على مدار الساعة

الحداثوي العربي الحزين!

27 أغسطس, 2019 - 15:57
أحمد فال الدين

وقتما يكون جهدُك منصبا على نقد منافسك، والتفكير فيه، والتحذير منه فاعلم أنك فقدتَ زمام الفعل الواعي. فذاك يعني أن مَنقُودَك يكتب وأنت تُهمّش. أنت غبارٌ مُثار، وصاحبك يركض ممتطيا صهوةَ التاريخ الوثيرة.

 

لعل من أطرف الظواهر السياسية في ديار العرب هذه الأيام موجة الحرب المسعورة على الإسلاميين. وتأخذ هذه الحرب وجهيْن، وجهًا حسيًا بالقتل والنفي -وهو ما يقوم به الملوك والجنرالات- ووجهًا إعلاميًا يتولاه تحالف عريض من فلول القومية البائدة، والعلمانية الفاشية، واليسارية المسكونة بهموم الحرية الاجتماعية المنفصلة عن أختها السياسية.

 

ولا جَرَمَ أنْ لا رابط بين هذه الأطراف غير عُصَابِ الخوف من الإسلاميين، حتى لا نقول من الإسلام. ولا عجب أن لاحظ الباحث الأميركي بمعهد بروكنغز شادي حميد أن المشروع الوحيد الذي يبشر به هؤلاء هو “عداء الإسلاميين” فحسب. فتلك هي البنية الثابتة في ما يقدمون من خطاب.

 

لقد اتحدت هذه الفئات للحرب على الإسلاميين دون أن تجمعها رحِمٌ فلسفية أو خميرة اجتماعية. فهم أوجهٌ سياسية متشاكسة، وسُحَنٌ ثقافية متنافرة، تنادي بالويل والثبور والتحذير من الإسلاميين دون أن تبسط لمجتمعها مشروعًا منافسًا، أو تقدم ضريبة سياسية للبرهنة على استعداداها لخدمة هذا المجتمع.

 

اللائكي الحزين

يلاحظ المتابع لكتابات ومواقف الحداثويين سمةً نفسية ملازمة لمعظمهم مهما اختلفت خلفياتهم وتناءت بلدانهم: سمة الاكتئاب. فلا تكاد تقرأ لأحدهم حرفًا إلا يقطر كآبة، ولا تستمع لعلَمٍ من أعلامهم إلا خيل إليك أنه واقف على حافة ثقب أسود، ينادي على البشرية بالخراب.

 

وإذا عايشتَ أحدًا منهم معايشة قريبة وجدتَه لا ينفكّ مقطب الجبين سيء الظن بنفسه، والناس والأيام. ولست هنا بمعرض القول الفلسفي الممجوج عن منزع التشاؤم باعتباره سمة من سمات عصر الآلة، أو نتيجة من نتائج الحداثة وما بعدها. بل أتحدث عن الحداثوي العربي الحزين ذاتًا مخصوصةً، تعيش بيننا تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. وهي ذات فريدة (مُحنّطة وخارج تاريخ هيغل) لا تنتمي للقوالب الدارجة فلسفيًا أو فكريًا شرقًا أو غربًا.

 

ولعل أهم أسباب هذا الحزن الدائم تتلخص في النقاط التالية.

 

الخوف من المجتمع

يخاف الحداثوي العربي خوفًا مرضيًا من مجتمعه. فقد تعود على أن المجتمع لا يثق فيه ولا يعترف به فاعلًا مؤهلًا للقيادة. فلا ينتخبه ولا يقدمه في لحظات الاختيار الحر غالبا. لذا لا يجد نفسه في السلطة إلا على ظهر دبابة أو متحالفًا مع مستبد. وهو مع ذلك جزء من هذا المجتمع مضطر للتعاطي معه. فهو لا يستطيع ترشيح نفسه لقيادة المجتمع الدانماركي أو الموزمبيقي مثلا. في هذا الجو الطارد، يجلس كظيم القلب، متواصل الأحزان، متقطع الأنفاس يتلمّظ حنقا… ليمارس السياسة أو الكتابة.

 

والحداثوي خائف لمناقضة مرجعيته الفكرية لمرجعية مجتمعه. فالعرب عمومًا (والانتخابات في أجواء الحرية هي الطريق الوحيد لكشف آراء المجتمعات) يبحثون عن حل يزاوج بين القيم السياسية الإسلامية (انتخاب الحاكم، القسط بين الناس، ومنح المجتمع حرية التدين أو عدمه مع احترام الهوية الحضارية الجامعة، إلخ..) وبين الإجراءات العالمية الدارجة لتنفيذ تلك المبادئ. أما الحداثوي العربي فلا يريد هذا، ويعيش انفصامًا مريعًا ينعكس على مزاجه حزنًا.

