على مدار الساعة

للإصلاح كلمة تنفي تقسيم البيظان الموريتانيين إلي فئتين (3 - 3)

21 مارس, 2020 - 17:39
بقلم الأستاذ / محمد بن البار

كلمة الإصلاح وصلت في هذا العنوان إلى تفصيل أًصل ما أًصبح يطلق عليه (لحراطين) في موريتانيا.

 

فمن المعلوم - بصفة عامة - أن أي إنسان لكي يصدق في سرده للتاريخ عليه أن يعتمد على علمه هو شخصيا بالوقائع بحيث يحدد سنوات معقولة قبل ميلاده لا يمكن أن يتغير التاريخ بين تلك السنوات تغييرا جذريا يغير الواقع المعيش وعليه فإني سوف أذكر نبذة قليلة من ما ذكره المؤرخون عن أصول الساكنة هنا جميعا لأصل بسرعة إلى التاريخ المتفق عليه، والذي ما زالت آثاره مرئية للجميع، فأقول:

 

إن السكان هنا من المتفق عليه في التاريخ المكتوب وغير المندثر جدا، أنه كانت هنا قبائل من صنهاجة، وما معهم من أصول القبائل الأخرى، وأن آخر سلطة منظمة في ذلك التاريخ هي سلطة المرابطين التي جاءها الفتح الإسلامي وعملت بمقتضي ما يأمرها به الإسلام، حتي انتهت في القرن السادس الهجري إلى آخر ما جاء في ذلك التاريخ باقتضاب.

 

أما لون سكان هذه المنطقة فكانوا خليطا من الألوان منها لون قبائل صنهاجة مثل ألوان موريتانيا الآن، فيها الأبيض والأسود، مع وجود قبائل أخري مثل البافور وغيرهم، ويقول المؤرخ احماه الله ولد السالم: "إن تواجد اللون الأبيض والأسود داخل تلك القبائل هو نتيجة لتلاقح هجين بين قبائل من البربر والسود سكان المكان هنا وهو المشتق منه كلمة (حرضان) التي حرفت فيما بعد إلى كلمة حرطاني، وكان سامع تركيبتها يظن أنها مركبة من كلمتي (حر - طاري)"، فالعبيد قبل الإسلام ما كانت تطرأ عليه الحرية، فاستعبادهم قائم علي الغلبة غير الشرعية أو لأسباب أخرى لا تتغير.

 

هذه نبذة قليلة من التاريخ موثقة بالواقع لأصل كلمة (حرطاني).

 

أما تاريخنا نحن الذي عشناه وما زالت بقاياه لم تتغير ويمكن إرجاعها إلى ما قبل الاستعمار بقرنين أو ثلاثا، دون تغيير مسكن المجموعات، وحالتهم الاجتماعية، وما يقولونه عن أنفسهم، والوضع الذي يضعهم فيه المجتمع.

 

فلا شك أننا نحن الموريتانيين البيظان (بأبيضنا وأسودنا) كنا وما زلنا في الواقع باستثناء ما يحاوله أصحاب الدعاوي الطارئة بألسنتهم أقول: كنا وما زلنا نشترك في العادات والتقاليد وكيفية الأفراح في جميع المناسبات، وكنا نتفق كذلك في الأحزان (جنب الله منها بلدنا بأبيضه وأسوده ولو تكلم بأي لغة) فكنا وما زلنا حقيقة موحدين في الدين واللغة وما يترتب على ذلك كله، وكذلك كنا وما زلنا نتفق أن بعضنا كان يملك الآخر كرقيق، يزعم فيه السيد والرقيق معا أن هذا الرق امتداد للرق الذي كان الإسلام يأذن فيه، والذي يلزم فيه الإسلام كلا من السيد والرقيق معاملة متساوية في الأمر بالامتثال لها، فيثاب أو يعاقب القائم بها والرافض لها من المولى عز وجل، وهنا أعلق قليلا بأن الرق الإسلامي لم يصل إلي جنوب وغرب إفريقيا وصولا شرعيا، إلا أن هذا الرق المتفق عليه الذي لم يلتزمه السيد في معاملته ولم يطالبه الرقيق بتلك المعاملة الإسلامية، لم يكن إلا في القليل من اللون الأسود لا يمكن أن يقدر بأكثر من 5% من الفئة التي يطلق عليها البيظان بيضا وسودا، وهذه النسبة تسكن الآن تقريبا علي طول خط طريق الأمل من نواكشوط إلى فصالة، وعلى بعد ثمانين كلم تقريبا شمال النهر من الترارزة إلي جنوب كوركل، فهذه المناطق فقط هي التي كان يوجد فيها استرقاق السود البيضان من طرف البيظان البيض، أما البيظان البيض فكانت أيضا توجد بينهم اعتبارات تراتبية لا تصل إلى الرق الفردي ولكن قد تصل إلى الاسترقاق المعنوي الموجب للعطاءات الحتمية تحت طائلة الخوف أو الطمع وربما للاعتبار الديني أي الأكل بالدين، وتارة يكون معه أخوه البغيضين عند الله الأكل بالجاه والدين.

