على مدار الساعة

العلاقات الفكرية والروحية بين بلاد شنقيط والجزائر

13 نوفمبر, 2019 - 11:20
بقلم د. يحيى ولد البراء

سأحاول في هذا المقال الذي أسعى من خلاله إلى إبراز بعض أوجه الترابط بين الشعبين الموريتاني والجزائري إلى إعطاء صورة موجزة بالمفهوم الإدراكي للكلمة عن تلك العلاقات التي انتسجت بينهما عبر القرون الكثيرة بحكم الجوار الجغرافي والرحلات للحج ولطلب العلم وعلو السند، والبعوث الدراسية، والمراسلات العلمية والسياحات الصوفية ورحلات الاستيطان التي كانت مددا مستديما لهذه العلاقات تبادلا للمعارف والأفكار وتخاطبا بالفتاوي والأحكام.

 

ولا شك أن الجزائر، باعتبارها في مركز العالم الإسلامي، كانت مرشحة أكثر لأن تكون مصدرة للعلم والثقافة والتصوف. فمكتباتها الضخمة وحواضرها العامرة بالعلم والعلماء الأفذاذ، كل ذلك كان منارة إشعاع استفاد من نورها جنوب الصحراء بعمومه بما في ذلك موريتانيا.

 

وكما تزخر المكتبات الموريتانية بالمؤلفات التي قام بها علماء جزائريون من شراح الرسالة ومختصر الشيخ خليل وغيرها من الكتب المتون، كان لعلماء شنقيط دور لا يستهان به في إذكاء الحركة العلمية في الجزائر ويكفي دور الشيخ سيدي المختار الكنتي على ذلك دليلا.

 

وقبل الكلام عن هذه الروابط الفكرية والعلمية لابد من الإشارة إلى جملة من القضايا نرى التنبيه عليها ضروريا لتأطير الموضوع.

 

أولها:

أن البلدين تتوسط بينهما صحراء من أكبر صحاري الدنيا وأقساها مناخا (بردا وحرا) وأقلها نقاط مياه مما يجعل المستمع أو القارئ لهذا العنوان يرتسم في ذهنه بادئ الرأي أن السبل منقطعة والحركة قليلة والتواصل شبه منعدم. غير أن الأمر كان على العكس من ذلك تماما. فالصحراء قبل هذه الألفية الثانية لم تكن بهذه الوعورة والقحولة ومسالك العبور استمرت متعددة ومترسمة والأنشطة التجارية قائمة والأسواق نافقة سواء في الشمال والجنوب.

وإذا كانت المياه السطحية نادرة، بالرغم من وجود آثارها في المنطقة فإن المياه الجوفية تبدو متوفرة وإن كان الوصول إليها من الصعوبة بمكان. فوسيلتها الغالبة هي نبط عيون الماء ولذا أعطاها سكان الصحراء اهتماما كبيرا، وكانت لهم فيها خبرة فائقة تمثلت في تقنيات ناجعة في حفر وبناء الآبار والاهتداء إلى الأماكن التي يمكن الحصول فيها على المياه على مستوى عمق غير بعيد. يقول الإدريسي: "وشربهم من عيون يحفرونها في تلك الأرض عن علم لهم بها وتجربة في ذلك صحيحة".

 

ثانيها:

أن قرار وثبات الخريطة البشرية للبلدين كما هي عليه اليوم بقيام حدود الدولة الوطنية وحمل الناس لأوراق تثبت وتحدد هوياتهم بشكل واضح وتجعلهم مواطنين من هذا البلد أو ذاك لا يعني بالضرورة أنها كانت كذلك. بل على العكس تماما كانت الحركية الاجتماعية قوية فقبائل البدو الظاعنة كانت تجوب في العصور الخالية كل هذين البلدين جيئة وإيابا وهنالك قبائل لها امتدادات في كلا البلدين ما زالت قائمة مثل كنته وتجكانت وإيدوعلي.

 

ثالثها :

أن التجارة القافلية العابرة للصحراء كانت مسببا لحركة تجارية واسعة عبر التاريخ زادها انتشار الإسلام في ضفة الصحراء الجنوبية قوة وانتعاشا فكانت نعم المعين على الارتباط العلمي والروحي والفكري بين البلدين وكانت منطقة وريثة سجلماسه صاحبة الحظ الأوفر في الجذب التجاري والتعمق العلمي باعتبارها المعبر الأول للقوافل من موريتانيا.

رابعها

أن علماء الجزائر كانت لهم إسهامات كبيرة في تفعيل الحركة العلمية في جنوب الصحراء عموما وفي بلاد شنقيط على وجه الخصوص. يمكن أن نذكر منهم على سبيل التمثيل :

- أبو عبد الله الشريف التلمساني الذي كان كتابه في الأصول متداولا بين الموريتانيين

- أبو عثمان سعيد بن محمد العقباني شارح خليل،

- أبو عمران موسى بن عيسى المازوني،

- أبو يعلى الزواوي،

- أحمد بن نصر الداودي،

- محمد بن عبد الكريم المغيلي،

- محمد بن أب المزمري التواتي،

- عبد الرحمن الأخضري البسكري من أهل بنطيوس،

- أحمد المقري،

- محمد المقري،

- الشمقمقي،

- عبد الكريم بن امحمد بن أبي محمد التواتي الذي كانت تربطع علاقات علمية بعلماء مثل احمد باب التنبكتي،

- عبد الرحمن الثعالبي،

- أحمد بن أحمد الغبريني،

- أبو عبد الله محمد بن محمد المقري الذي درس عليه ابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب،

- أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي صاحب المعيار.

 

وسأركز أكثر في هذه الكلمة على محطات تاريخهم الثقافي ابتداء من تعرفهم على الإسلام إلى أن اكتمل المشهد الديني والثقافي والسياسي عندهم، واستقر على ما هو عليه في الواقع القائم.

 

فمن الجلي أن ارتباط سكان الشمال الإفريقي بسكان بلاد الصحراء والسودان كان وثيق الشد مبروم العُرى. فالعلاقات بين ضفتي الصحراء ظلت متينة ومتواشجة منذ القديم، وعمليات التأثر والتأثير بين أهل هاتين الضفتين ما فتئت مستمرة وحبلها موصول، وقساوة الصحراء ووعورة جوبها لم تكن بالدرجة التي هي عليها في الأعصر اللاحقة. فالجبهة المدارية كانت تتوغل إلى الشمال أكثر مما هي عليه في الوقت الحالي، لذا كان حظ المناطق الشمالية من الأمطار أكثر خلال العصور السابقة. ولذا لم تقم عوائق كبيرة تضعف من حركة الناس والمال والأفكار.

