على مدار الساعة

الفنكوش وصل

5 ديسمبر, 2019 - 18:32
الشيخ ولد المامي

القصة: سخر الإعلام المصري كل جهوده من أجل رفع شعبية السيسي بعد انقلابه على المرحوم مرسي، ومن ضمن ما قدم في تلك الفترة من وسائل الدعاية كان جهاز كشف ومعالجة الأيدز وفايروس سي الذي اختراعه عبد العاطي "كفته" وكانت تلك قمة الإعجاز العلمي (الدعائي طبعا)...

 

***

المقال: طبيعي جدا أن يكون من تعود على أنصاف الرجال وأرباع الرجال وأعشار الرجال دائم اللهفة مشرئبّ العنق لعودة الـ(هيرو) الخارق الذي يحمل مصباح علاء الدين في يمناه والعصى السحرية في يسراه ، كي يصلح ما أفسدته السنون.

 

وطبيعي جدا أن تكون لهذا البطل صورة مرتسمة ومطموسة المعالم في العقل الباطني لضحايا الفساد والإفساد المستشري في كل مفاصل الدولة منذو حقب.

 

والغريب أن تلك الصورة يمكن أن يجسدها العقل ويوضح ملامحها على أي قادم جديد، خصوصا إذا كان هناك من يعمل على إجبار العقل على ذلك ويوفر الإمكانيات الدعائية لاستيعاب هذا الهدف.

 

لكن الإصلاح الحقيقي له أصول ومكانيزمات لا بد أن تراعى بعيدا عن الدعاية والشعبوية، ولا يمكن أن يتأتى أي إصلاح بدون مراعاة تلك الأصول وتهجي مفرداتها بروية وتمشّي على الحبل في بعض الأحيان.

 

صحيح أن إرادة الإصلاح قد تأتي من أسفل السلم، لكن العمل على تحقيقه لا بد أن يأتي من القمة، كما أن أي إصلاح جزئي لا يعدو أن يكون مهدئا موضعيا، وبالتالي فمعالجة عضو يتيم في جسد مريض لا يحمل أي ذرة من المنطقية، ولا تنطلي وجاهته على أي عاقل.

 

قبل عقد من الآن ظهر ذلك البطل الخارق صاحب العصى السحرية - يجتمع مع نذيرو في صفة، وهي أنه يعالج ملفات تدخل ضمن تخصصه الدراسي والعملي "قطاع العدل" - تم توفير كل ما هو متاح آنذاك من وسائل الدعاية له، لكن ما إن تعدى الغشاء الهلامي واصطدم بالجسم الصلب حتى فعّل وضع الصامت واحتجب في غمده.

 

هل تذكرون الميتر محفوظ ولد بتاح أيام حكم المرحوم اعلي ولد محمد فال، وهل تذكرون بدايته، وكيف كتبت نهايتها؟

 

قبل ذلك بسنوات كانت هناك حملة الوزيرة في وزارة التهذيب التي طارت بها العنقاء أو ضمها المختار ولد اجاي لحقيبة سفره نحو الشمال وصارت ضمن حديث الذكريات.

 

لن أقتنع أبدا بوجاهة إصلاح مدفوع بحملات شعبوية (نذيرو لا اتولي) فعملية الإصلاح تحتاج دراسة وتكتما في تنفيذ مراحلها حتى يتوفر عنصر المفاجئة ضد أي مقاومة، أما غير ذلك فهو مجرد حملات (فنكوشية).

 

ها هو بيرام قد ولى (بيرام لا اتولي) في أول اختبار حقيقي، وأول إرادة حقيقية للإصلاح ومحاسبة من تراه الغالبية مفسدا - ولست منهم - وأصبح يقايض محاسبة ملفات على الطاولة بملفات تحت غبار الأرشيف، وهذا أمر غير مفاجئ لي شخصيا لأنني أعرف الحقيقة المُرة لكل الحملات الشعبوية.

 

لنفترض جدلا أن وزير الصحة يعي ما يقول ويعرف ما يصرح به ويملك الامكانيات لتحقيقه، لكن يجب أن لا ننسى أن ملف الصحة والأدوية تتداخل فيه صلاحيات الوزير مع كل من وزير التجارة والمالية والنقل والجمارك والوزارة الأولى ورئاسة الجمهورية، وأن أي إصلاح لا يقوم دفعة واحدة في كل هذه القطاعات يبقى مجرد ضحك على الذقون وحملات (فنكوشية) فلا يمكن أن نتوقع تصفيقا من يد واحدة.

 

صناعة البطل الــ(هيرو) هي أسوء ما يمكن أن يُبتلى به المسؤول، فالمكانة التي ستوصله الدعاية لها في قلوب الشعب ستترك أي إجراء يقوم به يظل دون المتوقع، نظرا لعلو سقف المتوقع منه، أما لو أخفق في مساره - كما أتوقع - فإن من طبّلوا وصفقوا له اليوم سيكونون أشد الناقمين عليه غدا، ولن أستغرب إن وجدتهم يرمونه بالبيض الفاسد في الأزقة كلما خرج من حُقه العاجي.

 

لن أقبل بوجاهة أي إصلاح في هذه المرحلة لم يأتي من الرئيس غزواني شخصيا ولم تظهر صورته فيه بشكل واضح، فحتى لو افترضنا أن الدولة مقدمة على نهج يعتمد اللامركزية في القرار، فإن رواسب قطبية القرار ما زالت مسيطرة على الأذهان، وصحيح أن لكل نهاية بداية، لكن الدول لا تدار بعقلية الصعقة، والتدرج في الأمور مطلوب في هذه الحالات أكثر من غيرها.

 

مركز الرئيس هو الوحيد الذي يمكن أن يقود عملية الإصلاح بحكم تشابك خيوط كل القطاعات في يده، وصورته واسمه هم الوحيدين الذين يمكن أن يعتمدا كأيقونة للإصلاح، أما البطل الهامشي فهو مجرد بطل شعبوي لا يمكن أن يراهن عليه لأنه يمكن أن يغيب عن الصورة مع أول خطأ وظيفي بجرة قلم بسيطة من مدير الديوان.

 

صرح الوزير نذيرو كثيرا ووعد كثيرا وتوعد كثيرا لكن أي متأن في القراءة يعلم علم اليقين أن هذه مجرد إنشائيات أدبية قد تتوقف ماكيناتها مع أول اصطدام بالأجسام الصلبة، وأن منطقة الهلام التي ما زالت تسير فيها حتى الآن هي ما يضمن لها الحركة.

 

قد يقول البعض أن هذه رؤية متشائمة وقد يقول آخرون شيئا آخر لكن أغبى الناس من يعيد نفس طريقة الحل ويرجو أن تختلف النتائج، وأي عاقل قرأ أرشيف الماضي ورأى الواقع يسير بنفس الطريقة لا يمكن أن يتوقع نتيجة مغايرة، كي لا يكون المنطق عليه ضدا.

 

***

للعبرة: يقول مهاتير محمد (إن أردت الصلاة اتجهت إلى مكة، وإن أردت تطوير ماليزيا اتجهت إلى اليابان).