على مدار الساعة

الخوف من وباء كورونا عذر للتخلف عن الجمعة والجماعة

20 مارس, 2020 - 18:19
وكتبه إيمانا واحتسابًا محمد بن محمد الأمين بن الطالب إبراهيم البخاري الشنقيطي

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد فهذه عجالة أسطرها حول التخلف عن الجمعة والجماعة لعذر انتشار الوباء المسمى "كورونا" ورأيت أنه من الواجب على المسلم اتباع الأدلة واعتبار الدلالات حتى لا تستحكم العواطف والمواقف التي تحمل من معاني الضجة الإعلامية أكثر من العلمية لذلك يلزم المسلم الغيور على دينه ضبط مواقفه الشرعية والابتعاد عن الحماس والتهور والجهل والجمود وليس من التدين في شيء عدم اعتبار كل مقتضيات الأدلة ولوازم الرخص الشرعية، وكل معارضة للرخص وبعض الأدلة هو من وحي الشيطان وعقول الفلاسفة لا يقبله شرعنا الحنيف وديننا الحق وعليه فهذا ملخص استطردت فيه جملة من الأدلة ونقولا عن بعض علماء السلف الصالح حول صلاة الجماعة والأعذار المبيحة للتخلف عنها ويبقى المجال مفتوحا لكل من تكلم بحلم وعلم وما كتبت عن المسألة إلا لأنها من النوازل الحالية التي يتعين على المكلف معرفة حكم الله فيها.

 

فأقول وبالله التوفيق:

صلاة الجماعة من الشعائر الدينية والفروض الكفائية على الأمة وهي سنة مؤكدة في حق المعين لا يجوز له التخلف عنها إلا بعذر شرعي ويتجلى ذلك بأدلة كثيرة منها صحة صلاة الفذ المتخلف عنها وذكر التفضيل بينها وبين صلاة الفذ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) دليل حز في مفصل وبين عدم الوجوب بمقتضى الدلالات الجلية.

 

ولن أطيل حول وجوبها وسنيتها لأنه ليس محل النزاع وإن كان البعض يوغل في الاستدلال حتى يجعل سنيتها لا وجه لها فيغلق باب النظر وإعمال جميع الأدلة وجمعها على طالب العلم متأسيا ببعض الحنابلة والظاهرية ومتبعا نهج بعض اللجان العلمية والمباحث الفقهية المعاصرة التي لا تذكر إلا أدلة قولها وتتناسى اعتبارات الآخرين بل تصور في ذهن القارئ أن قوله يخالف الحق والدليل وإن كان إطلاق الواجب والسنية يتقارب من حيث الاصطلاح إلا أنه تختلف فروعه من جهة الحكم والتفريع وقد أطلق بعض أئمتنا الوجوب على السنة كابن أبي زيد القيرواني وأشار صاحب المراقي إلى هذا الاصطلاح المذهبي بقوله:

 

وسنة ما أحمد قد واظبا *** عليه والظهور فيـه وجبا

وبعضهم سمى الذي قد أكدا *** منها بواجب فخذ ما قيدا

 

فلا تعجل بالحكم أخي الكريم إذا سمعت إيراد حديث الأعمى في الوجوب ونحوه من الأمور المرغبة في اعتبار الجمع حتى تحقق مناط الاستدلال وتعلم أن حكاية الدليل فرع حتى يستدل به في محله خال من الموانع المؤثرة في الدلالة وقد يفوتك من الأدلة ما يقيد أو يخصص الدليل المحكي فحادثة الأعمى ابن أم مكتوم منسوخة لأن العمى عذر في التخلف عن الجماعة اتفاقا ولذلك استقر الأمر على عذر الأعمى فيما هو أوجب من صلاة الجماعة وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعتبان ابن مالك في التخلف والصلاة في بيته وهو أعمى وحديثه في البخاري ومسلم وإلى مثل هذه المعاني أشار أصحاب الفتح (كابن رجب والحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى).