 

وتشير أغلب المصادر التاريخية التي تعرضت لتاريخ حركة الفتح الإسلامي إلى أن منطقة جنوب غرب الصحراء الكبرى قد عرفت دين الإسلام بعد فترة قليلة من دخوله إلي الشمال الإفريقي. على ذلك درج أبو عبيد الله البكري وابن عذارى المراكشي وابن خلدون وغيرهم من المؤرخين العرب الذين تعرضوا لذكر بعض الأحداث في هذه الجهات.

 

لقد حمل تجار القوافل العبء الأكبر في تثبيت دعائم الإسلام في شتى بقاع جنوب غرب الصحراء ونشره بالقول اللين بين سكانها. فشكلت رحلاتهم في أرجاء تلك المناطق وعلاقاتهم بسكانها وعلاقات السكان المسلمين بمجاوريهم من غير المسلمين تيارا انسابت عبره تعاليم الإسلام وانتشرت مبادئه بخطوات بطيئة وثابتة. وكان من نتائج ذلك أن أصبحت مملكة التكرور مسلمة عند بداية القرن الخامس الهجري. وعملت على نشر الإسلام في الممالك الإفريقية المجاورة لها، وعلى ترسيخه في نفوس من أسلم قبل ذلك.

 

كما أثرت حركة الخوارج تأثيرا عميقا في الإسلام في هذه البلاد وساهمت في إعطائه صبغة التقشف التي تتناغم مع طبيعة أرضه وساكنيه والتي تتناقض بحدة مع البذخ الذي شهده المسلمون في المشرق أو في الأندلس. وربما يكون هذا التقشف والتجرد للدعوة هو الذي ولد ذلك الاتجاه الصوفي المغرق في التبتل الذي عرفه المجتمع منذ القديم.

 

وقد عملت كل من الدولتين : الصفرية والإباضية على تشجيع التنقل بين ضفتي الصحراء وعلى نشر مذهبيهما بتفان وإخلاص في شعوب الجنوب فأسست قبيلة مكناسة وهي من زناتة وكانت صفرية في سنة 757م مملكة سجلماسة على طرف الصحراء وأصبحت مركزا لتجمعاتهم ومنطلقا لتحركاتهم ومثوى لهم ومنقلبا. ورافق ظهورهم بهذه الناحية دخول مذهب المعتزلة الواصلية (أتباع واصل بن عطاء) الذين استفحل أمرهم في سجلماسة. وكانت هذه المملكة التي حكم بها بنو مدرار تتحكم في الواحات وطرق القوافل إلى بلاد السودان، ونرجح أن لهم يدا طويلة في نشر الإسلام في منطقتنا بالذات.

 

وقد سيطر الإباضية في عهد الرستميين على جميع أبواب ومداخل الصحراء فكانوا القائمين الفعليين على تجارة القوافل. فقد أدى استقرارهم على أطراف الصحراء في واحات فزان وجبل نفوسه وغدامس وواحات الجزائر منذ القرن الثامن الميلادي إلى ارتباطهم القوي بتجارة الصحراء وعزز من ذلك الارتباط اعتناق مجموعات من قبيلة هوارة وزناتة للمذهب الإباضي وتخصص كثير منهم في التجارة عبر الصحراء. وكان لهم بموازاة ذلك إسهام كبير في نشر الإسلام في القرون الهجرية الأولى جنوب الصحراء، خاصة أنهم قد اعتمدوا على تكوين رجال الدعوة الذين كانت مهمتهم الأولى نشر الدين الإسلامي ولو تحت شعار التجارة. وكانت لهم برامج معدة لأهل الدعوة تضمنها نظام العزابة.

 

يقول ابن عذارى وهو يتحدث عن دخول الفكر الإباضي إلى المغرب قبل دخول الأدارسة: "فر عبد الرحمن بن رستم إلى الغرب بمن خف من أهله وماله، واجتمعت إليه الإباضية وعزموا على بناء يجمعهم، فنزلوا بموضع تيصرت، وهي غيضة بين ثلاثة أنهار، وكان ذلك سنة 161هـ".

 

لقد تلازم انتشار الإسلام في جنوب الصحراء مع حركة التجارة. ولذا ذهب أغلب الدارسين إلى أن الإسلام الأول كان حكرا على جماعات الخوارج والأباضية انطلاقا من دولتيهم في تاهرت وسجلماسه نظرا لأن تلك الجماعات كانت تسيطر على مداخل الصحراء.

 

وربما كان هذا هو الذي دفع بفقهاء المالكية في القيروان في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين إلى الفتوى بأن التجارة مع بلاد السودان كسب غير طيب ويتحرزون منه. ويذهب ابن أبي زيد القيرواني إلى مساواة التجارة مع بلاد السودان بالتجارة مع أرض العدو. هذا إذا تذكر المرء أن البلاد السودانية لم تكن أرض حرب ولذا فلا يجد الشخص تفسيرا لهذا الموقف إلا محاولة ضرب مصالح الاقتصادية للخوارج والأباضية المحاربة لأهل السنة آنذاك. ولذا سرعان ما تختفي تلك الفتاوى مع مطلع القرن الحادي عشر مع سيطرة الجماعات السنية على تجارة الصحراء بقيام حركة المرابطين على كامل المنطقة.

 

 وبعد القرن الخامس الهجري شمل الإسلام السني أغلب مناطق هذين البلدين، فشجعت وحدة المعتقد والمذهب (الأشعرية والمالكية) على تقريب الصلة بين سكانهما فكان السفر حجا أو طلبا للعلم والمال معينا ثرا للاستزادة من العلم: دراسة وكتبا وإجازات، فنشأ عن ذلك تراكم معرفي وروحي جعل أبناء موريتانيا في القرون اللاحقة مكتفين في هذه الميادين بل مصدرين لها.

وسنرى من خلال المعطيات المتوفرة وهي غيض من فيض كيف كان الإفادة على مستويات متعددة وحقول معرفية مختلفة من علوم آلة وعقائد وفقه وتصوف.

