على مدار الساعة

التوكل على اللـه والأخذ بالأسباب سبيل نجاتنا

25 مارس, 2020 - 10:08
الهادي بن محمد المختار النحوي

ليس كرونا أولَ وباء تعيشه البشرية، فقد عانى سكان الكرة الرضية من أوبئة فتاكة على مدى القرون، خلفت مئات الملايين من الضحايا ومن أبرز هذه الأوبئة:

 

طاعون جستنيان، الذي حصد حياة زهاء 100 مليون إنسان في القرنين الحادي عشر والثاني عشر.

 

 وباء "الموت الأسود"، الذي بدأ في الصين في القرن الرابع عشر وانتقل إلى أوروبا وأودى بحياة ما يقارب من 34 مليون إنسان.

 

 ومنذ بداية القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا سجلت سبعة أوبئة كوليرا.

 

 وشهد العالم في عامي 1918-1919 انتشار الإنفلونزا الإسبانية التي أصابت 550 مليون إنسان (20% من سكان العالم حينها) وأودت بحياة 50-100 مليون إنسانوفق مختلف الاحصائيات.

 

وباء فيروس إنفلونزا الخنازير، الذي بدأ في المكسيك وانتشر في جميع أنحاء العالم عامي 2009-2010، وأصاب أكثر من 220 ألف شخصإلى غير ذلك من الأوبئة والأمراض الكثيرة.

لكن هذا الوباءالجديد تميز عن غيره من الأوبئة بعدة أمور منها:

 

 أنه جاء في عصر ثورة المعلومات التي جعلت العالم قرية واحدة؛ما مكن سكان الكرة الأرضية من متابعة تطور المرضبشكل مباشر؛ ولهذا فوائده، فانتشار الأخبار يمكن الناس من أخذ الحيطة والحذر، وقد تستفيد الدول من تجارب بعضها في مواجهة الوباء، غير أنه في مقابل ذلك قد تتسبب تلك الأخبار، مع ووسائل التواصل الاجتماعي، من خلال نشر أرقام  الوفياتوالإصابات الهائلة إلى بث الهلع والذعر والخوف في نفوس الناس.

 

 إن وباء كرونا هزم البشرية، أو كاد، بعد أن ظنت أنها بلغت أوج التقدم العلمي والسيطرة على أزمة العلوم والتقانة، فإذا بالدول العظمى، قبل الضعيفة، تقف عاجزة ومشلولة الحركة أمام هذا الوباء الذي ينتشر كانتشار النار في الهشيم.

 

إن الوباء جاء في عصر بلغ فيه الإنسان درجة غير مسبوقة من الطغيان والظلم والتجبر، بعد أن زعم أنه ترقى سلوكا وخلقا، ونسي أو تناسى ما يسيطر عليه من نفاق وعدم اكتراث بالقوانين التي سنها لتحقيق بعض العدالة بين بني البشر، فهل ينتبه الإنسان ويخفف من ظلمه وتجبره؟

 

هذا الوباء خطير وينتشر بسرعة؛لذلك فإننا نحتاج إلى مواجهته بالوسائل المناسبة،وأول تلك الوسائل هو التركيز على التوعية والتثقيف خاصة فيما يتعلق بالموقف الشرعي والإرشادات الطبية.

 

الموقف الشرعي في التعامل مع الأوبئة:

 

أولت الشريعة عناية خاصة لحفظ الإنسان من المخاطر، واستنبط الفقهاء من عمومات الشريعة الإسلامية وأدلتها ما عرف بالضروريات الخمس الواجب حفظها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض.

 

وتحدث العلماء وفق تفاصيل معينة عن ترتيب هذه الضروريات، ووضع بعضهم الدين في أعلى درجات الترتيب، وإن كان الأمر في ذلك يخضع لاختلاف الظروف،إلا أن حفظ النفس قد يكون الآن أولى كما في هذه الجائحة التي تعاني منها الكرة الأرضية حاليا، وإن كان حفظ هذه الضروريات متكاملا في الطلب.