 

ولو افترضنا جدلًا وجوبها لما كان ذلك سبيلا مرضيا لذم المتخلف عنها لعذر ممن يفهم مقاصد الشرع

برهان ذلك أن الشارع الحكيم يتشوف لاجتناب المحرم أكثر من فعل الواجب قال السيوطي في كوكبه :

 

فالترك للحرام إن تعذرا *** إلا بترك غيره حتمًا يرى

 

ولذلك لما حرم الشارع الحكيم أكل الميتة أباحها للمضطر قال تعالى: {{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}} هذا محل الحرام من الاضطرار فما يكون محل الواجب منه أليس من باب الأحرى طبعًا.

 

لذلك تجد القواعد الشرعية متماشية مع المقصد الكلي فالمشقة تجلب التيسير {{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}} {{ما جعل عليكم في الدين من حرج}} (لا ضرر ولا ضرار)  "الضرر يزال".

 

وعليه فإن الشرع قد أذن في التخلف عن الجماعة والجمعة لضرر هو أبسط من الوباء كالريح الباردة والظلام والمطر والوحل ونحو هذا.

 

ولِهَذا كان مُنادي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - يُنادي في اللَّيلة الباردة أو المطيرة: ((ألاَ صلُّوا في رِحَالكم)) متفق عليه.

 

ومن الأعذار المنصوصة: الخوف والمرض، روى الحاكم في مستدركه على شرط الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سمِع النداء، فلم يمنعه من اتباعه عذرٌ، فلا صلاة له))، قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: ((خوفٌ أو مرضٌ)) يعلق حافظ المغرب وإمام المالكية في عصره ابن عبد البر رحمه الله بقوله : "وأما قوله في الحديث: "من غير عذر"، فالعذر يتسع القول فيه، وجملته كل مانع حائل بينه وبين الجمعة، مما يتأذى به أو يخاف عدوانه، أو يبطل بذلك فرضاً لا بد منه، فمن ذلك السلطان الجائر يظلم، والمطر الوابل المتصل، والمرض الحابس، وما كان مثل ذلك" "التمهيد" (16/243).

 

وبمثل هذا قال ابن قدامة: "ويعذر في تركهما الخائف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم –: "العذر خوف أو مرض"، والخوف ثلاثة أنواع؛ خوف على النفس، وخوف على المال، وخوف على الأهل. فالأول: أن يخاف على نفسه سلطاناً يأخذه، أو عدواً، أو لصاً، أو سبعاً، أو دابة، أو سيلاً، ونحو ذلك، مما يؤذيه في نفسه" "المغني" (1/451).

 

بل قال رحمه الله: "ولا تجب الجمعة على من في طريقه إليها مطر يبل الثياب، أو وحل يشق المشي إليها فيه... ولأنه عذر في الجماعة، فكان عذرا في الجمعة، كالمرض، وتسقط الجمعة بكل عذر يسقط الجماعة" المغني لابن قدامة (2/252).

 

برهان هذا كله ما ورد في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنه - أنَّه قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: (إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا! قَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ) رواه البخاري، ومسلم.

 

ألا ترى أيها القارئ الكريم أن الخوف من وباء ينتشر كانتشار النار في الهشيم بقدرة الله من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة .

 

قال إمام المالكية ابن جزي في تعداد أعذار التخلف (وهي في الفرائض سنة مؤكدة وأوجبها الظاهرية ويجوز تركها لعذر المطر والريح العاصف بالليل والمرض والتمريض والخوف من السلطان أو من الغريم وهو معسر أو لخوف القصاص وهو يرجو العفو والجوع فيبدأ بالطعام). القوانين الفقهية (ص: 48).

 

فلو وجب شهود الجماعة مع وجود الضرر لكان هذا مخالفًا لأصول الشرع وقواعده {{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}} (إنما بعثتم ميسرين) (أحب الدين إلى الله أيسره).