 

على مستوى علوم الآلة

بالنسبة لعلم المنطق فأهم نصوصه الرائجة في موريتانيا والمتداولة بين العلماء والطلبة وبها الدرس والتدريس هي مؤلفات كل من محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، وعبد الرحمن الأخضري البسكري، ومحمد بن عبد الكريم المغيلي التواتي.

 

فالسنوسي هو صاحب كتاب المختصر في المنطق وهو كتاب جامع يدرسه الطلبة المنتهون. وقد علق عليه بعض العلماء الشناقطة منهم محنض باب بن اعبيد.

 

أما المغيلي فله رجزه في المنطق الذي شرحه كثيرون كأحمد باب التنبكتي ومحمد بن عمر بن أقيت. ومن المعروف أن المغيلي كان مهتما بالمنطق كثيرا ومناظرته للسيوطي حول حكم الاشتغال بعلم المنطق معروفة ومؤلفاته في هذا الفن هي المرجع الأول في الموضوع ومن أشهرها إضافة إلى رجزه السالف الذكر كتاب: منح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب الذي طبع مؤخرا.

 

وبالنسبة للأخضري فهو عالم بسكره الذي طبقت شهرته الآفاق ولد سنة 918هـ/1512م وتوفي سنة 983هـ/1575م صارت مؤلفاته متونا تدرس في عموم هذه البلاد كنظم الجوهر المكنون في البيان، ومختصر العبادات في الفقه المالكي، والسلم المرونق في علم المنطق. فنظمه المسمى السلم المرونق في علم المنطق هو عمدة التدريس والدرس في المحاظر. ولا أدل على ذلك من كثرة الشروح والتعليقات عليه. نذكر منها :

- محنض بابه بن اعبيد،

- انبوي اعمر بن الامام،

- الشيخ محمد حبيب الله بن مايابا،

- محمد عبد الله بن البشير،

- لمهابه بن الكالب إميجن،

- عبد السلام بن حرمه،

- غديجه بنت العاقل،

- الشيخ محمد الامين بن محمد المختار الجكني،

- سيدي بن أحمد بن حبت الغلاوي،

- منظومة الجواهر لابن طيب،

- محنض بابه بن اعبيد،

- عبد الرحمن بن محمذن فال بن متالي،

- محمد محمود بن الواثق.

 

وبالنسبة لعلوم اللغة فيعد نظم الآجرومية في علم النحو لمحمد بن أب المزمري التواتي أهم متن يدرس في المحاظر الموريتانية للمبتدئين. وقد شرحه علماء كثيرون من هذه الشروح :

- شرح اندَ عبد الله بن سيدي أحمد بن محمد الغيث المحجوبي (ت.937هـ).

- شرح صغير ووسط وكبير للطالب محمد بن الطالب الصديق البرتلي: (ت. 1210هـ).

- شرح عبيد ربه لسيدي عيسى بن احماه الله الجعفري الولاتي: (ت. ق. 12هـ).

- المنبه على عبيد ربه لمحمد عالي بن سيدي بن ساعيد (ت. 1310هـ)

- شرح عبيد ربه لمحمد يحي بن سليمة اليونسي

- شرح عبيد ربه لمحمد حبيب الله بن مايابا الجكني، 

- شرح عبيد ربه لمحمد المختار بن أحمد بن انباله،

- سلم المذنب علي عبيد ربه لمحد مختار بن محمد الأمين اليعقوبي،

- شرح عبيد ربه للحاج بن فحفو المسومي.

 

كما يعد نظم الجوهر المكنون في البلاغة للأخضري النص المقرر لهذا الفن. وقد قامت عليه شروح منها :

- تعليق الشيخ محمد عبد الله بن أحمدي،

- شرح الشيخ حمد الخضر بن مايابا المسمى (إبراز المصون على الجوهر المكنون).

 

على المستوى العقدي:

لا تخبرنا الوثائق المكتوبة الموجودة بين أيدينا ولا الشفهية المتاحة عن وجود غير المذهب الأشعري عند أبناء منطقة شنقيط. فهو ـ فيما يبدوـ وحده الذي عرفوا من مذاهب الاعتقاد المتعددة التي انتشرت في عموم العالم الإسلامي بل وفي أجزاء كثيرة من بلاد المغرب.

 

كما لا تذكر أنهم أخذوا بغير العقيدة السنوسية من أشكال صياغة هذا المعتقد الأشعري. ولذا نحسب أنهم دانوا بها منذ القديم وانتشرت بينهم وترسخت في ثقافتهم قريبا من أيام المؤلف مُحمَّد بن يوسف السنوسي عالم تلمسان ومتكلمها وصوفيها. فمثلت بذلك كتب هذا العالم المتكلم مرجعهم الأوحد في هذا المعتقد كما صبغت إنتاجهم العقدي بصبغة خاصة.

 

ولم نتمكن لحد الساعة من ضبط سند السنوسي في علم العقائد وإن كنا نعرف أنه أخذ عن مشايخ من تلمسان التي كانت أيامه ملتقى أهل العلم وبندر أهل العرفان ممن شتتهم الحوادث فجاؤوا من كل فج واستقروا بها وأنه درس إرشاد الجويني على أبي القاسم الكنباشي الذي عزنا ربطه بعلم من أعلام الكلام الأولين.

 

وإذا كان الفكر الأشعري سرعان ما خمد أواره بعد زوال دولة الموحدين، فإنه قد وجد انطلاقته القوية مع ظهور مؤلفات الإمام عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الذي دعا للتجديد وحارب التقليد، فكان دوره متمثلا في ترميم المذهب وإعادة بنائه، واستطاع بذلك أن يؤسس مرحلة جديدة من مراحل تطور المذهب الأشعري، كان لها تأثير جلي على صيرورته في قابل الأيام.

 

وقد عرفت المنطقة ابتداء من القرن 10هـ/ 16م فترة ازدهار كبير للعقد الأشعري السنوسي تعطينا الآثار والوثائق المتبقية عنه معلومات جد دقيقة. فابتداء من هذا التاريخ بدأت تترسخ جذوره وتتوطد أركانه في موريتانيا وما حاذاها من حواضر جنوب الصحراء بشكل ملحوظ. ومن الشواهد على ذلك ما ذكر أصحاب التراجم من أن الفقيه محمد (بغيغو) بن مَحمود بن أبي بكر الونقري (ت. 1002هـ/1594م) قد نظم صغرى السنوسي.