 

ثم إنه علينا أن نستحضر أن الكون كله في قبضة اللـه تعالى، والعباد عباده، ولئن كان الشارع قد أمر بأوامر إلا أنه أيضا عفا عنهافي حال المشقة، بل ربما أسقط بعض الواجبات لأعذار محددة لطفا من ربنا بعباده.

 

وقد شدد الشارع في أخذ الحيطة من المخاطر وعدم التعرض للتهلكة، وحرم قتل النفس

((َولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)) وقال تعالى: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)).

لذلك يخشى أن يكون عدم الالتزام بالتعليمات التي تدعو لعدم التجمع في الأماكن العامة، بما في ذلك المساجد، ضرب من الانتحار أو قتل للنفس التي حرم اللـه قتلها بدون حق، وليست هناك حجة لمن يتذرع بالحرص على صلاة الجماعة؛ لأن الجماعة تسقط في أحوال معينة حددها الفقهاء.

رام نفعا فضر من غير قصد         ومن البر ما يكون عقوقا

 

وإذا كانت صلاةالجماعة مرغبا فيها؛ لأنهاتخرج صاحبها من علامات النفاق ــ بغض النظر عن اختلاف الفقهاء في حكمها بين الوجوب والسنة المؤكدة ــ إلا أن الامتناع عن حضورها لدفع الضرر قد يكون أوجب من صلاة الجماعة نفسها.

 

وقد نص الفقهاء على منع حضور المجذوم والأبرص ومن به رائحة كريهة إلى المساجد، واستندوا في ذلك إلى عدة آثار منها:

قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره: ((من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا)). فمنع آكل الثوم عن الحضور؛ لأنه يؤذي غيره، فكيف بالأمراض الخطيرة المعدية.

قال الحطاب في التاج والإكليل: (وعذر تركها -الجمعة- والجماعة شدة وحل فمطر... أو جذام)، وقال سحنون: لا جمعة على الجذماء، وإن كثروا، ولهم أن يجمعوا ظهراً بغير أذان في موضعهم، ولا يصلون الجمعة مع الناس.

 

ومن أكثر الأدلة وضوحا في ذلك ما قاله الفقهاء من التفريق بين المجذوم وزوجته مخافة الإضرار، فمن باب أولى منع صاحب المرض من حضور الصلاة؛ لإبعاد ضرره عن الناس، وما دام هذا الفيروس مجهول الحال فكل أحد معرض له.

 

لذلك ينبغي للمسلم إذا صدرت التعليمات من الأطباء ومن الجهات الرسمية البعد عن التجمعات بما في ذلك المساجد وأن يمتثل ويتعبد اللـه بذلك، وإذا خالف فهو آثم. ومن فضل اللـه أن أجره يكتب له مع وجود النية إذا منعه مانع من الحضور، فقد روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتكى العبد المسلم قال الله تعالى للذين يكتبون: اكتبوا له أفضل ما كان يعمل"، وفي رواية أخرى عند أحمد: "إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً"، وفي رواية أخرى صحيحة على شرط الشيخين عند أحمد: "ما من مسلم يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه أن اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل".

وقد وردت الأحاديث الصريحة في البعد، بل الفرار من المصابين بالأمراض الخطيرة.

فهذا سيدنا رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم يرشدنا إلى الابتعاد عن المصاب بالأمراض الخطيرة: فقد ورد في الحديث: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا قد بايعناك فارجع".

وعن أبي هريرة رضي اللـه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد".

 

فالشريعة تشرع الفصل والعزل بين الأصحاء والمرضى مخافة نقل العدوى؛ فقد قال صلى اللـه عليه وسلم:"لا يورد ممرض على مصح"، وقال في الطاعون: "من سمع به في أرض فلا يقدم عليه".

 

ويتضح ذلك أيضا من قصة سيدنا عمر رضي اللـه عنه ورحلته إلى الشام، حيث إنه لما سمع بوقع الوباء، فشاور الصحابة، وقرر العودة،فقال له أبو عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أفراراً من قدر اللَّه! فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! وكان عمر يكره خلافه؛ نعم نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه؛ أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر اللَّه، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر اللَّه قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علماً: سمعت رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)، فحمد اللَّه تعالى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وانصرف. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 

الأخذ بالأسباب لمكافحة الوباء:

 

هذا الوباء خطير وينتشر بسرعة؛ لذلك فإننا نحتاج إلى مواجهته بالأخذ بالأسباب مع التركيز على التوعية والتثقيف خاصة فيما يتعلق بالإرشادات الطبية.

