على مدار الساعة

عوائق وتحديات في الوطنية الموريتانية

21 أغسطس, 2019 - 20:08
بقلم سيدي محمد عبد الوهاب - حاصل علي شهادة في الدراسات الدولية

يعتبر موضوع الوطنية في موريتانيا موضوعا نتناوله بتناقض في المشاعر، وتردد في الدلالات، ومخاوف مبررة، وتوتر جد مؤكد.

 

إن هدفنا هو تقديم فكرة عامة عن الصعوبات التي تعيق المفهوم الوطني، وغيرها من العقبات التي تقف أمام الشعور الوطني، ومعاناة كافة أصناف الوطنيين، والتذبذب الطوعي أو غير الطوعي بين الوطنية الزائدة، والشرطية الوطنية، وكذا اللامبالاة بمصير الأمة، أي الانتجاع الوطني المألوف.

 

إن التعريف المعتمد للوطنية ينحصر في حب الوطن، واعتزاز المرء بكونه ولد على أرضه، واهتمامه بمصلحة بلده ومستقبله.

 

إن تعقيد تاريخ التعددية المحلية، ورسوخ المرجعيات التقليدية (القبيلة، والعرق، والمنطقة، والعشيرة، والفئة الاجتماعية، ...)، والاستقلال المكتسب الذي منحنا إياه، وضخامة مشروع الدولة القومية المزمع بناؤها انطلاقا من بنية تحتية شبه معدومة، وتقلبات البقاء في بيئة سياسية ومناخية معادية، وغياب سلطة مركزية في الفترة ما قبل الاستعمار، كلها كانت عوامل ساهمت في جعل الرؤية الوطنية صعبة التشكيل، مبررة أن الاهتمام بالبناء أولى من التنظير، وأن التشييد أولى من التأمل، وأن العمل الميداني أولى هو الآخر من النظر إلى مجرات السماء الصحراوية طيلة ستينيات القرن الماضي.

 

إن ميلاد جمهورية في خضم غليان أيديولوجي دولي متعدد الأقطاب (الحرب الباردة، عدم الانحياز، الحركة الزنجية، القومية العربية، الاشتراكية، وحركات التحرير الوطنية) سوف يترك بصماته على كافة الصراعات السياسية داخل هذه الدولة الفتية، في تلك الآونة وقد طغى الحلم الكوني، أو العالمي على الحلم المحلي، الخاص بموريتانيا.

 

لقد بدأ المسار الوطني مع إنشاء العاصمة، ومزاولة ميفرما (MIFERMA) لأنشطتها، والاعتراف الدولي بالجمهورية الناشئة.

 

إن تمسك جماهير عريضة من مختلف أنحاء البلاد والكثير من النخب بهذا المشروع الوطني "لنبني معا موريتانيا" خلق بيئة وطنية ميزت الضمير الوطني خلال العقود الأولى من الاستقلال رغم التعتيم على التاريخ الوطني، وتجاهل تضحيات المقاومة المناهضة للاستعمار، والتبعية للمستعمر السابق إضافة إلى التجاذب الناتج عن البحث عن الهوية.

 

الصدمة الأولى وردودها:

في مايو 1966، شكلت الأحداث الطائفية بين الطلاب السود المحتجين على إضفاء الطابع الرسمي على اللغة العربية ونظرائهم العرب لحظة استثنائية، وهزة وطنية كانت فاتحة لفصل طويل من الصراع حول تعريف الهوية الوطنية والتعايش بين المجتمعات المكونة لساكنة البلد.

 

فقد نزف أول جرح وطني، وكان عبارة عن كارثة وطنية تواصلت إثر محاولة الاستيلاء على السلطة سنة 1986 من قبل مجموعة من الضباط السود، وستصل الكارثة أوجها خلال الأحداث المأساوية التي حصلت في الفترة 1989 - 1990.

 

ومنذ تلك الأحداث أصبح هاجس لون البشرة مهيمنا على الرؤية والأنشطة العمومية، وأصبح للنظريات القومية أو القائمة على لون البشرة أتباع ومروجون وأيديولوجيون بارعون.

 

من هنا شكلت مسألة اللغة الرسمية ساحة معركة سياسية حيث يحتدم صراع شرس بين النخب، كل واحدة باسم فكرة معينة عن موريتانيا، وهكذا نسجل تراجعا واضحا بالنظر إلى آلاف السنين من التعايش السلمي دون أن تسجل أية حروب عرقية.