 

ومنها أيضا ما ذكره الفقيه محمّد بن أبي بكر بن الهاشِم الغلاوي المتوفى سنة 1069هـ في إحدى فتاويه من أن أحد علماء المنطقة المتقدمين عليه في الزمان من قبيلة أولاد ادليم ويسمى أبا محمد عبد الله (ت. 995 هـ) قد شرح صغرى السنوسي. بل إن هذا الشارح الدليمي يبدو ضليعا من الفن راسخ القدم في تفريعاته. فقد رجح القول بتعلق السمع والبصر بالموجودات والمعدومات ناقلا ذلك عن بعض المتصوفة خلافا لجمهور أهل السنة القائل بتعلقهما بالموجودات لا بالمعدومات. وقد علق أبو بكر بن الهاشم على هذا القول بما نصه: "واختاره عبد الجليل القصري. وقال شيخنا مُحَمَّد بن المُختار هذا القول ليس بشيء والله أعلم".

 

فابتداء من هذا التاريخ إذن قرت كتب السنوسيات وإضاءة الدجنة لأحمد المقري التلمساني ومنظومة الأوجلي المسماة “دليل القائد في علم العقائد” في برامج المحظرة. وفي هذا التاريخ أيضا بدأ العلماء المحليون تداول هذه المؤلفات فقاموا عليها بعدة من الشروح والتعليقات.

 

وابتداء من هذا التاريخ أيضا اشتهر من أهل المنطقة كثيرون بالتبحر في علم الكلام خاصة خلال القرنين 11هـ/17م و12هـ/18م فكثرت أنظامهم ورسائلهم ومناظرتهم في هذا المجال، ويمكن أن نتبين حجم إسهامهم هذا من خلال قراءة الجزء الثاني من موسوعة الفتاوى المتعلق بتراجم العلماء.

 

وكان عبد الله بن بو المختار (ت. 1103هـ) أول من قدم بمنظومة أحمد المقري المسماة: "إضاءة الدجنة"، وكان مُحمَّد اليدالي بن المختار بن محم سعيد (ت. 1166هـ) أول من ألف كتابا مستقلا في العقائد ساه "فرائد الفوائد" وهو يعد أهم وأول كتاب ضخم في العقيدة الأشعرية السنوسية ألف في هذه المنطقة. وأكثر الكتب تداولا داخلها وخارجها وأشدها تواتر ذكر في فتاوى ومؤلفات العلماء اللاحقين من أبناء المنطقة ومن غيرهم.

 

 وبعد القرنين: 11هـ/17م و12هـ/18م تتالت شروح العلماء من أبناء المنطقة لهذه النصوص.

فمن شروح السنوسيات:

- شرح الحاج الحسن بن آغبدي (ت. 1123هـ) لأم البراهين وهي صغرى الصغرى.

- شرح الطالب أحمد بن محمد رارَه (ت. 1210هـ) لأم البراهين ونظمه لهذا الشرح.

- شرح الطالب محمد بن بوبكر الصديق (ت. 1219هـ) لصغرى السنوسي

- شرح أحمد بن محمد العاقل (ت. 1244هـ) للسنوسية الكبرى والصغرى

- شرح محمذن بن أحمد بن محمد العاقل (ت. 1291هـ) للسنوسية الوسطى

- نظم محمدُّ بن حنبل (ت. 1300هـ) للسنوسية الوسطى وقد سماه: "حلية الألباب".

- شرح عمر بن ابنُ عبدم (ت. 1333هـ) لصغرى السنوسي.

- نظم حيمدَّ بن انجبنان لأم البراهين.

- شرح المختار السالم بن عبد الله بن محمد بن عباس (ت. 1362هـ) لنظم حيمد بن انجبنان.

 

كما شرحت إضاءة الدجنة عدة شروح منها:

- شرح محمد بن المختار بن الأعمش (ت. 1107هـ)

- شرح عبد الله بن أحمد بن الحاج حمى الله (ت. 1209هـ) المسمى: "تقرير المنة على إضاءة الدجنة".

- شرح النابغه بن اعمر (ت. 1245هـ).

- شرح محمد يوسف بن عبد الحي (ت. 1328هـ).

- شرح محمد بن كداه المسمى: "تنوير الجنة".

- شرح عثمان بن الطالب مومن المسمى: "عون ذي المنة".

- شرح عبد القادر بن محمد بن محمد سالم (ت. 1337هـ).

- شرح محمد يحيى بن ابوه.

- شرح محمد بن محمد النابغة (ت. 1383هـ).

- شرح عبد الرحمن بن بلال (ت. 1360هـ).

- شرح محمدُّ السالم بن الشين (ت. 1387هـ).

 

ولا شك أن التعمق الكبير والانتشار الواسع للدرس العقدي السنوسي تأكد مع المختار بن بونه (ت. 1220هـ) الذي يعد من أكبر رموز المدرسة الأشعرية في المنطقة وأنشط المدافعين عنها. يقول أحمدُ الصغير بن حمى الله بن أحمد عنه ما نصه: "حامل راية علم الكلام في عصره الواضع عنهم أعباء إصره". لذا برزت دعوة لمجيدري بن حبل (ت. 1204هـ)، ردا على هذه النزعة الموغلة في التعمق في الكلام والاستدلال.

 

وكان المختار بن بونه الذي وسعت مدرسته مجمل أطراف البلد قد أرسى دعائم الأشعرية وثبت بنيانها خاصة في نظمه المتداول داخل المحاظر الموريتانية والمعروف باسم: "وسيلة السعادة فيما تضمنته الشهادة". وقد قام فيه بتلخيص كتب السنوسي في كبراه ووسطاه وصغراه.

يقول في مقدمته ا:

نظما حوى عقائد الشريف *** محمد السنوسي الظريف

لخصت فيه ما حوته  مع ضمن وسطاه وضمن الصغرى الكبرى
 

وقد حظيت الوسيلة هي الأخرى بالكثير من الشروح والتعليقات من أهمها:

- شرح محمد عبد الله بن الطالب أحمد بن أبي بكر (ت. 1263هـ).

- شرح حبيب الله بن الأمين (ت. 1270هـ).

- شرح أحمد بن أمينو (ت. 1328هـ/1909م) المسمى: "نهج الفلاح والإفادة إلى معاني وسيلة السعادة".