والتفاؤل هو أحد أهم الأسباب في الجانب المعنوي، فقد كان صلى اللـه عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن. والتفاؤل يدخل فيه ما نستخدم من عبارات حسنة وإيجابية، يقول ابن الأثير: "التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام، فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طلب ضالة، فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته".

وقد أثبتت الدراسات الحديثة أهمية التفاؤل، فحسب موقع مايو كلينك فإن منافع التفكير الإيجابي (التفاؤل) متعددة منها:

  • إطالة أمد التمتع بالحياة الصحية
  • خفض معدلات الاكتئاب
  • تقليل مستويات الشعور بالتوتر
  • زيادة مقاومة الإصابة بنزلات البرد الشائعة
  • التمتع بصحة نفسية وبدنية أفضل
  • تحسين صحة القلب والأوعية الدموية وتقليل مخاطر الوفاة الناجمة عن أمراض القلب والأوعية الدموية
  • تحسن مهارات التكيف خلال الأوقات الصعبة وأوقات الضغط النفسي
  •  

ومن أبرز منافع التفاؤل والتفكير الإيجابي البعد عن الخوف الذي يهدد صحة الإنسان النفسية والبدنية.

 

فالقلق والتوتر لا يؤثران  فقط على الصحة النفسية للإنسان ولكنهما يؤثران أيضاً على صحة الجسم، وقد أثبتت الدراسات الحديثة العلاقة الوثيقة بين النواحي النفسية والنواحي الجسدية، فالأفكار والمشاعر السلبية تضعف جهاز المناعة ومقاومة الجسم، كما أن الأفكار والمشاعر الإيجابية تقوي من هذا الجهاز.

 

أما الأسباب المادية التي يجب علينا جميعا الالتزام بها كما ذكر الأطباء والمنظمات المتخصصة فيمكن أن نذكر منها على سبيل المثال:

غسل اليدين بالماء والصابون أو التعقيم

 عدم المصافحة والابتعاد عن العناق

 تجنب التجمعات وفي حال الاضطرار لذلك تترك مسافة تزيد على متر بين كل شخصين.

 عدم لمس الفم والأنف والعينين بالأيدي

 استخدام المناديل أو المرفق في حال العطاس

 تقوية مناعة الجسم وذلك عن طريق الغذاء المتوازن مع التركيز على الفيتامين سي

 البعد عن التوتر والقلق.

 الصدقة والسعي قدر الإمكان لمساعدة المحتاجين

 

الدروس الغائبة:

 

جاء الفيروس برسائل عديدة للبشرية، لعل من أبرزها أن الظلم عواقبه وخيمة، فكم من مظلوم سجن ظلما وعدوانا إما بسبب رأيه أو بسبب جبروت أو استبداد،أو بسبب محتلٍّ استباح الأرض والإنسان، فهل يستوعب المحتل الإسرائيلي الدرس ويفرج عن الأسرى الفلسطينيين الذين يقارب عددهم 10 آلاف من بينهم الأطفال والنساء والمرضى، وفيهم من قضى أكثر من ثلاثين سنة، ومنهم من تجاوز عمره 80 سنة، ولا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا على أرضهم.

 

والمصيبة العظمى هي أن الأسرى الفلسطينيين الذين يتعرضون للعذاب الممنهجداخل زنزانات إسرائيلمنذ سنوات طويلةويهددهم اليوم هذا الفيروس القاتل لن يجدوا من يعتني بهم؛ لأن الاحتلال لن يعالجهم والعرب يتفرجون عليهم في الوقت الذي تهدي فيه دولة خليجية 100ألفجهاز متخصص لإسرائيل لمواجهة الفيروس!

 

اليوم يستوي السجان والمسجون، فالكل مقيد الحرية أو تحت الحجر بدأ بالرؤساء وكبار المسؤولين.