 

هذه الصورة المقربة لما كان وما زال واقعا أهلها كلهم فئة واحدة بأبيضها وأسودها وتراتيبها المعنوية، فيجمعهم كلهم الدين واللغة والعادات والتقاليد والقبلية والاقتتال العرقي فيما بينهم، وتحمل الدية وجميع اللوازم، ولا يمكن فصلهم إلا بالتمرد على ما يجمع الإنسان في هذه الحيثيثات بما فيها حيثية الدين، فكل هذه الحيثيات كان الموريتانيون البيظان بأبيضهم وأسودهم يعتبرون أنفسهم فيها بما قاله الإسلام عن منزلة المؤمن من المؤمن الآخر، بأنهما كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي، فهذا التضامن سواء كان بين القبلية نفسها بأبيضها وأسودها وتراتبيتها أو بين جميع القبائل إذا اجتمعت واختلفت مع جسم آخر لا يطلق عليه البيظان، فيكون الجميع على ذلك الجسم الغريب غير البيظاني كالجسد الواحد للاتحاد في جميع ما ذكر أعلاه، ومن هنا أعود إلى القضية الخاصة الآن بلحراطين وإلى المسمى الآخر الذي خلقه بعض المنتفعين من تفرقة البيظان إلي فئتين: ألا وهو الأرقاء والأرقاء السابقون.

 

فهذه الكلمة الأخيرة هي أبعد ما تكون عن حقيقة مسماها، لأننا إذا أعطيناها مسماها لا يشتمل إلا علي الذين حررهم مرسوم هيدالة سنة 1981 أو الذين حررهم أسيادهم لوجه الله أو بسبب الكفارات، وجميع هذين الوصفين لا يمثلون إلا 5% من سود البيظان.

 

فبالنظر إلى جغرافية موريتانيا فجميع سكان الضفة الجنوبية من سود البيظان من سيلبابي أي مركز كوري إلي مقاطعة كرمسين، لا يوجد فيهم أسود قد تقدم عليه رق إلا أرقاء قليلون جدا ويسترقهم أحرار سود مثلهم في السواد، ولا شك أنهم الآن تحرروا مثل زملائهم، ولم يبق إلا التراتبية في النسب بين الأحرار السود الأصليين وأرقائهم، فإطلاق الأرقاء السابقين على سكان هذا المنطقة كإطلاق النار على الصديق عمدا أو سهوا، أو لحاجة في نفس يعقوب، وهنا أكرر أن 95% من سود البيظان لم يسبق عليهم رق.

 

فسكان تلك المنطقة الطويلة الموريتانية لا يسمعون إلا حرطاني من الفلانيين أي من قبيلته المتضامن معها في كل شيء كما ذكرت من قبل، فسكان هذه المنطقة أغلبهم فلاحون يملكون أرضهم الفلاحية ومنهم الغني ومنهم الفقير، وتارة يسكن بينهم جماعات من البيظان بيض البشرة وهم نفس الشيء فيهم الغني والفقير وينتسبون لقبائلهم أينما كانوا، فسكان هذا الشريط الذي ذكرت مثله شريط آخر يمتد مع جنوب موريتانيا من كوركل مارا شرقا بكنكوصة والفلانية ومدبوكو إلى عدل بكرو، كما أنه يوجد في لبراكنة في مدينة ألاك مثلا وضواحيها كثير من السكان يطلق عليهم لحراطين ولم يسبق عليهم رق وبعضهم أغنياء ذوو ثروة طائلة من الحيوان والأرض الزراعية ونفس الشيء في اترارزة، وقراهم لا يطلق عليها آدوابه، بل يقال لها "افريك لحراطين" ونساؤهم يطلق عليهن "لعليات"، والشريط الجنوبي المذكور آنفا لا يطلقون علي أنفسهم لحراطين، بل يطلقون علي أنفسهم "الخذريين" تفرقة بين الأحرار البيض والأحرار السود الذين لم يسبق عليهم رق ويفترقون في اللون فقط، فالجميع خلق أحرار.

 

ومن المؤسف أن كلمة حرطاني كان كثير من زعماء البيظان السمر لا يمكن أن تطلق عليه بحضرته، لأن ذلك يجعله في منزلة تراتبية ومكانته في قبيلته لا تسمح أن يطلق عليه حرطاني في حضرته، حتى أًصبح اليوم كل زعيم أو ابن زعيم يسمح بإطلاقها على نفسه، فهي قد أصبحت ترجى منها منفعة تعيين أو محاصصة إلى غير ذلك.