- شرح عبد الرحمن بن محمذن فال بن متالي (ت. 1337هـ).

- شرح أحمد بن المختار (ت. 1324هـ).

- شرح محمد بن أمينُ بن الفراء المسمى: "الإفادة.

- شرح عبد القادر بن محمد بن محمد سالم (ت. 1337هـ) المسمى: "المباحث الجليلة".

- شرح محمد الحسن بن أحمدُّ الخديم.

فسند أبناء المنطقة إلى الإمام السنوسي. 

 

يتصل بسيدي أحمد بن أيجل الذي بث العقيدة السنوسية عن سيدي عبد الله بن محم بن القاضي عن أحمد بن يعقوب عن عيسى بن مُحمَّد بن أحمد الجعفري الثعالبي الجزائري (دفين الجزائر العاصمة وصاحب التفسير المعروف) عن أحمد المقري (صاحب إضاءة الدجنة والعقد الفريد) بن محمد المقري عن سعيد المقري (عم أحمد) عن ابن ملال عن سعيد الكفيف عن السنوسي (ت. 895هـ)

 

على المستوى الفقهي

ينتشر الفقه المالكي في كل منطقة الغرب الإسلامي منذ عهود بعيدة. وترجع نشأة المذهب المالكي إلى آراء وفتاوى إمام المدينة مالك بن أنس الأصبحي (ت. 179هـ) وآراء تلامذته من بعده.

 

ولقد مر المذهب المالكي بعدة مراحل في مسيرته نحو الاكتمال، بدءا بمرحلة التأسيس التي تكفل بها الإمام مالك نفسه. فنظر في الأصول التي يمكن أن يعتمد عليها في اجتهاده ورتب عليها الفروع التي تناسب منحاها. ثم جاءت مرحلة التفريع وهي التي ظهر فيها أتباع الإمام مالك وتلامذته فأخذوا بمنهجه وأسسوا الإفتاء في الحوادث والوقائع بربطها بأصوله وقواعده. ثم جاءت من بعد ذلك مرحلة النظر فيما أنتجه أصحاب التفريع الفقهي والاجتهاد المذهبي في تحقيق المناط في الوقائع المستجدة فيما ينطبق عليها من تلك الصور الفرعية وفيما لا ينطبق عليها كل حكم منها على حدة بمراعاة أصول المذهب في كل ذلك. ثم جاءت مرحلة تنقيح أقوال المذهب واعتبار الدليل الأقوى منها من حيث الرواية والدراية. وأخيرا كانت مرحلة الجمع والاختصار وقد جاءت بعد استقرار المناهج والنظر في الفروع الفقهية تخريجا وتطبيقا وتنقيحا.

 

ومن أهم المختصرات الفقهية المالكية وأكثرها نفعا وخاصة للمبتدئين مختصر العبادات لعبد الرحمن بن محمد الأخضري، وكتاب الأخضري هذا تكاثرت شروح الشناقطة عليه مما يدل على عظيم الاهتمام به وبالغ فائدته منها:

- الحاج احمد بن الحاج الامينسماه المفيد ت. 1157هـ

- أحمد بن أجواد بن البار

- النابغة الغلاوي

- محمد بن محمد سالم

- الخليل بن عبد الحي

- امبيريك بن ميلود

- الشيخ باي بن الشيخ سيدي محمد الكنتي

- عبد الله بن الحاج حماه الله

- محمد يحيى بن سليمة

- عبد الله بن محمد الامين التندغي

 

كما مثلت شروح العلماء الجزائريين لمختصر الشيخ خليل مرجعا مورودا للعلماء الشناقطة ويمكن أن نذكر من هذه الشروح:

 

على المستوى الصوفي

- يمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية لقيام الطرق الصوفية المنظمة على مبدأ الشيخ والمريد والخوانق والورد، وانطلاقتها الأولى نحو الانتشار والتمدد. فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبد القادر الجيلاني (ت. 561هـ/1166م). ثم الطريقة الشاذلية على يد مؤسسها أبي الحسن الشاذلي. ثم الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس أحمد بن الحسين الرفاعي (ت. 570ه‍ـ/1173م). ثم الطريقة النقشبندية التي ظهرت في القرن التاسع مع مُحمَّد بهاء الدين البُخَاريّ النقشبندي (ت. 791هـ). ثم الطريقة التجانية التي ظهرت مع أبي العباس سيدي أحمد التجاني (ت. 1230هـ) في القرن الثالث عشر الهجري.

 

ولم يفتأ سكان منطقة الغرب الإسلامي، قبل الفترة التي نجد فيها تمكنا للطرق الصوفية وانتشارا واضحين للعيان، يمارسون نمطا من التدين تغلب عليه المسحة الروحانية المترهبة التي تتجلى في التقشف في الملبس والمأكل والمسكن، والتجافي عن الدنيا وأهلها، والابتعاد عن الأمور الجمهورية، والانزواء والتبتل وتكريس الوقت لخدمة العلم والدين وتداول أخبار الأولياء والصالحين ونشر كراماتهم وخوارقهم والتوسل بهم والتعلق بأذيالهم وتطلب مواطن البركة في كل شيء.

 

وقد ترك هذا المذهب بصمات واضحة في المجتمع وإن بدا أن لهذا المنحى الروحي التبتلي جذورا أبعد في التاريخ. فهو يمتد من أيام تحكم الأباضية والشيعة في المنطقة حتى عهد المرابطين الذين صورهم المؤرخون أعداء للتصوف ألداء. وربما يكون هذه المسلك المتأله "سابقَ العهد" –حسب التعبير النحوي- الذي قوّى من انضواء السكان في الطرق الصوفية حين دخلت المنطقة، فكانت هذه الميول الصوفية الملاحظة عند السكان، تبدو أحد أبرز الأسباب الدافعة لهم إلى الانتظام في مؤسسات التصوف الطرقي لما دخلت المنطقة بشكل شبه كلي وسريع. فكل فرد من ساكنة هذه البلاد هو بحكم النشأة عضو في احدى الطرق الصوفية التي يتبناها المجتمع.

 

خاصة أن رجال التصوف أي مشايخه الفعليين ظلوا دائما أكثر تحبيبا إلى الناس من غيرهم من أهل الدين الآخرين نظرا لزهدهم في المال والسلطة والبنين، ومظاهر الحب والرحمة والإحسان التي امتازوا بها وكونهم موزعين للمال لا جمعة له. ونظرا لما يظهر على أيديهم من البركات والخوارق التي تشبع رغبات الناس وتؤثر في واقعهم وتقوي ارتباطهم بهم وتعلقهم.

