على مدار الساعة

نار 89 لن توقد، فالحطب مبلول

1 يوليو, 2019 - 13:31
الدكتور الشيخ أحمد ولد البان

لا يستدعي قمع مظاهرات شعبية محدودة العدد والمساحة كل هذه الإجراءات المهولة، ولا يتناسب حجم انتشار المظهر الأمني في الشوارع وقطع الأنترنت عن عموم الوطن مع ما أعلنته وزارة الداخلية -رغم أن سوابقها في التلفيق لا تسمح بتصديقها أول مرة -، الاعترافات الباهتة التي سجلها التلفزيون الرسمي من أجانب داخل مخافر الشرطة ليست لها أي مصداقية، فشرطتنا - بناء على تاريخها مع المعتقلين - كاذبة حتى يثبت العكس.

قطع شبكة الانترنت عن دولة كاملة ليست حالة عادية، فشبكة الانترنت أصبحت مثل الماء والغذاء، ترتبط بها مصالح الدولة والمؤسسات والأشخاص، ولا يمكن أن يكون قرار قطعها إجراء عاديا، هو إذن إعلان حالة طوارئ، ولكن بطريقة إلكترونية، السؤال الذي ما يزال دون جواب هو:

 

لماذا كل هذا التهويل؟

الواضح أن هناك "جهة توتير" تخطط لصناعة أزمة سياسية أو أمنية، أو قل أزمة أمنية تشرع أزمة سياسية، وبتطبيق المبدأ المخابراتي "فتش عن المستفيد" سيأتي في الواجهة الرئيس الحالي وقطبه داخل النظام، فهو الوحيد الذي يفيده اندلاع أزمة يسمح ببقائه في السلطة ولو إلى حين، فليلة في الخير / الغاز خير من أخرى ليست فيه.

 

وبالنظر إلى بعض الأحداث السابقة يمكن فهم أن ما يجري الآن كان خطة بديلة (لا يمكن القول بأنها ب أو ج لأنني لا أعرف كم عدد السيناريوهات المرسومة) للانقلاب الدستوري الذي فشل بعد أن كان قاب قوس واحدة من اعتماد المأمورية الحلم، لنتذكر هنا المسيرة الغريبة المستفزة التي دعا لها الرئيس الحالي ضد ما سماه بـ"خطاب الكراهية" يناير 2019، والتي قال فيها بشكل واضح: "الناس الذين هم خلف هذا الخطاب أقلية، لكن يجب علينا وضع حد لسلوكهم السام من أجل مستقبلنا".

 

اليوم فهمنا ما يعنيه الرئيس حينها بـ"أقلية" وما يعنيه بـ"وضع حد لسلوكهم السام"، كما فهمنا أن مسيرة "ضد الكراهية" كانت من أجل إحياء الذاكرة العنصرية وإعادة بعض القضايا الخطيرة إلى طاولة التداول العاطفي من جديد، وتهيئة المزاج الشعبي لما يجري اليوم من صناعة التلفيق والدعاية الكاذبة ضد مكون وطني، له الحق كغيره من مكونات المجتمع أن تكون له أحزاب ومؤسسات وحركات ومطالب في إطار الدولة الجامعة.

 

بعد مسيرة الكراهية بفترة وجيزة (ثلاثة أشهر تقريبا) تم إغلاق جمعية يدا بيد وهي تستعد لإطلاق "موسم الأخوة" السادس، ورغم أن إغلاقها جاء في سياق حملة على جمعيات ومؤسسات مدنية أخرى إلا أن إغلاق جمعية تعمل في مجال رأب الصدع الاجتماعي وبناء جسور التواصل بين مكونات المجتمع أمر لا تمكن قراءته دون استحضار نظرية المؤامرة على الشعب والمجتمع والدولة، ويبدو أن مجريات الأحداث الحالية تفك تباعا مُسَنَّنَ قُفْلِ السؤال المطروح:

