على مدار الساعة

واقع البحث العلمي في السياق العربي "حالة كورونا أنموذجا"

22 مارس, 2020 - 03:33
الشيخ الحسن البمباري - المركز الوريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية - مبدأ

ورقة تقدير موقف

مقدمة

تمثل حالة جائحة كورونا إنذارا عالميا ووقتا عصيبا تمر به البشرة جمعاء، وهو ما دعى للتعبئة العامة على مختلف المستويات وكل المجالات الحوية في العالم، وقد وجهت أنظار العالم منذ ظهور الفيروس في الصين 2019 إلى المراكز البحثية العلمية سواء المستقلة منها أو تلك المترتبطة بجامعات ومؤسسات بحثية عمومية، ولم تكن الانتظارات معلقة فقط على مخابر العلوم الطبية البحتة بل كل مراكز البحوث كجزء من حالة الترقب لإنتاج خطاب مواز للبحث عن لقاح للفيروس الذي هدد الآلاف في أول أيام انتشاره، خطاب يقدم للساسة وقادة الرأي العالميين الخبرة اللازمة في توجيه الشعوب نحو التعامل مع هذه الجائحة والمساهمة في الحد من انتشارها.

 

ومع أن مراكز البحث والدراسات في الغرب واكبت بشكل شبه لحظي الحالة وسعت إلى ممارسة دورها الطبيعي في الجوانب المختلفة، فإن نظيرتها في السياق العربي ظلت دائما على وضع الصامت، وانضمت لصفوف الملايين من المواطنين في الدول العربية، الذين ينتظرون فقط ما ستخرج به المؤسسات البحثية الغربية، في حالة تعكس خطورة تغييب الدور الاستراتيجي للبحث العلمي كقوة لازمة لجتمعاتنا اليوم، وتظهر هشاشة واقع الدولة العربية في آكد أساسياتها، فعدى عن بعض الإعلانات الهزلية لأطباء الأعشاب والرقية الشرعية، لم يسمع أي صوت من الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية العربية سواء في المستوى الطبي البحت، أو على المستوى الدراسي الذي يقتصر دوره على الاستشراف والتوجيه والمشاركة في التوعية العامة من مخاطر الجائحة.

 

فالمراكز البحثية والعلمية لم تتمظهر على الإطلاق بصفتها جزء من بنية السلطة العامة بوصفها (وضع إستراتيجي من العلاقات ينشأ في مجتمع ما) حسب مشيل فوكو، عاكسة بذلك صورة أنها حبر على ورق، وجزء من تبعية عامة لوضع المسيطر، بل لا يستبعد أن تكون أول من قرر الالتزام بقانون الجلوس في المنازل بوصفها غير معنية باكشاف علاج أو إنتاج خطاب يساهم في تكريس سلطة الدولة لفرض النظام في هذا الوقت العصيب، مع فيروس ينتقل بكل سلاسة من خلال حركة الأفراد إذ إلى الآن تجاوز الـ120 دولة حول العالم بل إن الدول التي لم تعلن إصابات يرجح أنها فقط نظرا لضعف ولوج المواطنين فيها للخدمات الصحية لا غير.

 

واقع المراكز البحثية العربية

في أوقات الرخاء كانت الحالة تقول إن المراكز البحثية العربية تعيش ثورة خاصة في ما بعد الربيع العربي، إذ كانت شخصياتها من الوجوه الإعلامية الثابتة، كما تم الحديث عن تأسيس العديد من المؤسسات البحثية في مختلف المجالات من خلال مسعى الحد من مدى الدولة[1] في الاستحكام بالفضاء العام.

 

ومع أن الصين تمثل المورد الأول لمختلف الاحتياجات للشرق الأوسط وإفريقيا حيث تتمركز الدول العربية، فان المجتمعات حين أصيبت الصين بجائحة كورونا، بدأت فقط في الالتفات صوب الغرب للبحث عن مصدر جديد لتوريد المعدات الطبية والأفكار وكذلك المساندة للوجستية على كل المستويات لمواجهة الفيروس المستجد.

 

المراكز المسؤولة عن إنتاج خطاب يكون سلطة في حد ذاته، وكذلك تستفيد منه السلطات بوصفها شريكا في الوضع السلطوي القائم، لم يتم التعويل عليها بالأساس في حالة تؤكد أن واقعها لا يسمح لها بأن تشكل أي شراكة فعلية ولا قوة اقتراح للمساعدة في المواجهة، وحتى المجالات التي تنشط فيها المراكز البحثية العربية غالبا "مجال إنتاج الخطاب" لم تستطع فيه تحقيق الآمال المعقودة عليها.