 

فمثلا بيجل بن هميد في كرمسين ليس مجرد حرطاني وإنما هو زعيم وابن اسرة زعماء من قبيلة يحسب لها حسابها بين قبيلته، وكذلك ألمين ولد مرزوق في كيفة ما كان يقال له حرطاني وانما هو رجل من من رجال قبيلة معروفة، لا يغيب اذا اجتمعوا وبناته لا يقال لهن حرطانيات وكذلك كان في لبراكنة عائلات من لحراطين تتجه الأنظار إليها كما تتجه إلى أبناء "الخيام لكبار" وقراهم تسمى باسم زعيم القرية، وليس بأدباي إلي آخره.

 

أما ما أًصبح يعرفه الجميع من زعماء لحراطين نتيجة للاختلاط والنشاط في بناء الدولة، مثل مسعود ولد بلخير واسغير ولد امبارك وعاشور ولد صمب وغيرهم كثير، وكثير من هؤلاء الزعماء لا فرق بين حياتهم الطبيعية وعلاقاتهم مع الغير مع زملائهم من البيظان البيض، فأين الميزة التي يمكن أن تفرقهم هم وزعماء البيظان الآخرين.

 

فالموجود الآن من هؤلاء الزعماء لحراطين من رأى ترابطهم مع ذويهم من قبائلهم يدرك أن ليس هناك نظرة دونية ولا اعتبار خاص بالبعض دون البعض.

 

فكان على الزعماء الطارئين على المسرح الذين يحاولون بطروهم البحث عن تقسيم ما لا يقبل القسمة أبدا ما دام جميع زعماء البيظان السود منهم والبيض أحياء، فمن يحاول ذلك كمن يحاول إرجاع اللبن في الضرع أو حياة أنواع السمك فوق المجابي.

 

فمن يريد أن يستمع إلى الحكايات المنفصلة عن التركيب العقلي بله الفهم العقلي، فليستمع إلى من يريد أن يعد كم من ضابط في البيظان البيض وكم من ضابط في البيظان السود من جميع ضباط الدولة وكذلك من السلطات والأساتذة والمعلمين إلى غير ذلك، فمن أين بدأ أًصل هذا التفكير؟ لأن الوحدات التي كانت تقدر بها التركيبات الموريتانية هي القبائل والجهات وليست الألوان، فأي لون يرجع انتفاع تعيينه إلى اللون الآخر؟ وكم من قبيلة الآن لا يوجد فيها عسكري واحد، وقبيلة أخري ملأى من العسكريين، وكم من قبيلة الآن أكثر أشخاصها العسكريين هم من السود منها؟ فهل يمكن للقبيلة أو الجهة أن تقول اعطونا نصيبنا من التعيين؟ لأن التعيين مرتبط في العقل بالكفاءة والأمانة والمعرفة إلى آخره من حسن السيرة الذاتية للمعين.

 

ومن فضل الله علي هذا الوطن أن تلك الفئة التي تحاول السير به عكس تيار أوامر الإسلام، بالسير بالإثم والعدوان، قد قيض الله له في نفس الوقت فئة أخرى تسير به مع تيار التوجيه الإسلامي وهو التعاون على البر والتقوى وهذه الفئة الأخيرة يمثلها المشتركون في جماعة "الدعوة والتبليغ"، وتلاميذ الشيخ محمد سيدي يحي، فمن نظر إلى نتيجة عمل هؤلاء الآخرين فسيجد كثيرا من نسائهم متحجبات وعفيفات وراغبات في ما عند الله، فمن أراد أن يعرف حقيقة ذلك فليذهب إلى مسجد التوبة ليلة الجمعة، وليسجل للمسلمين الموريتانيين المنظر الذي يراه في تلك الليلة، فالسرعة ولله الحمد في التيارين ليست واحدة.

 

وفي الأخير، وعلي كل حال فعلى الجميع أن يعلم أنه إنسان محدود الزمن علي هذه الأرض محدود القوة، فكما لا يستطيع أن يفعل قبل ميلاده شيئا فكذلك لا يستطيع أن يفعل بعد موته شيئا، إذاً فما دام الله تفضل عليه بأن خلقه في بلد مسلم يمسك عليه فطرته الإسلامية فليحافظ علي أن يصل من هذه البيئة إلى التعيين الفخري الأبدي بعد التحصين من صحبة أهل السوء في قوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}، ليصل من هناك إلى ما يريده أهل جماعة "الدعوة والتبليغ" أن يقال لهم يوم القيامة بأبيضهم وأسودهم: {يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا انتم تحزنون الذين ءامنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}.