على مدار الساعة

أسباب ركود المشهد الثقافي في البلاد والسبيل إلى النهوض به

21 أكتوبر, 2019 - 14:05
د. محمد الامين ولد الكتاب

لقد ساد لفترة من الزمن لدى بعض الساسة وصناع الاقرار في بلادنا نزوع إلى ازدراء الثقافة في معظم تجلياتها وإلى الاستهانة بالمثقفين وعدم القناعة بجدوائية ووجاهة إشراكهم في دوائر صنع القرار ات المتصلة بتطوير المشهد الثقافي والتعاطي معه والسعي إلى النهوض به، إذ لم يكن يتوفر لدى هؤلاء الساسة الوعي الكامل بأهمية الثقافة كعامل فعال في نشر الوعي الاجتماعي وتعميق الحس الفني والارتقاء بالذائقة الجمالية وإرساء أسس التمدن والحضارة. ولم يكونوا يدركون أن الثقافة بكل أبعادها تشكل رافعة اقتصادية تساهم بحظ وافر في النماء الاقتصادي والتطور الاجتماعي والازدهار الثقافي للبلاد، ولم يكونوا يعون أن رأس المال البشري الذي تساهم الثقافة في تكوينه وتطويره هو أهم عوامل التنمية والتمدن والتحضر. كما لم يكن بمقدورهم تمثل العلاقة الوطيدة بين توفر الساحة الثقافية في البلاد على دور النشر والمتاحف والمسارح ودور السينماء ومعاهد الفنون الجميلة وأروقات عرض الفنون التشكيلية والمكتبات والفضاءات المخصصة لمعارض الكتب، ومشاغل للرسم والنحت والخط والزخرفة والصناعات التقليدية في مجالات الخزف والخشب والنحاس... لم يكن بمقدور هؤلاء الساسة أقول تمثل التعالق بين تلكم المنشآت والنماء الاقتصادي والرقي الاجتماعي والحضاري. ولعل هذه الذهنية وما يترتب عليها من ضيق في الأفق ومحدودية في الرؤية هي ما قد تسبب في التمادي ولوقت طويل في إسناد مسؤولية وزارة الثقافة إلى أشخاص ليست لديهم خلفيات ثقافية، ولا يتوفرون على رصيد معرفي يمكن أن يحصل السكوت عليه. وليست لهم تجارب ميدانية في ممارسة وترقية وتسيير مختلف مكونات الثقافة وتجلياتها.

 

فترتب عن هذه الوضعية المفارقة ولفترة طويلة من الزمن التنافر والقطيعة بين معظم المسؤولين الذين تعاقبوا على هذه الوزارة والعديد من المثقفين المقتدرين وأصحاب الكفاءات والمواهب والخبرات والتجارب. فنجم عن ذلك تراجع ملحوظ في إنتاج لآداب والفنون وباقي المعارف الأخرى. وبالنتيجة حصل  تقلص ملحوظ في عدد المنشآت والمؤسسات المنتجة لمختلف ألوان الثقافة وأبعادها، مما قاد الى ضمور مشهود للساحة الثقافية في البلاد.

 

وكان أن وصل إلى سدة الحكم في غرة أغسطس 2019 عن طريق صناديق الاقتراع وبفضل مراعاة مبدء التناوب السلمي على السلطة، فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الذي جاء بأسلوب جديد في ممارسة السلطة يعتمد مقاربة جديدة للتعاطي مع الشأن العام تقوم على الانفتاح والتشاور والحوار وإشراك كافة الفاعلين والقوى الوطنية الحية في تحديد ملامح مصير البلاد وفي تكييف عملية صنع القرار ات المتصلة بصيرورة وسيرورة الوطن وصولا إلى وضع حد نهائي لتهميش الفاعلين الوطنيين وإقصاء الكفاءات الوطنية وتعطيلها وإهدار طاقاتها والحيلولة التعسفية دون مساهمتها في عملية البناء الوطني.

 

ومن بين الفعاليات الوطنية التي جرى التواصل والتشاور معها حول سبل النهوض بجانب الشأن العام المنوط بها، اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيون. حيث تفضل فخامته بتوجيه دعوة كريمة لهذا الاتحاد واستقبل وفدا منه قوامه 13 عضوا بالقصر الرئاسي العامر في الرابع عشر من شهر أكتوبر 2019.

 

وعلى مدى ما يربو على ساعة من الزمان استمع فخامة الرئيس بعناية واهتمام لكل القضايا المتعلقة بعمل الاتحاد وسبل تطويره وتمكينه من النهوض بالساحة الثقافية الوطنية وإخراجها من المراوحة التي تعاني منها سعيا إلى الارتقاء بكل أبعاد الثقافة في البلاد.

 

والجدير بالذكر أن اهتمام الرئيس بالثقافة وأهلها لم يكن طارئا ولا آت من فراغ بل كان قد تخلل كل الخطابات التي ألقاها أثناء حملته الانتخابية بدءا من خطابه الافتتاحي؛ وقد احتلت الثقافة والمعرفة والفكر والتعليم مكان الصدارة في برنامجه والتزاماته وتعهداته. "ولا غرو فماء العود من حيث يعصر" كما ورد في شعر الشيخ سيديا بابا.