 

إلا أنها وبوصفها جزءا من فضاء عام لا يولى أهمية كبيرة للبحث العملي فإن واقع المراكز البحثية كان تجسيدا لمشاكلها التي تعاني بشكل عام، ففي قائمة الدول الأكثر انفاقا على البحث والتطوير تظهر السعودية في المركز 41 عالميا وهي الأولى عربيا بعد دول كباكستان والبرتغال والبرازيل وتايوان وغيرها كثير من الدول التي تتفوق عليها الدول العربية في الموارد، فيما توجد قطر ومصر والبحرين والجزائر وعمان والسودان فقط في المئة الاولى من الترتيب[2]، بينما تتصدر أمريكا والصين الترتيب بقيمة 500 مليار دولارتقريبا لكل بلد[3]، والسعودية المتصدرة للترتيب العربي لا تتخطى قرابة 12 مليار دولار كإنفاق على البحث العملي والتطوير معا، بينما أنفقت على السلاح نحو 26% من الإنفاق الحكومي أي 70 مليار دولار في العام 2017 والثالث عالميا[4] بعد أمريكا والصين[5].

 

المراكز البحثية العربية فشلت وتفشل كل مرة بإقناع مستثمرين خصوصيين آو عموميين في الاستثمار في المجال البحثي، وهو ما يجعلها تعيش على منح غير كافية حتى لسد ضرورات البقاء، (الإيجار والكهرباء والماء)، هذا الوضع يجعل المراكز البحثية بيئات طاردة للباحثين المبتدئين، في حين أن الباحثين الذين يملكونة خبرة أكثر يسعون وراء مؤسسات ذات عائد مادي.

 

فحسب الباحث في كلية التجارة في جامعة السليمانية خوشي محمد عبد اللطيف فان الاتحاد الأوروبي وجه أزيد من 3,9 من ميزانيته، الإجمالية للبحث العلمي، أي قرابة 30 بليون يور كما توجه كوريا الجنوبية حوالي 5% من الناتج القومي للبحث العلمي منذ العام 2012[6].

 

أما مؤشر اليونيسكو فيرصد خلال 20 سنة (1970-1990) ازدياد عدد المهندسين والعلماء من 124 عالما ومهندسا إلى 363 ممارس للبحث العلمي في الدول العربية، ويبدو هذا الرقم ضعيفا إذا ما قورن بمناطق أخرى في ذات الفترة، حيث كان في أمريكا 3359 بينما كان في أوروبا 2206.

 

فحسب بحث صادر عن جامعة الدول العربية 2006 فإن كل مليون مواطن عربي يقابلهم 318 باحث في حين نجد أن الرقم في أوروبا 4500 باحث لكل مليون شخص.

 

بعض العوائق أمام المراكز البحثية العربية

العوائق المالية: وإن كان الواقع المالي لهذه المراكز قد يكون أحد العوائق الكبيرة أمام مهتمها، فإن هذه المشكلة ليست مطروحة للمراكز البحثية في دول الخليج أو في بعض الدول التي تولي اهتماما كبيرا للبحث العلمي.

 

فمن الواضح للعيان الصرف الكبير الذي تقوم به الدول الخليجية على البحث العلمي بمختلف مجالاته، ومع ذلك فان المجال العلمي الدقيق يغيب بشكل كبير، وكما أسلفنا فالمراكز المهتمة بالبحوث الإنسانية والاجتماعية... لم تنتج هي الأخرى خطابا يذكر في ظل الأزمة، وهو ما يؤكد أن الوضع لا علاقة له بالمؤشر المالي على الإطلاق، وإن كانت مقارنة ميزانية إدارات الأمن ومصاريف السلاح[7] مقارنة بالثقافة تكفي لمعرفة الهوة التي تعيش المراكز البحثية في المنطقة العربية.