 

وتعتبر الجزائر من أهم المسارب التي دخل منها التصوف الطرقي إلى بلاد شنقيط، وأكثر الطرق الصوفية التي دخلت المنطقة انتشارا، لما أخذ بها من الناس ولما عمت من الجهات، هي الطريقة الشاذلية والقادرية والتجانية وإن اختلفت الثلاثة في شكل انتشارها وفي طبيعة ممارساتها وفي ترتيب أولوياتها وفي قوة تأثيرها وسعة مدى الأخذ بها والانضواء تحتها.

 

فكانت الطريقة القادرية أول ما دخل البلاد في القرن العاشر الهجري بفرعيها الكنتي والفاضلي حسب تصورنا، وربما تكون الطريقة الشاذلية بفرعيها الناصري والغظفي قد زامنتها أو جاءت عنها متأخرة قليلا، ثم التجانية بفرعيها الحافظي والحموي.

 

الطريقة القادرية

تنسب الطريقة القادرية إلى الإمام عبد القادر الجيلاني (ت. 561هـ/ 1166م) دفين بغداد الذي عم ذكره مدويا في الخافقين واستمر أثره باديا على وجه الدهر في معظم دار الإسلام كما تنبأ له شيخه عندما خاطبه بقوله: "كل ديك يصرخ ويسكت إلا ديكك فإنه يصرخ إلى يوم القيامة".

 

ولقد انتقلت القادرية إلى بلاد المغرب على يد أبي مدين شعيب بن حسين الأنصاري (594‏هـ/1198م‏) دفين وادي يسر قرب تلمسان الذي حج ولقي عبد القادر الجيلي وألبسه الخرقة وأودعه الأسرار والأنوار. فكان أبو مدين من أبرز من حملوا تعاليم هذه الطريقة إلى بلاد المغرب ونشروها بين سكانه. ويكفيه من ذلك فضلا أنه أخذ عنه عبد السلام بن مشيش الذي انتشرت القادرية على يده، كما أخذ عنه أحمد الرفاعي صاحب الطريقة الرفاعية المنتشرة في بلاد المشرق.

 

وتنقسم الطريقة القادرية، كما عرفت في موريتانيا، إلى شعبتين كبيرتين. تعرف الأولى منهما بالقادرية المختارية (نسبة إلى الشيخ سيدي المختار الكنتي)، وهي التي تعرف في الأدبيات التاريخية الغربية بالبكائية، وتعرف الثانية بالقادرية الفاضلية (نسبة إلى الشيخ محمد فاضل بن مامين).

 

القادرية البكائية

تنسب القادرية البكائية إلى سيدي أحمد البكاي (ت. 920هـ/1514م) بن سيدي محمد الكنتي الذي لا نعرف عنه إلا رحلته السياحية التي قادته من الشمال إلى قرية ولاته فاستقر بها بعد أن رغب فيه أهلها لِما رأوه من لائح بركته وصلاحه. فرضي بالمقام معهم إلى أن توفي وقبره هنالك مزور مشهور.

 

وفي قرية ولاته قام بإصلاح ديني وأخذ عنه أبناؤها العلم ومنهم سيدي عبد الرحمن المحجوبي الذي يذكر أن قدمه رسخت في التصوف حتى تقطب. ولقد كان البكاي في منطقة الشمال الموريتاني في حدود 911هـ وهو التاريخ الذي اشترى فيه نخلا في شنقيط كما دونته وثيقة ما زالت قائمة الذات.

 

ويذكر المؤرخون أن سيدي أحمد البكاي هذا كان أول من ربط أهالي هذه المنطقة من قبائل البيظان وشعوب السودان بالطريقة القادرية وإن كانت علاقته بعالم توات ومتكلمها محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني الذي كان حينها يتنقل بين فاس وتوات والسودان الأوسط (كانو وغاو)، غير واضحة المعالم حسب مبلغ علمنا إلى الآن ولا نعرف حقيقتها لا بالإجمال ولا بالتفصيل وإن درج على القول بها غير واحد من المؤلفين في أخبار هذه الطريقة وبدايات نشأتها. هذا بالرغم مما نعرفه من قوة العلاقة بين المغيلي وأسكيا إسحاق ملك مالي الذي كان يبالغ في إجلاله واحترامه.

 

والعلاقة بين المغيلي والسيوطي لا نجد عنها من المعلومات شيئا كثيرا اللهم إلا ما يعرف من الخلاف الكبير بينهما في جواز تعلم المنطق. ولهذا ذهب بعض المؤرخين إلى استبعاد علاقة التلمذة بينهما خاصة أن المغيلي تربى على يد أبي لعباس الوغليسي في بجاية.

 

ويذهب هؤلاء الموثقون إلى أن الشيخ سيدي أحمد لم ينشر هذه الطريقة بشكل علني، وأن الناشر الفعلي لها هو ابنه الشيخ سيدي أعمر (ت. 959هـ/1552م) الذي لقي فيما يبدو مُحمَّد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني خلال رحلاته في بلاد السودان، ورافقه في أسفاره الأخرى وأخذ عنه الطريقة القادرية.

 

وعندما قفل المغيلي إلى الشمال راجعا من حيث جاء، بعد إعلامه بقتل يهود لابنه عبد الجبار في منطقة توات، ترك مريده الشيخ سيدي أعمر خليفة على مشيخة القادرية في هذه الأصقاع الجنوبية. فكان في تصور المؤرخين الباث الفعلي لهذه الطريقة جنوب الصحراء وغربها.

 

الطريقة الفاضلية

نشأت هذه الطريقة - فيما يبدو- بمنطقة الحوظ بالشرق الموريتاني وعرفت انتشارا فضائيا واسعا حيث اعتنقها الكثيرون في الشمال والجنوب. وهي فرع من الطريقة القادرية وإن كانت لها استحداثاتها الخاصة من مثل الجمع بين مختلف الطرق، فكان مشايخها يعطون أوراد الطرق المعروفة وإن صرحوا أن ورد القادرية يغني عنها جميعا، وغير ذلك من المسائل التي أعطتها خصوصيتها المتميزة.