 

شهدت بداية سبعينيات القرن الماضي تقاربًا ملحوظًا بين نظام المختار ولد داداه والحركات الثورية (الكادحين) بعد مراجعة اتفاقيات التعاون مع فرنسا وإنشاء العملة الوطنية وتأميم شركة الحديد الموريتانية (MIFERMA). شكل ذلك كله لحظة استرخاء وسمح بنفس جديد تمثل في وحدة مختلف الحركات داخل حزب الشعب الموريتاني.

 

كبوة وطنية ثانية: حرب الصحراء

أثار التفاوض حول مستقبل الصحراء الغربية إثر سقوط نظام فرانكو في إسبانيا، نقاشًا جديدا ومجالا آخر للتجاذب شمل مختلف مستويات الأوجه الوطنية.

 

لقد اتسعت تدريجياً، بين المطالبين بالصحراء كجزء لا يتجزأ من موريتانيا، وبين أنصار تقرير المصير للشعب الصحراوي، فجوة عميقة سقط فيها من الجانبين العديد من الوطنيين المخلصين، كما سقطت فيها أفكارهم وكل ما لديهم، بما في ذلك أحلامهم وحياتهم أحيانًا.

 

لقد أدت اتفاقيات مدريد بشأن تقاسم الصحراء بين المغرب وموريتانيا إلى فترة من التقلب والتذبذب الوطني بين مشاعر الفخر (بعد لَمِ الشمل مع الجزء الآخر من التراب الوطني) ومرارة مغامرة غير مضمونة النتائج، أو كبوة تاريخية خاطئة، أو عمل عدائي تجاه شعب شقيق.

 

لقد شكل اندلاع حرب الصحراء في أواخر عام 1975 فاتحة نزاع مسلح بين الأشقاء في شمال البلاد، كما كانت تلك الحرب مغامرة لم تكن محسوبة التأثير على البنيات السياسية والعقلية للجمهورية الفتية.

 

وبرزت للعيان فجوة ثانية في الشمال مع الكثير من المعاناة والانقسامات العائلية والخوف والارتباك والشك والجروح المفتوحة...

 

وقد أدى استيلاء القوات المسلحة على السلطة في يوليو من العام 1978 إلى وضع حد للنظام المدني الذي كان يسير البلاد منذ الاستقلال، وتقرر في ما بعد البدء في تنفيذ الإجراءات الخاصة بالانسحاب من نزاع تم اعتباره - منذ ذلك الوقت - غير عادل ويستحيل تبريره.

 

إن سياسة الحياد المعتمدة رسمياً فيما يتعلق بالصراع في الصحراء لم ولن تستطيع محو تأثير التوتر الداخلي القائم بين مؤيدي "صحراوية الصحراء" والقائلين بموريتانيتها، وأنصار المغرب، فقد حصل تخندق أعمق بكثير من التخندق في معركة فردان الشهيرة (1916)، ولا غرو إن اشتاق إلى الصحراء المولعون بموريتانيتها وعبروا عن مشاعرهم سرا أو علانية، أو باحوا باعتقادهم في ما بات معروفا بفكرة معينة عن "موريتانيا الكبرى".

 

يجب التسليم أيضا بأن للمترددين، والمحايدين، والمتقلبين ألف سبب لاتخاذ مواقفهم.

 

إن هذا الجرح الكبير الثاني سيلغي بظلاله على المناخ السياسي والاجتماعي مما سيؤدي إلى احتدام خلافات عميقة بين الضباط في السلطة ومن يطرحون إشكالية التضحيات التي قدمها الجنود "الوطنيون" والمواطنون العاديون خلال سنوات الحرب. لم يعد هناك معنى لمقالة هوراس: "إن الموت من أجل الوطن حلو وجميل"، فما أمر العض على حصى الاستسلام!

 

لقد شكلت محاولة الإطاحة بالسلطة في 16 مارس 1981 مثالا مأساويا دالا على مثل هذا الانقسام على مستوى القمة بعد مرور أكثر من عام على الاختفاء الرهيب لطائرة كانت تقل عددا معتبرا من كبار الضباط العاملين آنذاك في الحكومة بما فيهم العقيد أحمد ولد بوسيف، وكانت تلك خسارة وطنية صعبة التعويض.

 

والآن، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، فإن النقاش الموضوعي والنزيه لا يزال ناقصا حول هذه الحرب التي سببت العديد من الخراب واختلطت بموجبها المفاهيم الداخلية وأثرت خصوصا على الحماس الوطني وروح التضحية، كما نلاحظ أيضا أن بموجبها حصل تقارب سريالي بين مفهومي الولاء والخيانة.

 

ونلاحظ أن استقالة وطنية صامتة شقت طريقها تدريجياً إلى القلوب والعقول وأدت إلى أخلاقيات سلخ الدولة، وإلى سباق محموم للإثراء غير المشروع على حساب الجمهورية.