 

وبودي في هذا المضمار أن أتقدم لمن يعنيهم الأمر بجملة من الاقتراحات والتوصيات، أرى أنها خليقة  إذا ما أخذ بها أن تساعد في النهوض بالمشهد الثقافي وأن تسهم في وضع وطننا على سكة التقدم الاقتصادي والرقي الاجتماعي والارتقاء المدني والحضاري.

 

أعتقد أنه لبلوغ هذه الاهداف فإنه من اللازم، على المدى القصير :

إقامة وتوظيف المنشآت والمؤسسات التالية :

- دار للطباعة والنشر والتوزيع تضطلع بنشر وتوزيع ما ينتجه كتابنا من أعمال أدبية وفكرية وما يصدره شعراؤنا من دواوين شعرية وما تجود به قرائح مسرحيينا وسينمائيين من سيناريوهات درامية و سينمائية.

- شبكة من المكتبات المتنوعة: bibliothèque, vidéothèque , filmothèque) ( توفر للقراء المتعطشين للارتواء من المعارف فضاءات ملائمة للاطلاع والبحث والاستقراء.

- أروقات لاحتضان الأعمال التشكيلية والمنجزات الفنية.

- متحف وطني ومتاحف جهوية على مستوى ولايات الوطن. وذلك لاحتضان وصيانة وعرض القطع الأثرية والتحف التراثية لتمكين الجمهور من الاطلاع عليها والاستمتاع برؤيتها.

- مسرح وطني ومسارح جهوية، إذ لا يعقل أن تكون البلاد خالية تماما من منشأ ة تعتبر أم الفنون وأرقى تعابيرها . حيث قال بعضهم: اعطيني مسرحا متطورا أعطيك أمة متحضرة.

- أوركيسترا وطنية و هي منشأة فنية وموسيقية لا غنى عنها لشعب ينشد المدنية والارتقاء الحضاري.

- معهد وطني للفنون الجميلة لتكوين الفنانين في مختلف ألوان الفنون.

- وكالة وطنية لترقية السينماء تستغل ثراء تراثنا وعراقة وغنى تاريخنا وتنوع فلكلورنا من أجل تطوير صناعة سينمائية وطنية لافتة من شأنها أن تنافس الصناعات المماثلة في دول الجوار، نتيجة لغزارة المادة التاريخية والثقافية والفنية المتوفرة لدينا، والتي بإمكاننا أن نمتح منها لخلق منتوج سينيماتوغرافي متميز وذي مردودية فنية واقتصادية.

- فضاءات ملائمة لإقامة معارض للكتب تسمح بجعل ما ينتجه كتابنا وما يبدعه شعراؤنا في متناول القراء والباحثين الوطنيين والأجانب.

 

وفي المدى المتوسط فإنه يلزم في اعتقادي:

إقامة مشاغل وورشات des ateliers في مجالات:

- الخط العربي les arabesques

- الرسم والتصوير والمنمنمات والنقوش والزخارف بمختلف أشكالها.

- إقامة منشآت للصناعات الثقافية والترفيهية المنعدمة تماما في بلادنا.

- إقامة معالم معمارية في الشوارع وملتقى الطرقات والساحات العامة في كبريات مدننا. فالمعالم والرموز الثقافية والفنية المميزة لتراثنا وخصائصنا الحضارية تكاد تكون معدومة بالمرة.

- إنشاء مساحات خضراء تحوي مروجا من الأزهار ورياضا من الورود تضفي جمالا وبهجة على شوارعنا وتخلع مسحة مدنية على حواضر بلادنا المقفرة من كل مظاهر الجمال والألق. مما يقتضي تطوير فنون التشجير والبستنة. فلا يعقل ولا يستساغ أن يكون من شبه المستحيل الحصول على باقة ورد في أية مدينة من مدننا إلا بشق الأنفس.

 

تطوير مختلف أنواع الصناعات التقليدية في مجالات:

- الخزف والخشب والنحاس والجلود وفي مجالات الصياغة والتطريز والخياطة العلياla haute couture وينبغي كذلك العمل على مد الجسور jeter des passerelles بين المنظومة التعليمية الوطنية ومختلف المؤسسات الثقافية كالمتاحف والمسارح والوكالات المختصة بالصناعات السينمائية وأوراش الفنون التشكيلية، وذلك لكي ترفد المنظومة التعليمية الساحة الثقافية والعكس بالعكس.

- إنشاء آلية وطنية للسهر على ترقية وتطوير كل أبعاد الثقافة والعمل على توظيفها من أجل إنماء البلاد الاقتصادي ورقيها الاجتماعي وازدهارها الفكري والعلمي.

 

وقد تتخذ هذه الآلية شكل وكالة وطنية أو مجلس قومي أعلى للثقافة والفنون يعهد إليه من بين أمور أخرى بالسهر على دفع ومواكبة كافة الأعمال الثقافية والفكرية والفنية والعلمية والإشراف على تنظيم الفعاليات الثقافية والفنية كالمواسم والمهرجانات الثقافية والفنية والشعرية، وجمع ونشر وتوظيف مخرجاتها وصولا إلى توسيع دائرة الاشعاع الفكري والفني والعلمي للبلاد على الصعيدين المحلي والدولي.