 

وقد تأسست هذه الطريقة على يد الشيخ مُحمَّد فاضل (ت. 1286هـ/1869م) وقد أخذ الطريقة القادرية مسلسلة عن آبائه إلى الجد السابع المسمى الطالب الحبيب الذي تربى في منطقة اتوات ونزح منها إلى جبل العياشي شمال سجلماسه في حدود سنة 975هـ ثم نزح بنوه جنوبا حتى وصلوا إلى منطقة الحوض الموريتاني.

 

الطريقة الشاذلية

تنسب إلى مؤسسها الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الجبار الشاذلي (656هـ/1258م) أحد أعيان علماء وأولياء بلاد الغرب الإسلامي ينتسب إلى قرية شاذلة. نشأ بالجزائر ومكث برهة من الزمن بتونس ثم هاجر إلى مصر حيث استقر به المقام. ومنها بدأت طريقته في الانتشار وأخذت شهرته تعم وتمتد بين الناس. وقد توفي بصحراء عيدان متوجها إلى مكة.

 

كان الشاذلي كما يقول عنه ابن عباد: "من القلة الذين جمعوا بين العلم والحال والهمة والمقال". وكانت طريقته كما يقول ابن عباد أيضا: "من تلك التي تياسرت عن صحو يفضي إلي الحجاب وتيامنت عن سكر يؤدي إلي سوء الأدب، وتسامت عن انقباض يوقع في انكماش وسوء الظن ويحجب عن روح الرجاء ولذاذة الشوق والطلب وصانت عن انبساط ينزل بصاحبه عن مقام الاحتشام والحياء ويؤول به إلى سوء الأدب". وسنرى انتشار هذه الطريقة من خلال نسختين منها هما: الناصرية والغظفية.

 

والطريقة الشاذلية الناصرية هي أول الطرق انتشارا في منطقة شنقيط وإن لم تكن أولها دخولا. فقد دخلت إلى هذه المنطقة أيام الشيخ مُحمَّد بن أحمد بن ناصر بن عمر (ت. 1085هـ) شيخ زاوية تامقروت.

 

غير أنها لم تأخذ زخمها الحقيقي في مجموع السكان إلا في أواخر القرن 11هـ/17م خاصة مع الشيخين سيدي أحمد (ت. 1129هـ) وهو أحد أبناء الشيخ محمد بن ناصر ووريثه وخليفته في زاويته، ثم بعده مع أحد تلامذة التلامذة المتصدرين على والده: الشيخ سيدي أحمد لحبيب السجلماسي (ت. 1138هـ) الفلالي المعروف بعلمية: "قطب سجلماسه" صاحب الزاوية المنسوبة إليه. ففي عهد هذين الشيخين تعمقت تعاليم هذه الطريقة بين سكان شنقيط وازداد الآخذون بها زيادة لافتة للانتباه.

 

ويعد قطب سجلماسة سيدي أحمد الحبيب بن عبد العزيز الفلالي المؤسس الثالث للطريقة الناصرية بعد الشيخين محمد وابنه أحمد. ويبالغ تلميذه سيدي عبد الله التنواجيوي بوصفه بكثرة العلم والتبحر في مختلف فنونه. فيقول عنه في إحدى رسائله في الانتصار للجيم المعقودة والرد على القائلين بعدم صحتها :

 

"مع أن هذا المفتي الذي يزعم أنه يعرف شيئا من مسائل الفقه لو ازدحم مع أهله لطرق أذنه ما يجلس دهرا طويلا في تعليمه. فأين هو من تقرير شيخنا (يعني سيدي أحمد لحبيب السجلماسي) للشيخ خليل حين الإقراء. فإنه أتى بخمسين صورة في قول الشيخ خليل لا غيره فبجعله الماسح لا ماء معه ويتيمم. وبعض مسائله يقرر فيها مائة وستين مسألة كمسألة الصرف المعروفة. وبعض المسائل يقرر فيها سبعين ألف مسألة. وكان في حالة إقرائه لمسائل الميراث أتى للجد بأربعة آلاف مسألة ويقررها كما ينبغي. وغير ذلك مما لا يُعد كثرة لو تتبعناه لملأ ديوانا ولبُهِت المخاطَب بهذا".

 

الغظفية

أما الشاذلية الغظفية فهي نسبة إلى مؤسسها الأول الشيخ مُحمَّد الأغظف بن أحمد بن سالم (ت. 1212هـ/1796م) المعروف عند أتباعه بلقب "شيخ الأشياخ". من منطقة الحوض (الشرق من موريتانيا). وقد أخذ عن شيخ يوصله إلى شيخ الزاوية الناصرية بتامقروت : سيدي مُحمَّد بن ناصر الدرعي.

 

هذا الشيخ هو: الشريف مولاي زيدان (ت. 1202هـ) بن سيدي محمد بن مولاي أحمد بن مولاي عبد الكريم التواتي وهو الذي أدخل أوراد مولاي عبد المالك الرگاني إلى ولاته وما حولها من البلاد. ويبدو أن هذا الشريف لم يؤسس حضرة خاصة به بالرغم من مكثه في منطقة ولاته زمانا. ويعلل تلامذته ذلك بأنه رفض التلقب باسم الشيخ مكتفيا بأن يكون مجرد موصل لهذه الطريقة من شيخها الركاني.

 

وعليه فالشيخ محمد لغظف الداودي هذا أخذ عن مولاي زيدان بن سيدي محمد (ت. 1202هـ) التواتي عن مولاي عبد المالك عن عبد الله الرقاني عن سيدي مُحمّد بن عبد الرحمن بن أبي زيان عن سيدي مبارك العنبري الغزواني عن محمد بن ناصر الدرعي.

 

الطريقة التجانية

تعد الطريقة التجانية أحدث الطرق الصوفية الكبرى نشأة وإن لم تكن من أقلها حيوية وانتشارا. ففور قيامها بدأت تعرف مدا متناميا وسريعا ربما يساعد في تفسيره، الرجوع إلى طبيعة الطريقة نفسها، وإلى محيطها الديني والاجتماعي الذي ظهرت فيه وإلى الظرف التاريخي الملابس لها.