 

وعليه فكل من تخلف عن الجماعة لخوف الضرر فلا إثم عليه وفي حصوله على أجر الجماعة خلاف فكل من خاف على نفسه الضرر فله العذر وليس هذا مما ينافي التوكل لأنه من الأخذ بالأسباب المشروعة في الحذر من الأمراض المعدية قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/134): "فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها. وهذا الباب ذكر فيه جملا من هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأمراض المعدية يفيد القارئ المتفهم .

 

وليس المراد التخويف من داء كورونا ولا تأييد غلق المساجد أو التخلف عن الجماعة لغير عذر لكن اتباعا لكل الأدلة حتى لا يسخر أحد ممن تخلف أو أخذ بالرخصة حيطة وحذرا وعند انتشار الوباء وفشوه فالأمر سيفرض نفسه نسأل الله العافية وختامًا فليس التخلف عن الجماعة خشية الضرر ولا غلق المساجد حفاظا على الأنفس ببدع من القول فقد تبين حكم الجماعة وأما المساجد فقد ذكر عدد من أئمة السلف الذين أرخوا عن البلاء بالطاعون في العصور الأولى بطرف من الأخبار يدل على ذلك.

 

قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى:

وفي سنةِ ثمانٍ وأربعين وأربعمائةٍ كَانَ القَحْطُ عَظِيْماً بِمِصْرَ وَبَالأَنْدَلُس، وَمَا عُهِدَ قَحْطٌ وَلاَ وَبَاءٌ مِثْله بقُرْطُبَة، حَتَّى بَقِيَت المَسَاجِدُ مغلقَة بِلاَ مُصَلٍّ، وَسُمِّيَ عَام الْجُوع الكَبِيْر. سير أعلام النبلاء (18/311).

 

وعد الحافظ ابن حجر اجتماع الناس وتجمهرهم للدعاء عند نزول الوباء بدعة انتشر بسببها الطاعون والبلاء قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

فليس الدعاء برفعِ الوباء ممنوعا ولا مصادما للمقدور من حيث هو أصلا، وإنما الاجتماع له كما في الاستسقاءِ فبدعة حدثت في الطاعون الكبير سنة (٧٤٩) بدمشق، فقد قرأت في جزء المنبجي بعد إنكاره على جمع الناس في موضع، قال: فصاروا يدعون ويصرخون صراخاً عالياً، وذلك في سنة (٧٦٤) لمّا وقع الطاعون بدمشق، فذكر أن ذلك حدث سنة (٧٤٩) وخرج الناس إلى الصحراء ومعظمُ أكابرِ البلدِ فدعوا واستغاثوا، فعظم الطاعونُ بعد ذلك وكَثُرَ وكان قبلَ دعائِهم أخفُّ !

 

قلت: ووقع هذا في زماننا حين وقع أوَّلُ الطاعونِ بالقاهرة في ٢٧ من شهر ربيع الآخَر سنة (٨٣٣)، فكان عددُ من يموتُ بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء في ٤ جمادى الأولى بعد أن نودي فيهم بصيام ثلاثة أيامٍ كما في الاستسقاء، واجتمعوا ودعوا وأقاموا ساعةً ثم رجعوا، فما انسلخ الشهر حتى صار عددُ من يموت في كل يومٍ بالقاهرة فوق الألف ثم تزايد . (حكم التداعي لفعل الطاعات في النوازل والشدائد والملمات ١٧-٢١/ للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان ).

 

فهذا كلام السلف الصالح عن خطر الاجتماع زمن انتشار الوباء والأمراض المعدية يمكن الاستعانة بها لتوخي الحذر.

 

وفي الأخير، لا يليق الخوف الناتج عن عدم اليقين بالمسلم الموحد لله فلسنا كالكفار في الخوف من الموت والحرص على البقاء في الحياة الدنيا فالأمر سهل فحياتنا ومماتنا لله وحده لا شريك له لا نخاف الأمراض ولا نرهبها وإنما نأخذ بالأسباب الشرعية مع كمال التوكل وشهود المدبر ومعرفة أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا نسأل الله أن يجعلنا ممن علقت قلوبهم بالمساجد وأن يحفظنا والمسلمين من كل وباء إنه ولي ذلك والقادر عليه .