على مدار الساعة

قراءة بين السطور في الحداثة الموريتانية المزعومة

3 سبتمبر, 2019 - 13:07
إبراهيم الحيمر

لم يكن المجتمع الأوروبي قادرا على تخيل حجم الصدمة الناتجة عن أطروحات اللاهوتيين الجدد في القرون الوسطى المسيحية حول ما كان سائدا من أنماط التدين في مجتمعات هيمن فيها رجل الدين على الدين والسياسة والمجتمع بقوة سلطته الروحية التي كبلت عقول أفراد المجتمع آنذاك، فما هو السياق الذي نجحت فيه المراجعات النقدية لأنماط التدين في المجتمع الأوروبي؟

وهل التجربة قادرة على أن تستنسخ في مجتمعاتنا الإسلامية؟

ما هي الحداثة؟ وهل نحن بحاجة إلى حداثة إسلامية أم أن الحداثة الغربية تكفينا عناء إبداع حداثة خاصة بنا؟

 

لم يعهد إلى الحداثويين الموريتانيين أن يدعوا لحداثة لم يعرفوها ولم يتقنوا معرفتها، فالفرق بين الحداثي والحداثوي أن الحداثي عالم بالحداثة وكل مقرراتها وأدبياتها، والحداثوي هو المنبهر بالحداثة دون إتقانها وإتقان مقرراتها، ومعرفة منابعها الأصلية وتاريخها وطبيعة المجتمعات التي ظهرت فيها.

 

ذهب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر إلى أن الحداثة هي نزع القداسة عن العالم السحري الغيبي والتحرر من سلطة الماضي إلى سلطة العقل مع تقديس مطلق للعقل، وتتلمذ على هذا الطرح الفيلسوف الألماني ليو ستروس الذي شرح كثيرا أطروحات ماكس فيبر حول الحداثة، لو أردنا أن نستعرض أطروحة فيلسوف الحداثة يورغن هابرماس في تقسيمه للعقلانية سنقول الآتي: هابرماس قسم العقلانية إلى أقسام أربع:

- عقلانية إجرائية (الحس المشترك في المجتمع الواحد).

- عقلانية أداتية (نزع الأخلاق والقيم من العقل)  

- والعقلانية الوضعية.

- وأخيرا العقلانية التواصلية التي دعا لها هابرماس وعبر عنها في التواصل بين المجتمع الواحد وبين المجتمعات الأخرى (العقلانية الكونية) وهذا يحيلنا لإشكال آخر كبير كونية الثقافية أم خصوصيتها ولا نريد أن نخوض في الموضوع لأنه موضوع واسع وقد سال فيه الكثير من الحبر.

 

يمكننا من خلال عقل هابرماس التواصلي أن نستدرك استدراكات غاية في الأهمية، هي أن التواصل مع الثقافة الغربية أساسي ومهم، لكن الاستنساخ سذاجة معرفية، وهذا ليس حكم قيمة بقدر ما هو حكم وصفي، سأضرب مثالا يجد وجاهة كبيرة في هذا الصدد:

- لماذا عندما كتب توماس الأكويني كتابه الوصية اللاهوتية لم يبرز في الكتاب تأثره الشديد بالأطروحات الرشدية (ابن رشد) والسينوية (ابن سينا) وهي واضحة بشكل جلي في الكتاب وفي كيفية بناء عقلانية لاهوتية الرجل استفاد من الجهبذين لصالح هويته وثقافته.

- جون إستيوارت ميل في موسوعته الشهيرة حول المنطق سرق سرقات كبيرة ومفضوحة من كتب أصول الفقه، لماذا الرجل لم يحل إلى المصادر التي أخذ منها ما كتب؟

ليس الأمر اليوم متعلقا بنبذ الحداثة والقضاء على أي أساس لها في مجتمعاتنا بل حداثتنا ناقدة للحداثة الغربية، وهذا ما فعله الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن عندما أسس لحداثة إسلامية، يمكن العودة لكتبه فهي كثيرة ومتاحة، ماذا فعل طه عبد الرحمن أيضا من المعروف أن المثالية الألمانية هي نوع من العلمنة للاهوت المسيحي وهذا ما قام به كل من هيغل وكانط وغيرهم الذين حولوا الأفكار الدينية إلى أفكار فلسفية، وعكس ذلك تماما هو ما قام به طه عبد الرحمن، فقد عقلن الدين بطريقتهم التي ألبسوا بها الفلسفة لبوسا دينيا، فقد حول الأفكار الفلسفية إلى أفكار دينية، فطه عبد الرحمن نحت مفاهيم ومصطلحات ونظريات إسلامية وقدم أطروحاتها بأسلوب شديد الحداثة.