لماذا أغلقت جمعية يدا بيد؟

ودت "جهة التوتير" لو أشعلت نار أحداث جديدة، على غرار أحداث 89 الأليمة وما تلاها، كل أدوات التوتير استخدمت، الأسلاك العسكرية كلها (الجيش، الحرس، الدرك، الشرطة) منتشرة في مناطق سكن إخوتنا الزنوج داخل نواكشوط وخارجها، والاعتقالات طالت العشرات من مكون اجتماعي واحد (من يعتقل من البيظان أو لحراطين يطلق سراحه بسرعة)، وأنباء عن حالات تعذيب، واستجلاب منطق المؤامرة الخارجية. ، نفخت النار إذن، ولكن الحطب كان مَبْلُولًا، لم يشب الحريق رغم كَبْسِ الولَّاعةِ طيلة أسبوع كامل، فقد تطور وعي المجتمع، وانفضحت أساليب الأمن خلال 60 سنة. كما عادت الألفة أو كادت بفضل الله ثم بجهود شخصيات دعوية واجتماعية واعية ومؤسسات وجمعيات راشدة.

 

إن هناك مؤشرات كثيرة على أن "جهة التوتير" تعمل على إعادة سيناريو 89 – 90، إن لم يكن بتكرار أحداثه ودمائه فعلى الأقل بصناعة جوه ومزاجه ومشاعره، وذلك من خلال بث "جهة التوتير " لدعايات هدفها عزل مكون الزنوج والاستفراد به بعد بناء جسور عدائية بينه مع بقية المكونات، ولعل الدعاية التي انتشرت بأنهم كانوا يستهدفون كيان الدولة ويسعون لاغتيال أحد رموز مكون ما، من أجل استثارة أنصاره ضد مكون آخر؛ لعل كل ذلك هو سعي لخلق ذلك المزاج.

 

ليس السؤال الأهم اليوم هو لماذا تسعى "جهة التوتير" إلى هذه الأساليب الرخيصة، ومن هي تلك الجهة بالضبط التي تحش النار غير عابئة بمن سيصيبه شرر الموقد؟ لكن المهم هو كيف نستطيع أن نوقف اللعب بوحدتنا من خلال فعل تضامني صريح وجاد مع إخوتنا الزنوج المستهدفين بالاعتقال والمضايقة والاستفزاز، ومن خلال تلاحم اجتماعي تعبر عنه فعاليات أخوية شعبية عفوية، تقطع الطريق على دعاة الفتنة وصانعي الأزمات، وهو جهد ينبغي أن ينبري له العقلاء من شخصيات اجتماعية وسياسية وفكرية وشعبية من مختلف مكونات المجتمع، بما فيهم الزنوج أنفسهم الذي ينبغي أن يسهموا بفعالية في رفض أي خطاب عنصري والتبرؤ من كل فاعل أو فعل قد يساعد "جهة التوتير" على صناعة سيناريوهاتها الدعائية وتنفيذ مخططها البائس.

 

إن الواجب على الذي يجد لصوصا شاهري أسلحتهم للاعتداء على بريء هو أن ينقذه أولا، لا أن ينشغل بسؤالهم عن أهدافهم ومراميهم من وراء فعلتهم تلك، لأن معرفة دوافعهم بعد أن ينفذوا الجريمة غير مرجع للضحية نفسه ولا ماله ولا عرضه، وهذا ما يجعل التضامن مع إخوتنا الزنوج في الظلم الذي يقع عليهم الآن هو واجب الوقت، إن استمرار مظاهر العسكرة والاعتقالات في المدن التي يشكل الإخوة الزنوج غالبيتها مثل: كيهيدي وبابابى وغابو إلخ وفي مقاطعات مثل السبخة استفزاز لا مسوغ له، وهو طريقة لتخصيب الغضب والحنق داخل النفوس، فالذي يستيقظ على أسلحة ثقيلة تشهر تجاه بيته وسيارة تجوب الشارع الآمن حوله لن يظل سوي النفس، خاصة إذا كان لا يرى أي سبب لهذا الوضع.