالكذب الصراح من يقول إنه مرشح الصواب، مؤكدا أن الصواب جزء من داعميه وقطعا ليس الأقوى ولا الأكثر.

 

في امبود قال بيرام إن تلك المدينة التي ينتمي إليها الآلاف من العمال اليدويين وعاملات المنازل، تذكره بقصص المستضعفين ويذكره السجن بقصة يوسف عليه السلام الذي انتقل من السجن إلى الملك، فتساءل المدونون: هل راودته امرأة العزيز بعد؟!

 

بيرام عاصفة سياسية تدور في الأجواء السياسية والاجتماعية في موريتانيا منذ أكثر من عشر سنين، ومؤشره الجماهيري في ازدياد رغم بعض الفتور والاضطراب في بعض الأحيان، وأنصاره يجزمون بأنه الرئيس القادم للبلاد ولن يمنعه غير التزوير.

 

ويؤكد خصومه أن طمعه بالرئاسة لا يبعد عن طمع إبليس بالجنة، وأن طريقه إلى التقاعد المريح طريق سالكة مثل بقية من سبقوه من الزعامات السياسية للحراطين حيث أخذ نفس طريقهم في الأبهة والثراء، ونمط العلاقات، وهي طريق توهن عظم السياسي وتثقل لسانه، وفي أحيان كثيرة تكسر رجله وتحول الجماهير في نظره إلى حراس وأتباع.. سرعان ما ينفضوا عنه بحثا عن زعيم جديد.

 

أما أنصاره فيردون بأنه استثناء في خطابه وفي جماهيريته وفي حصده للأصوات والجماهير وسيكون شريكا أساسيا في نظام ما بعد عزيز وسيكون له نصيب الأسد من السلطة والملك، لكن أنصار مرشح السلطة يقولون إن الشعب سوف يزن مواقف بيرام على كفتي ميزان ابن الغزواني.

 

نقلا عن صحيفة الأخبار إنفو