 

في كتابه الشهير رسالة في اللاهوت والسياسة قدم الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا أطروحته النقدية لصور وأنماط التدين في مجتمعه المسيحي الذي عاش فيه بدءا بسلطة رجل الدين ومركزية الكنيسة في تدبير شؤون الحياة والتحكم الروحي لرجل الدين وللكنيسة في حياة الناس ومآلاتهم، لن أخوض كثيرا في فكر إسبينوزا لأنه يحتاج تعميقا للشرح وزيادة في التوضيح، ولعلي لم أستطع أن أفعل ذلك مع رسالة في اللاهوت والسياسة فبالتأكيد أنا عاجز عن ذلك فيما يخص كتابه الأصعب الأخلاق ما أريد قوله من خلال الاستشهاد برسالة في اللاهوت والسياسة لإسبينوزا هو لفت الانتباه إلى أن ما قام به إسبينوزا خاص بالسياق والخصوصية الاجتماعية والثقافية والدينية للمجتمع الذي أراد أن ينتج تلك المراجعة النقدية الكبيرة وبديل طرح إسبينوزا في رسالة اللاهوت والسياسة هو ما جاء في كتاب "روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية" لطه عبد الرحمن فكلى الكتابين في فلسفة الدين ولأهل التخصص ثناء كبير جدا على كتاب "روح الدين" حتى قيل إنه نازع كبار فلاسفة الدين من أمثال: إسبينوزا، بيرغسون، كانط، هيغل.   

في منتصف سبعينيات القرن الماضي ظهرت كتابات ناقدة للتراث الإسلامي بداية بالمدرسة الماركسية التقليدية (الطيب تيزيني، حسين مروة، صادق جلال العظم...) وتعزز ذلك كثيرا في الفترة اللاحقة في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته مع الجابري وحسن حنفي... اللذين كانا أقل حدة في نقد التراث بل كانوا يثنون على التراث ويمدحونه في بعض ما كتبوا، والمدرسة الثالثة لقراءة التراث هي مدرسة نزع القداسة عن النص المقدس والقول بأن القرآن يمكن التعامل معه على أنه نص بشري كما يتعامل مع باقي النصوص وبهذا بكون تطبيق مناهج العلوم الإنسانية وارد بل ومستحسن وواجب لإعادة بعث العقل الإسلامي من سباته ومن رواد هذه المدرسة: محمد أركون وعبد المجيد الشرفي.

 

وفي خضم هذا النقاش أتت مدرسة إسلامية تنطلق من التراث لكنها مدرسة حديثة وروادها هم: طه عبد الرحمن وعبد الوهاب المسيري... قدموا عشرات الكتب في كون التراث يحتاج إلى التجديد من داخله بأسلوب جديد ولا يحتاج إلى القطيعة معه.

 

قد لا يكون استعراض هذه المدارس ذا قيمة كبيرة في سبر أغوار موضوعنا، لكنني أردت أن أبين للقارئ الكريم مدى تباين آراء مفكرينا حول شروط النهضة الجديدة التي ينشدها الجميع، لكن هؤلاء لهم نغمة كبيرة جدا للائكية التي يدعوا لها بعض جهلة الحداثة اليوم حتى محمد أركون اللائكي الأكبر تنتقد اللائكية الفرنسية ناهيك عن ما ورد في حوار المشرق والمغرب وفي كتب المفكر السوري برهان غليون حول مدى فاعلية العلمانية في المجتمعات العربية.

 

لن يصمد ما كتبه د. محمد سبيلا أكبر دعاة الحداثة واستنساخها بحذافيرها مع الطرح القائل بضرورة تنقيتها لتتلاءم مع طبيعة المجتمعات المقدمة إليها.

 

مما سبق أريد أن أبرز حقائق مؤسفة، وهي كالتالي:

- أن أغلب - ولا أعمم نهائيا - الذين يكتبون بضرورة العلمنة ويتبنون الطرح الحداثي لا يعرفون الذي انبهروا به وأحبوه، فمن السذاجة أن نعشق ما لا نعرف.

- جل الذين يصدعون رؤوس الناس على منصات التواصل الاجتماعي يناقضون أنفسهم بمحاولة فرض النمط الحداثي على الناس وهم أدعياء الحرية والفكر الحر.

 

ختاما، لن أكتفي بهذا المقال الذي أعلم أنه غير متماسك من نواحي كثيرة، لكن حسبي أن بذلت جهدا، فإن شاء الله سأكتب مقالا قريبا يسلط الضوء على أنماط الخطاب الديني السائد بشيء من النقد إن أمكنني ذلك طبعا.