 

آفة الفساد
يضاف إلى الجروح سالفة الذكر ظاهرة مستشرية خطيرة أحدثت منذ العام 1980 أضرارًا مادية وعقلية هائلة أثرت سلبا على كافة الرؤى الوطنية وأفقرتهاً.

 

إنها ظاهرة الفساد الشائعة، والتي تتمثل في الاستيلاء على الممتلكات العامة واستغلال الهيئات القانونية والمالية للدولة بغية تحويلها إلى ممتلكات خاصة. انتشرت ظاهرة الفساد على نطاق واسع في الإدارة وشملت العديد من الممارسات بدءا من استخدام النفوذ من أجل الإثراء الشخصي، ووصولا إلى نهب المال العام بواسطة كافة الحيل التي يمكن من خلالها تحويل المال العمومي إلى ممتلكات خصوصية.

 

إن محاولات الانقلاب التي عاشتها البلاد سنتي 2001 و2003، والتي قام بها "فرسان التغيير" ضد الرئيس معاوية تشكل مثالا على مستوى المعاناة والإحباط والتمرد ضد اللامبالاة المستشرية التي أدت إلى تكريس تباين فظيع في مستويات المعيشة لدى مختلف الفئات، والذي بموجبه أصبح البلد مرهونا تنمويا.

 

إن هذه السطور القليلة ستبقى عاجزة عن تفسير ظاهرة كظاهرة الفساد، تستحق أن تخصص لها موسوعة.

 

يبقى موضوع "الحرب على الفساد" حديث الساعة بين الحكومة ومناوئيها في صفوف المعارضة.

 

نلاحظ وجود قضية وطنية كبيرة أخرى ظهرت في السنوات الأخيرة، وأثرت بشكل كبير على النقاش الدائر حول العدالة والتاريخ والوطن:

 

مسألة العبودية والحقوق الاجتماعية

لقد بدا واضحا أن المراسيم الرسمية لإلغاء الرق ومكافحة العبودية ليست كافية للرد على ظلم قديم سحق جزءًا كبيرًا من السكان على مدى قرون، وأصبحت عواقبه ظاهرة الآن على نطاق واسع في المدن والقرى والبوادي الموريتانية.

 

فعلى المستوى النظري، تستمِد الظلال الحزينة للعبودية من تاريخ الساحل والصحراء غطاءها الكثيف من المعاناة والاستغلال والإذلال والسحق واليأس بالنسبة لجزء كبير من مواطنينا في المدن، و الواحات، والصحراء، يمثلون الفئة المنسية في تاريخ وطني لا يزال قيد إعادة الكتابة.

 

تعرب بعض الحركات والمنظمات غير الحكومية مثل حركة الحر، نجدة العبيد، الميثاق من أجل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين داخل موريتانيا موحدة وعادلة ومتصالحة مع نفسها ...) عن طموحات أبناء تلك الفئة الذين عانوا من أخطاء وجرائم ماضي ظالم ومقيت.

 

كيف تحب أمة ظلمت أسلافك كثيرًا؟ كيف تفخر بالانتماء إلى جمهورية سحق ماضيها ذويك؟ كيف تمحو آلاف السنين من المعاناة الجسدية والعقلية التي لا تزال آثارها تجتاح المخيلة الوطنية؟ ...

 

على الرغم من التقدم المحرز منذ الاستقلال بفضل المدرسة الجمهورية القديمة وبعد التقري الهائل، وإصدار القوانين التي تجرم العبودية و الحملات التي تقوم بها الحكومات المتعاقبة والمنظمات غير الحكومية (التعليم، والصحة، وفك العزلة)، تبقى مشكلة العدالة (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) على حديث الساعة، وفي قلب الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية في 22 يونيو 2019.

 

الخاتمة

لا يمكن للسعي من أجل وطنية حقيقية في موريتانيا الاستغناء عن التفكير الموضوعي في التاريخ الوطني والذاكرة الجماعية والهوية الثقافية والتقدير المنصف لعمل الأنظمة المتعاقبة (الإنجازات والأخطاء والنواقص) والحركات التحررية منذ فجر الاستقلال.

 

تتطلب الجروح الوطنية المذكورة معالجة عادلة وتقييما موضوعيا، ويجب أن تتم تلك المعالجة في جو تطبعه الكرامة والاعتدال.

 

وإذا ما أمكننا الاقتباس من مقولة لـ لويس مانارانش (أستاذ في التاريخ) حيث يقول: "استغرق الأمر قرونا لتتكون فرنسا"، ونقول نحن إن آلاف السنين مضت لتتشكل موريتانيا اليوم.