 

سيطرة الدولة: و في سياق مقاربة وضع السيطرة الذي تخضع له المراكز البحثية من الدول نفسها، نجد أنه كان المشكل الاكبر، حيث لم تولي هذه المراكز البحثية والمختبرات أي اهتمام بالمجالات الحيوية وحالات الطوارئ الوبائية أو غيرها التي يمكن أن تشهد هذه الدول، فكانت الأولويات متركزة على الحروب والصراعات الداخلية التي تعيشها الدول العربية فقط، لذلك كانت طبيعة هذه المراكز أنها مراكز فقط تنتج حسب أولويات الحكومات، والتي تعيش صراعات "وهمية، واقعية، مفتعلة" في أحيان أخرى من أجل بقاء الحاكم، فعشرات عناوين البحوث الصادرة عن المراكز العربية، كانت في مجملها تدور حول تسخير الخطاب الديني لتكريس السلطة أو لمواجهة الربيع العربي وضرورة التسليح للدولة العربية... الخ، لذلك نجد أن هذه الدول تتنافس على شراء الأسلحة الأجنبية وليس الصرف على الإنتاج الداخلي للصحة والثقافة والجامعات، فحسب تقرير اليونيسكو الإحصائي[8] أنفقت الإمارات العربية المتحدة 2016، 0,96 من الناتج المحلي على البحث العلمي والتطوير، في حين أنفقت البحرين 2014، 0,10 فقط بينما الجزائر 0,53 في 2017 وسوريا 2015 أنفقت 0,01، الرأس الأخضر 2011، 0,07 السودان 0,30، فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) 2013، 0,49 العراق 2017، 0,04 الكويت في 2017، 0,08 في ما صرف المغرب 2010، 0,71 السعودية 2013، 0,82، تونس 2016، 0,60 مصر 2017، 0,61 عمان 2017، 0,22 قطر 2015، 0,51، ولم تتوفر معلومات عن لبنان وموريتانيا الصومال واليمن. ويكفي القول إن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صرف مجتمعين في 2012، حوالي 0,93 من الناتج المحلي على البحث العلمي والتطوير.

 

غياب سياسات ثقافية واستراتيجية ثقافية للدول: فعربيا ليس هناك أي بلد سعى إلى وضع سياسات ثقافية بشكل يذكر، إلا إذا استثنينا بعض الدول كتونس وإن كانت تجربتها تعاني من مشاكل جوهرية[9]، بالرغم من بعض المحاولات التي تقوم بها مؤسسات مستقلة مجموعات للسياسات الثقافية في بعض الدول، في إطار مشروع للمؤسسة المورد الثقافي، فقد وجدت مثلا مجموعة السياسات الثقافية الجزائرية والمغربية... الخ.

 

ففي بلد كموريتانيا التي تعاني ضعفا حادا في الميزانية العامة للدولة، يلاحظ بشكل خاص أن مشتريات الدولة من السلاح تفوق بدرجات مصاريفها على الصحة العمومية، بالرغم من عدم مواجهة البلاد لحرب بشكل مباشر، ونفس الشيء بالنسبة للسعودية التي وجدت نفسها منذ ست سنوات في المعترك اليمني والتي تشتري السلاح أكثر حتى من مما تشتري الكتب المدرسية، والوضع نفسه في الإمارات وليبيا ومصر وقطر...الخ، كلها في فكرة تكريس سيطرة الدولة وستمرار الحاكم أطول وقت ممكن في مقابل تجاهل شبه كلي للبحث العلمي.

 

خاتمة

العالم الآن يترقب أن يحصل على علاج لفيروس كورونا، ولكن الأنظار موجهة إلى الصين وألمانيا وأمريكا وفرنسا... الخ، ولا أحد يتوقع من العالم العربي أي شيء في هذا المجال، حتى الدول ذاتها التي تعد الشريك الأول في مجال التوريد وتجارة السلاح[10]، إلا أن مجالات البحث العلمي في أبسط إنتاجاتها تنتظر من المركزية الغربية، وليس لدينا أي مساعي لإعادة ترميج الواقع وبناء مراكز موازية، فللصدفة أن السياق العربي منذ 17 من مارس 2020 يتداول بهلع دراسة تناقش تأثير كوفيد 19 على خصوبة الرجال المصابين به، إلا أن مصدر هذه الدراسة هو المراكز البحثية الصينية وليس السياق العربية، وهي الآن مسألة علمية معممة على المنطقة، مع أن أبسط ناظر يدرك أن نمط المعيشة والغذاء يستدعي فعلا دراسة عربية خاصة لإظهار مدى الأضرار الناجمة في السياق العربي، التي قد تكون أكبر بكثير مما يواجه الرجال في مناطق أخرى من العالم مقارنة بمستوى المعيشة والرعاية الصحية وغيرها من العوامل.