 

فهو يدعو إلى قيم الحرية والعدالة بلسانه، لكنه يعاديها واقعًا بسبب صفعات صناديق الاقتراع التي لا تفتأ تُدمي خدّيْه. وهو -لأنانيته السياسية- لا يريد ديمقراطية لا تأتي به وحده، وهي لن تأتي به بسبب حَوَلَه الحضاري النزّاع للقيم المصادمةِ لقيم المجتمع المنتخِب. ولذا كان الحداثويون العرب -غالبًا- وقودًا للثورة المضادة في دول الربيع العربي؛ بدءا بالبرادعي وحمدين صباحي في مصر، وانتهاء بحداثويي تونس وليبيا… الحَزانى.

 

لقد أفاق الحداثوي الحزينُ على حقيقة مريعة هي أن الانفتاح والديمقراطية يعنيان تحييده عن أماكن النفوذ ودفعه إلى الهامش بالحسنى، وأن مزيدًا من الديمقراطية يعني مزيدًا من نفوذ الإسلاميين (حسب العبارة السيارة للمختص الأميركي نوح فريدمان). ففي لحظات تحرر الشعوب يضج الفضاء العام بالإسلاميين والآراء المتنوعة والسُّحَن الفكرية المختلفة، وفي لحظات البطش والسجون يضج الفضاء العام بالحداثويين العرب والعساكر والمهرجين والفاسدين والضريحيين. تلك قاعدة لا تكاد تنخرم.

 

في هذا الجو وجد الحداثوي نفسَه مضطرا للعيش بشخصية انفصامية: الدعوة للديمقراطية علناً بالأقوال (فلا مسوغ سياسي لوجوده دون ذلك) ومحاربتها واقعًا بالأفعال، وهو ما تفضحه تصرفاته السياسية والثقافية اليومية. والعيش بهذا الانفصام يُخلّف شرخا عميقا في النفس البشرية يُترجم حزنا وخوفا من المجتمع وتوترًا أبديًا.

 

عقدة اللص

ثمة سبب تاريخي آخر لحزن الحداثوي العربي وخوفه من مجتمعه، وهو عقدته من الجرائم الإنسانية التي ارتكبها أثناء حكمه لكثير من الدول العربية. فاللص حزينٌ تعس وخائف دومًا من ضحاياه.

 

فجمهوريات الضباط التي حكمت العالم العربي بالنار، وجعلتْ العربياتِ أغزرَ نساء العالمين دموعًا بسبب السجون والمعتقلات؛ كانت حاكمة باسم اليسارية والعلمانية والتحديث. والنماذجُ ماثلة في الأذهان؛ بدءًا من عبد الناصر، مرورًا بالقذافي وبورقيبة، وانتهاءًا بالعائلة الباطنية: بشارًا وأباه. ولم تقدم هذه الأنظمة الحداثوية خلال تلك العقود للعرب غير السجون المعتمة، واللجان الشعبية، والبلطجية، والشبيحة، وسجون تدمر، وأبي زعبل، وبو سليم، وجماعات الهجرة والتكفير، ثم القاعدة وداعش. بالإضافة إلى حزمة طيبة من الهزائم في ميدان المعارك ما زالت قاعات الدرس في الكليات العسكرية الدولية تتلوها آياتٍ بيناتٍ في الهزائم الاستثنائية.

 

الحداثوي الضريحي

هذه الحالة القلقة تجعل الحداثوي العربي جالسًا على كرسي زئبقيٍ أبدًا. وهو أمر يدفعه إلى تصرفات تبدو في غاية الطرافة والغرابة، وتفضحه يوميًا أمام مجتمعه مما يزيد عزلته ويفاقم عُقَدَه. فمع أنه حداثوي يعلن ضيقه بدخول الدين في المجال العام، فإنه يتحالف مع التدين الضريحي في المجال العام، ويهشُّ ويبشّ للتيارات الجامية (حالة ليبيا والسعودية، والإمارات، ومشايخ التصوف السلطاني في عدة بلدان). وكان من الطبيعي –لولا الانفصام النفسي الحاد- أن يكون الحداثوي خصيمًا للتدين الضريحي والجامي، وأقربَ للتيارات الإسلامية الحركية حاملة لواء الدفاع عن قيم الحرية والمساواة. لكن الحداثوي العربي لا يكتفي بالسكوت عن التدين الضريحي الخزعبلاتي، ولا الجامي العابدِ للقوة، بل يدافع عنهما فلسفيًا ويحالفهما سياسيًا. وإلا، فما الذي يجمع بين يساري مادي ساع للثورة، وجامي تتمحور دعوته حول تحويل الإسلام إلى إيديولوجيا لعبادة القوة؟