 

وتنسب هذه الطريقة إلى سيدي أحمد التجاني بن محمد (ابن عمر) بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم (1150هـ/1737م -1230هـ/1815م). ولد بعين ماضي بالجزائر ودرس بها ثم رحل إلى فاس حيث استكمل تكوينه العلمي وأخذ عدة من الطرق الصوفية كالقادرية والشاذلية. وبعد ذلك شد الرحال إلى زاوية الشيخ عبد القادر بن محمد الأبيض ومكث بها خمس سنوات ثم توجه إلى تلمسان حيث كان فتحه الأول ثم سار ميمما شطر الديار المقدسة.

 

وفي الطريق إلى الحج مر بتونس فأقام بها مدة، ثم توجه إلى مصر فالتقى بشيخها الأكبر إذذاك محمد الكردي. وبعد أن أكمل شعائر الحج توجه إلى سيدي محمد بن عبد الكريم السمان فأذن له في جميع الأسماء وأخبره بأنه هو القطب الجامع. وعنئذ رجع قافلا إلى بلاد المغرب، وفي سنة: 1196هـ/ 1781م حصل له الفتح الأكبر بقصر أبي سمغون بالجزائر.

 

الحموية

ظهر هذا الفرع من الطريقة التجانية في سنة: 1343هـ/1921م وهو منسوب إلى الشيخ أحمد حماه الله بن محمدُّ بن سيدنا عمر وتختلف هذه الطريقة شيئا ما عن فرع التجانية الحافظي الذي انتشر في موريتانيا من حيث متن الورد ومن حيث سند الأخذ.

 

فمن حيث متن الورد يقتصر أصحاب هذه الطريقة على إحدى عشر من الصلاة المعروفة باسم جوهرة الكمال كما كان الحال في زاوية فاس ابتداء قبل انتقاله إلى اثني عشر مرة في آخر أيام الشيخ سيدي أحمد التجاني.

 

أما من حيث سند الورد، فالمعروف أن الشيخ حماه الله أخذ عن الشيخ سيدي محمد الأخضر بن عبد الله (ت. 1327هـ/1909م) وهو صوفي صالح تتلمذ على سيدي طاهر أبو طيبه التلمساني الذي يعد من أكابر تلامذة الشيخ التجاني المباشرين ممن نال الإذن المطلق في الأوراد والأسرار والآداب وسمي خليفة عاما.

 

وسيدي محمد الأخضر ربطته مع بعض مشايخ الطريقة القادرية علاقات خاصة اعتبرها الحمويون مجرد صداقة وألفة، بينما وصفها أتباع أولئك المشايخ بالتلمذة الصوفية. فقد قضى زمنا مع الشيخ محمد فاضل بن اعبيدي القلقمي الذي يعد أحد وجوه الطريقة القادرية الفاضلية في آدرار، ثم مع الشيخ سيدي المختار بن عبد الجليل التندغي وهو أيضا علم بارز من أعلام الطريقة القادرية ومؤسس لاتجاه خاص في داخلها يعرف باسم "الشمعه" وقد صرح هذا الشيخ في إحدى رسائله أنه ربّى سيدي محمد الأخضر في التجانية وأنه كان مريدا له.

 

ولقد اختلف الرواة في موطن سيدي محمد الأصلي، فذهب البعض إلى أنه من منطقة اتوات بجنوب غرب الجزائر، بينما ذهب آخرون إلى أنه من سكان منطقة غرب تونس. وأيا ما كان الأمر، فإن الرواية التاريخية ترجع سبب سفره من بلاده وقدومه منطقة غرب وجنوب غرب الصحراء إلى سعيه المتواصل لأداء الأمانة التي أعطاه شيخ زاوية تلمسان وأمره أن يبجث عن صاحبها أينما كان ليعطيه إياها وأشار إليه بالجهة التي يطلبه فيها.

 

وهكذا من تلمسان مركز الزاوية توجه الأخضر جنوبا بحثا عن صاحب الأمانة الذي يجهل اسمه، فمر بمنطقة توات ثم باجريف في آدرار موريتانيا فنزل على الشيخ محمد فاضل بن محمد اعبيد وأقام معه زمنا، ثم ذهب إلى شنكيط حيث تزوج هنالك وأنجب بنته لاله. ثم توجه إلى بلاد القبلة وزار محاظرها والتقى بأعلامها وسافر أيضا إلى السينغال ومنه إلى منطقة العصابه وما حولها وبعد ذلك جال في منطقة فوتا تورو. وفيها قضى عدة أشهر بعدما جذبت صوفيته إليه عددا غفيرا من المريدين وبالخصوص من أهل مدينة كيهيدي.

 

وفي هذا المكان تسلك على يديه عدد من الناس غير قليل، وقدّم بعضهم في الطريقة من مثل: فوديو أبو بكر بن لمبت دوكوري، وفوديو عبد الله دياقانا، وفوديو شيخو دياقانا، وفوديو محمد يوسف دياقانا ومن منطقة فوتا تورو توجه إلى منطقة قورقول ثم بعدها إلى الحوض وهناك قدّم عددا من المريدين من قبيلة لغلال خاصة، من مثل محمد عبد الرحمن ولد أهل مختار، وحمادي ولد بوبوي، وصالح ولد بوبوي، وعبد الله ولد الإمام.

وذهب بعد ذلك مشرقا فأتى علماء ولاته والنعمه واستمع لهم فمكث معهم زمنا. ثم توجه في سنة: 1319هـ/1900م إلى عاصمة كارتا القديمة المعروفة باسم: نيورو وقرر الثواء بها إلى أن توفي وبها قبره معروف المكان. وفي انيورو بدأ يدرس العلم ويربي المريدين، فقدم بعضهم من مثل تييرنو سعيدو با، وتييرنو عمر ديالو وقد أدى به نشاطه القوي في التربية والتسليك وظهوره الروحي المتميز إلى الاصطدام بالتجانيين العمريين، فدارت بينه وبينهم مناظرات ونقاشات عديدة.

 

وفي نيورو تعرف سيدي محمد الأخضر على الشيخ حماه الله ولقنه الطريقة التجانية واهتم بتربيته عامين ثم أعطاه الأمانة التي أرسل معه شيخه من تلمسان أبو طيبه وتوجه خليفة للتجانية.

 

هذه جملة من معالم الترابط الثقافي بين البلدين يمكن أن تكون نواة لبحث أكثر عمقا واتساعا وشمولية نرجو أن نجد فسحة من الوقت وفراغا من الصوارف لنعطيها حقها من البحث والإبراز.