 

ما يؤكده واقع المراكز الحثية والجامعات في المجال العربي أننا أمة تتبع في كل شيء حتى في أخص خصوصياتها، وأننا قررنا أن لا نشارك في شيء للإنسانية على الإطلاق، سيقول قائل حتما عن أن معظم المخابر الغربية مليئة بالعرب علماء ومفكرين وباحثين وأطباء، أقول نعم هو كذلك ولكن السؤال الأهم لماذا لا يوجد هؤلاء في جامعات ومخابر ومراكز بحثية عربية؟، وفي هذه النقطة بالذات أختم بهذه القصة "حين شاهد الموريتانيون اسم مسؤولة الصحة العالمية في لبنان السيدة إيمان الشنقيطي، بدء البحث عنها وهل هي موريتانية أم لا؟ الفكرة لم يكن هناك موريتاني لديه أي علم بوجود شخص إسمه إيمان الشنقيطي" وهذا بالضبط هو واقع العرب في المخابر والجامعات الغربية[11].

حلول عاجلة

- وضع سياسات ثقافية عمومية في الدول العربية سواء بشكل مستقل أو جماعي.

- توسيع ميزانبة البحث العلمي في الجامعات والمخابر والمراكز البحثية.

- التوجه نحو القطاع البيلوجي بوصه هو الوقائة الأهم في المستقل.

- زيادة التمكين للبحث العلمي في السياسات العامة، والتبويب له في الميزانيات العمومية.

- مراجعة القوانين المسيرة للمراكز البحثية مما يضمن أداءها وجودتها.

- التحديد الدقيق لخريطة البحث العلمي في الدول والتوزيع على المجالات البحثية.

- توجيه أولويات البحث العلمي مقارنة مع الظروف المحلية والاحتياجات الوطنية للدول.

- خطط خمسية للقضاء على بعض المصاعب المرضية كالكبد الفيروسي وغيره.

- تعزيز الشراكة بين هيئات المجتمع المدني المختلفة والحكومات بوصفها شراكة متوازنة.

- جعل المؤسسات التعليمية العمومية جزء من المجتمع العلمي في البلاد مما يساهم في تعزيز وتيرة البحث العلمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مدى الدولة مصطلح يستخدمه فرانسيس فوكوياما يقصد به سيطرة الدولة وتخلها في مختلف المجالات، مع الاشارة انه يرى ان مدى الدولة يجب ان يكون ضعيفا وترك المهمة للمؤسسات الخاصة والمجتمع المدني، في حسن تمارس هي درو الرقابة، للتوسع في الموضوع يمكن الرجوع لكتاب بناء الدولة لفرانسيس فوكوياما.

[3] قائمة صادرة عن موقع أرقام المهتم بالاحصاءات، https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/560700

[4] يمكن هنا ملاحظة الانتقال من المركز 47 في مجال الانفاق على البحث الى المركز 3 عالميا حين تعلق الامر بالسلاح، وامام دول كبرى حتى في انتاح السلام وتخوض حروب في ذات الفترة من قبيل روسيا واسرائيل.

[6] خوشي محمد عبد اللطيف ، واقع البحث العلمي في الدول النامية مقارنة بالدول المتقدمة في توطين التوكنولوجيا (الصين وماليزيا واليابان) أنموذجا، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية، جامعة بابل، 2026 ص 202

[7] تقرير لدوتشفله الالمانية يؤكد أن - إجمالي الإنفاق العسكري للمنطقة للعربية يقدر بنحو ترليون دولار في السنوات الـ10-15 الأخيرة،

[8] رابط تقرير اليونيسكو ويمكن خلاله مقارنة الدول العربية بالعالم الاخر وخصوصا الصين و الولايات المتحدة الامريكية، https://data.albankaldawli.org/indicator/GB.XPD.RSDV.GD.ZS

[9] حيث تعد القوانين التشريعية الخاصة بتونس قديمة، وفيها الكثير من المشاكل التي سعت العديد من اللجان الثقافية التحسين منها ومازال النقاش جاريا حول تحديثها بشكل شبه تام، حسب وزير الثقافة التونسي السابق مراد اصقلي.