 

وهل يستوعب العالم الدرس ويواجه الكوارث الأخرى بالمستوى نفسه من الاستعداد والتعبئة، فضحايا الكوارث الأخرى لا تقارن بضحايا هذا الفيروس، فمثلا خلال الشهرين الأولين من 2020م قتلت الملاريا 140 ألف شخص، وقتلت حوادث السير 193 ألف شخص، والسيدا قتل 240 ألف شخص، والكحول تسببت في موت 358 ألف شخص، والتدخين قتل 1.7مليون شخص، أما السرطان فقد قتل أكثر من مليون شخص، بينما ضحايا هذا الفيروس لم يبلغ عددهم سوى بضعة آلاف بعد أكثر من 3 شهور على ظهوره.

 

وهل يستوعب العالم الدرس ويدرك حجم التفاوت في توزيع الثروة - (حوالي 20% من سكان العالم يسيطرون على 80% من ثروة العالم)-، فالكونجرس الأمريكي يناقش حاليا تخصيص حوالي 2 ترليون دولار لمواجهة كورونا وفرنسا خصصت 300 مليار يورو لضمان قروض المؤسسات المتوسطة مخافة إفلاسها في الوقت الذي لا يجد فيه ثلث سكان الكرة الأرضية الماء والصابون لغسل الأيدي وفي الوقت الذي يعيش فيه ما يقارب ربع سكان الكرة الرضية على أقل من دولار ونصف في اليوم.

 

شكر مع مقترحات

 

ولا يفوتني في نهاية هذه الفقرات أن أشيد بجهود الجهات الرسمية في التعامل مع هذه الجائحة، خاصة وزارة الصحة وطواقمها الطبية والأجهزة العسكرية والأمنية ووسائل الإعلام وفرق التوعية في سهرهم على الوقاية من هذا الوباء.

 

وأهمية الوقاية هنا لا تخفى، فنحن بلد موارده محدودة، ونشاهد الدول المتقدمة تنهار، مظهرة عجزها عن مواجهة المرض، فإيطاليا تحشر الموتى في الشاحنات وإسبانيا ترمي المرضى في الممرات لعدم وجود الأسرة أما فرنسا فإنها لجأت إلى تصنيف وفرز المرضى نتيجة لضغط الأعداد المتزايدة من المصابين.

 

ونستحضر هنا تحذير منظمة الصحة العالمية من انتشار الوباء في القارة الإفريقية؛ لأن الموضوع سيكون أكثر صعوبة نظرا لضعف البنية التحتية الصحية في إفريقيا، ومنها بلدنا نسأل اللـه السلامة والعافية.

 

ويكفي أن نعرف قبل النظر إلى الخدمات الصحية أن 63% من سكان دول جنوب الصحراء في القارة الإفريقية لا يجدون الماء والصابون لغسل الأيدي، والأمر كذلك بالنسبة ل40% من سكان العالم (حوالي 3 مليار نسمة).

 

مقترحات:

ألتمس هنا من الحكومة النظر في الاقتراحات التالية:

 التركيز على التوعية والتثقيف

 اعتماد آلية تمكن من تأمين الماء والصابون لكل السكان في البلاد خاصة في المناطق الهشة والنائية

 توقيف الدوام في الدوائر الرسمية والمؤسسات الخاصة كما فعلت عدة دول؛ فذلك أولى من الاضطرار إلى هذه السياسة بعد استفحال الأمر، لا قدر اللـه، فسلاحنا الأساسي ينبغي أن يكون التركيز على الوقاية.

 تأسيس صندوق لدعم الطبقات المحتاجة، أصحاب الدخل المحدود وأصحاب الحرف والأنشطة البسيطة في ظل الانكماش الاقتصادي وكساد السوق، ويدعى رجال الأعمال وأهل الخير للمشاركة في هذا الصندوق.

فلنتوكل على اللـه ونأخذ بالأسباب ونتعاون مع الجهات الرسمية ونلتزم بتعليماتها مع العناية بالضعفاء، ونحن بإذن اللـه من الناجين، فلطف اللـه قريب، ولندعه ونحسن الظن به فهو رب كريم.

اللهم ارفع البلاء عن العباد والبلاد.

والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع