على مدار الساعة

نحن بتوع النهج

31 يناير, 2020 - 01:12
الشيخ ولد المامي

القصة: لم تكد صورة ضابط أمن الدولة الذي يجسده الفنان سعيد عبد الغني في فيلم (نحن بتوع الأتوبيس) لتفارق ذهني لحظة، وكيف كان يظهر الحنان في البداية رغم قسوته في النهاية مذ علمت بتوفيق صديقي محمد علي وعبدو تاج الدين إلى أن جاء اليوم الموعود.

 

***

المقال: ليس من المنطقي أن نفعل قبل أن نتساءل لماذا سنفعل، وليس من المعقول أن نمضي في الفعل دون أن يكون لدينا هدف معين، لست من الذين يؤمنون بالصدف، ولست إنسانا يحب التلقائية، أي عمل أقوم به لا بد أن أفكر وأبصّر وأنجّم كثيرا، لأن المضي في الفعل لا بد أن يحسب معه حساب رد الفعل، والشجاعة بالنسبة لي ليست رديفة الاندفاع، وقبل الفعل لا بد أن أحسب الأمور، هل ستكون ملائمة أم ستكون صادمة؟، سلبية كانت الصدمة أم إيجابية؟

 

صحيح أنني لم أحسب حساب تدخل الأمن في القضية هذه المرة، فقد تعودنا طوال عشرية الرئيس عزيز المنصرمة على ترك الحبل لنا على الغارب كعاملين في الحقل الإعلامي، وشعرنا بالحرية حقا، وليس هذا تقوّل على أحد أو تطبيل لأحد.

 

***

كنت بالتأكيد قد حسبت حسابات كثيرة أهمها أن هذا المسار قد يؤثر سلبا على تعاطي بعض الجهات معي كعامل في الصحافة، كما سيؤثر بالتأكيد على إتاحة الفرص أمامي، لأنني هذه المرة أعمل عكس مزاج القائمين على الشأن العام. لكنني أعلم أنني لن أخسر كثيرا فطوال حياتي أعتمد على نفسي وخبرتي التي منحني الله، وأعمل حسب ما يمليه علي الضمير، دون أن أحسب حساب العوائد، مادية كانت أم وظيفية.

 

ومع ذلك فأنا صحفي لدي مهنة أتعامل مع أي جهة كانت، شرط أن يكون عملها داخل الدائرة التي يسمح القانون بالعمل فيها، وأعتقد أن القانون يكفل لي هذا الحق، فما بالك إذا كانت هناك تقاطعات فكرية مع هذه الجهة، وكنا ندعم نفس الاتجاه، فبالتأكيد سيكون في عملي هذه المرة (حج وزيارة).

 

***

حينما تخلى غالبية الساسة والمطبلة عن الرئيس عزيز وأصبح الكل ينهش لحمه، ممن كانوا يرفعونه بالأمس فوق مستوى البشر، ورغم أنني كنت من أبرز المعارضين الناطحين له، تناسيت كل مآخذي على الرجل وغفرت خطاياه - إن وجدت - ولم يبقى في ذهني للرجل سوى قطعه العلاقة المشينة مع إسرائيل، فأعلنت - غير نادم - دعمي له واستعدادي للدفاع عنه بكل ما أوتيت من قوة البيان وسلاطة الحرف، وسطرتها صريحة على صفحتي الشخصية، ولم ولن أزل مستمسكا بها حتى الساعة. ورغم كل ذلك لم أتصل بالرجل أبدا ولم ألتق به ولم أسع لذلك، فقد كانت مساندتي له نابعة من ضمير عار عن مؤثرات النفعية الوصولية التي عمت بها البلوى للأسف.

 

***

بدأت حكاية "النهج" حينما رصد أخي وصديقي وزميل دراستي محمد علي الانحراف الذي طرأ على خط تحرير صفحتي على فيسبوك، فاتصل بي وطلب مني أن نلتقي، وهو ما حدث بالفعل، حيث عرض علي العمل معه كصحفي مهني في صفحة "النهج" التي يزمع تأسيسها، فأجبت بالقبول بعد تفكير وتمعن.

 

استعان الزميل محمد علي بي في إنشاء تلك المنصة، حيث أنه ورغم تخصصه في المجال إلا أنه هجر العمل الصحفي منذ عدة سنوات متجها إلى شواطئ وظائفية ربما تكون أكثر دخلا من مهنة المتاعب اليابسة.

 

بدأنا العمل بإنتاج الفيديوهات القصيرة، مستعينين بالمخرج الطيب الخلوق عبدو تاج الدين، وأعتقد أن رسالتنا قد وصلت، وأن نجاح الصفحة يقدر دون مبالغة بـ500%.

 

كان آخر عمل ننتجه هو ذلك الفيديو الذي تحدث عن نُتفٍ من تاريخ وزير الداخلية كما رواها الإعلام في حينها، ليتم اعتقال الزميل محمد علي قبل بث الفيديو. علمت بالحدث من خلال وسائل التواصل فقررت تسليم نفسي لإدارة الأمن، فاتصلت على أحد المحامين مستشيرا فأكد لي أن الأمن حين يريدني سيتصل علي ولا داعي لأن أسلم نفسي دون أن يطلب مني ذلك. فقد يكون الزميل معتقلا بسبب مقاطع صوتية لا علاقة لي بها. لكن ما إن أعلن عن اعتقال الزميل تاج الدين، حتى بدأ الإحساس بالذنب يقض مضجعي، فعبدو ليس له ذنب وكان مجرد مهني لديه خبرة يمارسها لقاء عائد مادي، وليس لديه موقف سياسي من أحد، وما دام قد اعتقل فالجماعة في الطريق إلي بالتأكيد.

 

لم يغب عن تفكيري ذلك المشهد في فيلم (البريئ) الذي جسده الفنان نجاح الموجي عامل التحويلة حينما اعتقله الأمن ليتم به حسبة المعتقلين.

 

كان عذاب الضمير ينهشني بشكل مستمر بسبب تلك المعطيات حتى دقت ساعة الصفر، حينما اتصلت بي إدارة أمن الدولة عبر أحد أصدقاء الطفولة، ليخبرني أنني مطلوب لديهم فطلبت منه الحضور لمرافقتي، فحدد لي وقتا لذلك وضرب لي موعدا محددا.

 

وفي حدود الساعة العاشرة صباحا اتصل على نفس الصديق، وطلب مني أن أطمئن الوالدة والأسرة وأخرج للقائه في نقطة معينة قرب المنزل، فودعت الوالدة والأهل، على وابل كثيف من دموع الوالدة، وخرجت للقائه حيث وجدته في سيارة مدنية بصحبة زميله الضابط (ش) دردشنا قليلا وأعلنت لهما استعدادي لتسليم نفسي، فذهبنا باتجاه إدارة أمن الدولة، وفي الطريق طلبت منهما إيصالي لملتقى "مدريد" لأتزود بحاجتي من "التبغ" فردا علي بكل سرور وحينما وصلنا بائعة التبغ دفعا ثمن الكمية، فأخبرتهما أن لدي نقودا فرد علي (ش) انت الآن على نفقتنا نحن.

 

وصلنا إلى الإدارة العامة للأمن فأجريا اتصالا طلب منهما من كان على الطرف الثاني أن نوافيه في (جهة أمنية) فواصلنا طريقنا نحوها.

 

كان الحديث طوال الطريق وديا، وكنا نثرثر بتلقائية دون أي نسبة من الضغوط النفسية أو البروتوكولية، كما لو كنا خارجين في رحلة صيد. وبعد أن تناولنا كأس الشاي الأول حضر محقق شاب اسمه (ع. أ) سلم علي باسمي مبتسما، وجلس على المكتب وطلب مني الجلوس على أحد المقعدين، وأخبرني أنه يعرف جدا من أكون، فجلست على الكرسي الأيسر بالنسبة له، لينسحب الآخرون في الحال، ويبدأ التحقيق.

 

بدأ المحقق بسرد جميع حقوقي أولا بما فيها حق الامتناع عن الإجابة، والفحوص الطبية، واختيار الوجبات. ثم بدأ التحقيق بسؤال واحد كانت إجابتي مطولة شيئا ما، دردشنا أثناءها وتناولنا بقية كؤوس الشاي، وسألني إن كنت قد أفطرت وأنه مستعد لإحضار وجبة فطور. وبعد أن احتسينا آخر كأس شاي كان التحقيق قد أذن بالنهاية فطلب مني تسليم هاتفي وتعهد بإعادته إلي قبل إطلاق سراحي.

 

صادفت هناك أحد جيراني القدماء في عرفات يسمى (أ. ب) يعمل في نفس المكان فطمأنني على أن وضعيتي ستكون مريحة، وانسحب. خرجت بعدها بصحبة المحقق (ع. أ) فأوصلني إلى أحد المنازل المستقلة داخل المقر المخصصة للحجز، وقدم لي بعض النصائح في الطريق عن أدبيات التوقيف وعرض علي بعض النقود لشراء حاجياتي فأخبرته أن لدي ما يلزم. واقترح علي غرفة واسعة خيرني بينها وبين غرفة أخرى بعد أن سمح لي بلقاء زميليي عبدو ومحمد علي.

 

انسحب المحقق بعد ذلك فأخذت حماما بدون صابون، وبدأت أدخل في جو المعتقل.

 

كان الحراس ودودون، وكانت معاملتهم حسنة، حيث يقيمون الشاي، ويحضرون الحاجيات من السوق، وربما التقيت بأحدهم في إحدى الردهات فسلم عليك داعيا (فك الله أسركم).

 

في اليوم الأول كان يحرسنا عدد من الشباب كان أطولهم مقاما معنا الوكيل (ع. س) وكان شابا لبيبا طيبا من غير تهاون في تنفيذ تعليمات رؤسائه. يفهم في الأدب الحساني ويستطيب سماعه. وكان بصحبته شباب آخرون لا يقلون عنه طيبة.

 

كنا نلتقي في الردهات وعلى أبواب الغرف، وفي اليوم الأول بعث لي الزميل تاج الدين بوجبة مستجلبة من خارج المعتقل، اشتملت على لحوم وخضروات وفواكه وأجبان وقناني مياه معدنية، اكتفيت بها عن طعام المعتقل.

 

عند الساعة الخامسة مساء، أخبرني الحارس بأن المفتش في أمن الدولة (م. ل) يريدني فذهبت اليه في مكتب في مبنى مجاور، فأخبرني أن لدي زيارة، وبعد قليل حضر الوالد العزيز والأستاذ القاضي المامي ولد أبابه، الذي وقف معي ومع الأسرة بكل جهوده، فأخلى لنا المفتش المكتب، فالتقينا ودردشنا فترة ليست بالقصيرة وطمأنني على الوالدة والأهل، وزودني ببعض النقود، وانسحب. ليدخل بعدها المفتش (م. ل) ونبدأ دردشتنا لمدة ساعة طرح علي خلالها أربعة استفسارات قصيرة، أجبت عنها بما أعرف. لينسحب بعد أن سألني هل لدي حاجة؟، فأخبرته أنني أريد ناموسية ولحافا (امبدو) بعث من يشتريهما من السوق ليعود إلي بهما بعد أن عدت لمعتقلي.

 

خلال المساء شربنا الشاي وأنشدنا الشعر الحساني، وتمازحنا طيلة فترة الشاي الذي أعده الوكيل (ع. س) تناولنا بعده وجبة العشاء وهي عبارة عن معكرونة ودجاج استجلب لنا بعدها تاج الدين علبا من الحليب المحلي، تناولناها بعد وجبة العشاء. بعد ذلك حضر الضابط المسؤول عن (الجهة الأمنية) ففتش الغرف وصادر الولاعة التي أستخدم في إشعال التبغ، وأمر بإغلاق الأبواب. أحسست حينها أنني معتقل حقا وأن حريتي قد أصبحت في خبر كان.

 

بعد أداء الفروض خلدت للنوم حتى الصباح، فأحضر لي الزميل عبدو تاج الدين وجبة الفطور من خارج المعتقل، وهي عبارة عن حليب محلي وجبن و"كرواسان" تناولنا الشاي بعدها وقد أعده أحد أفراد الوردية المداومة لا اتذكر اسمه. خرجت بعد ذلك إلى الفضاء الأمامي، لأجل التدخين أساسا، وربما أفرطت في ذلك قليلا بسبب طول الفترة التي قضيت عنه، ما سبب لي غثيانا ودوارا، أسندني اثنان من الحراس حتى أوصلوني للمعتقل، وقاما بتدليك عنقي وكتفي لمدة ساعة حتى تجاوزت النوبة، طلبت منهما بعد ذلك إحضار كيس بلاستيكي داخل المعتقل حتى لا يعاودني الغثيان فأتقيأ في الغرفة. وعدت إلى فراشي، وخلدت للنوم حتى الساعة الخامسة مساء، تخللت ذلك زيارة من أحد أفراد أمن الدولة وهو أحد جيراني في الرياض، يسمى (ش. م. ع) استفسرني عن وضعتي الصحية، وهل أحتاج طبيبا، فأخبرته بعدم وجود ضرورة لذلك.

 

فتح أحد الحراس باب غرفتي حوالي الساعة السادسة مساء، وأخبرني أن هناك من يريدني، فخرجت لأجد شابا بشوشا يلبس مدنيا فأمرني بالجلوس بجواره، في سيارته، واصطحبني إلى إدارة الأمن، حيث قابلت المفتش (م. ل) فقال لي مدير الإدارة يريدك، وأدخلني إلى مكتبه فحياني وأمرني بالجلوس على أحد المقاعد، وأخبرني بإطلاق سراحي.

 

اتجهت بعد ذلك لغرفة مجاورة من أجل إكمال الاجراءات حيث جلست بصحبة أحد الأفراد يسمى (و. ط) ففاتحني في الحديث، وجلسنا جلسة أدبية، أنشد لي بعض انتاجه الأدبي، وأمدني بتبغ، ومكثنا لمدة ثلث الساعة تقريبا، ناداني بعدها المفتش (م. ل) ورد إلي هاتفي وودعني لاخرج بصحبة الزميل عبدو الذي صادفته في الباحة الأمامية وأنتشق أريج الحرية من جديد.

 

خارج المعتقل وجدت أنه أصبح لدي أسرتين جديدتين لا تقلان حبا وأهمية عن أسرتي الأولى، إحداهما تسمى (المدونين) والأخرى تسمى (الصحافة) وليس (نقابة الصحفيين) في الخارج أدركت أن ما كل من يبدي البشاشة كائنا أخاك. خارج المعتقل أدركت أن هناك من يستحق وهناك من لا يستحق.

 

للعبرة: مهما كانت وضعية اعتقالك مريحة، ومهما كان محيطك ودودا، فلن تذوق طعما للحياة وأنت مسلوب الحرية.