 

عقدة الوجود الافتراضي

من أسباب حزن الحداثوي العربي المفازةُ الواسعة التي يلمسها بين وجوده الافتراضي والميداني. فهو يدخل المجال الافتراضي فيجد لنفسه كينونة وهوية. يطرح أفكارًا فيناقشه مدنون حقيقيون أو وهميون، ويحس لنفسه وجودا ماديًا ما دامت لوحات المفاتيح تتحرك متفاعلةً معه، واللايكاتُ تلمع في زاوية حاسوبه. فيُخيل إليه أنه غدا شيئا مذكورًا في مجتمعه.

 

لكنه ما إنْ يطفئ وسيلة التواصل الاجتماعي وينزل من عالم النت كاراً إلى منزله أو جامعته أو سوقه حتى ينكر ذاته. فلا وجود حقيقي له على الأرض…. ذات الطول والعرض. 

 

وذلك لأن انتزاع المكانة الاجتماعية والسياسية في أي مجتمع يحتاج إلى مخالطة الناس واحترامهم، ومعرفة همومهم. لابد أن يُعرف الرمز السياسي في معمله وحيه ووسط مجاله. فيكتسب بذلك وجودًا ماديًا واعترافًا أدبيًا. أما مجرد الوجود الافتراضي فوجود افتراضي فحسب. فالمجتمع لا يمنح ثقته لكائنات غرف الدردشة الافتراضية.  

 

يشتد حزن الحداثوي عندما ينزل للميدان فيجد الثقة المجتمعية ممنوحة للإسلاميين بما كسبتْ أيديهم من خدمة للمجتمع وتقلّب في مصالحه، وتصالح مع هوياته. فالإسلامي هو الذي يذهب للأدغال ليلّعم الأميين كيف يقرؤون، ويبني المؤسسات التي تساهم في نزع فتيل الصراع في المجتمع، ويقدم النماذج الحية من خلال رموزه لتغيير الأنماط العنصرية البائدة (حالة موريتانيا).

 

والإسلامي معروف العنوان، يعرفه الناس في مسجد الحي، وعند منعرج السوق، وفي البوادي والجامعة. أما الحداثوي فمنعزلٌ في زاوية يشتم المجتمع ويعيش –بعضهم- حياةً مزْدكيةً على ضفافه.

 

الحداثوي مسمار المستبد؟

من خصائص الحداثوي العربي أنه كثيرًا ما يكون سلطانيًا وإنْ عارض، ومسمارًا خادما في سفينة المستبد وإن صرخ بضد ذلك. فجهده ووقته منصرفان لقدح الإٍسلاميين لا لثلب المستبدين. وكتاباتُه اليومية مُسخّرة لنقد إسلاميين وراء القضبان، لا لفضح مستبد يتسنم مقاليد الحكم. ولكثرة نقد الحداثويين للإسلاميين يخالُ المتابع أن الإسلاميين يحكمون البلاد، ويتسنَّمُون ذِروةَ السلطة بلا منازع.

 

غير أن ذلك دليلا آخر على الحقيقة التي يجمع عليها عقلاء الدارسين. وهي أنه لا وجود حقيقي في العالم العربي –غالبا- إلا لطرفين: سلطة مستبدة غالبة، وإسلاميين إصلاحيين يقارعونها.

 

ولذا، على عقلاء الحداثويين أن يعرفوا أن الإسلاميين وقود التغيير الجاد، وعلى الصادقين منهم أن يتكاتفوا معهم ليكونوا يدا واحدة لتحرير المجتمع سياسيًا وثقافيًا. ولعل نموذج أيمن نور ومنصف المرزوقي نموذج صحي وملهمٌ في هذا الباب. فقد عجزت نساء العلمانيين أن يلدن ديمقراطيين غيرهما.

 

أما الإسلاميون فهم الذين قاموا بمراجعات فكرية وسياسية –كما يقول الدكتور عزمي بشارة-  كما مدوا أيديهم مرارا للتحالف مع الجميع. ولعل الأشهر السابقة للانقلاب في مصر أكبر دليل على ذلك. يوم رفض البرادعي وصباحي الدخول في حكومة مرسي من أجل إفشال أول ديمقراطية في تاريخ مصر… ليأتوا بالسيسي.

 

ولله الأمر من قبل ومن بعد.