على مدار الساعة

"بؤرة" في أساليب الخطاب

1 أبريل, 2020 - 00:22
محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم ـ محام

ورد في البيان ذي الترتيب رقم M.I.DEC. M /9 الصادر عن وزير الداخلية واللامركزية بتاريخ: 29 مارس 2020، ما نصه: "يعلن وزير الداخلية واللامركزية لجميع المواطنين أنه تم تصنيف مدينتي انواكشوط وكيهيدي بؤرتين للفيروس المستجد.." فاختلف الموريتانيون في مدى توفيق هذه الجملة المقتضبة وثار الجدل حول مدلولها لحد التأويل الذي بلغ بعضه درجة التهويل حيث أعرب أناس بصراحة عن الفزع لما اعتبروه إفشاء وزارة الداخلية لتفشِ وبائي يتجاوز نطاق الحالات المحدودة التي أفصحت عنها وزارة الصحة.. واحتدم النقاش واقتبست قناة الجزيرة الفضائية الجملة ورددتها في نشراتها على نطاق أوسع من التردد الوطني.. ولربما استحضر الدكتور/ محمد سالم ولد مرزوك، عندما طالع رجع عبارته وصداها المتكرر، قول المتنبي:

 

أنام ملء جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جراها ويختصم

 

وسدا للفراغ، أدشن هنا حلقة في أساليب الخطاب التي، لا مراء، في أنه يوجد خبراء مختصون أكثر تأهيلا لتناولها ولكن إحجامهم يجعلها متعينة على غير الراسخين في العلم.

 

1

يقول عبد الرحمن الأخضري، رحمه الله:

"وجعلوا بلاغة الكلام *** طباقه لمقتضى المقام"

 

ولتحقيق الهدف المنشود من التعبير، وهو توصيل الأفكار ونقل الانطباعات، يحسن أن يتحدد الأسلوب بحسب المستهدَفين الذين يتوجه إليهم الخطاب، لا باعتبار مصدره، فعندما يُوجًه الخطاب لفئة متخصصة يسوغ لمصدره أن يضمنه مصطلحات ذات دلالات خاصة لا مشاحة فيها بين المختصين المخاطَبين، أما عندما يكون الخطاب موجها للعموم فلا مناص من الجنوح للتبسيط مع وجوب أن تكون الخطابات الرسمية وسطية تتجنب النزول إلى اللغة السوقية وتتفادي التطاول للعبارات القاموسية والأساليب غير الجلية أو المرتبطة بفن محدد؛ ولكل فن رطانة Jargon خاصة به فللساسة أساليبهم الدبلوماسية ولعلماء الأحياء من أطباء وغيرهم مصطلحاتهم البيولوجية وللقانونيين قضاة ومحامين لغة شرعية تطفح بها المذكرات والقرارات القضائية..

 

ويحظى موضوع أساليب الخطاب باهتمام كبير أذكر منه، على سبيل المثال، أطروحة، لنيل شهادة عليا، أعدها الشيخ محمد الحسن ولد الددو تحت عنوان: "مخاطبات القضاة في الفقه الاسلامي" نشرت في كتاب متداول.

 

2

ومن أمثلة اختلاف مدلول المصطلح من حقل لآخر نضرب مثلا بكلمة "ابروتوكول" فهي تحيلك عندما تسمعها في مكاتب القضاة والمحامين والموثقين، للاتفاقات التي يوقعها الأطراف والتي قد تقوم الالتزامات المدرجة في بنودها مقام القانون فيما بينهم وعندما تتناهى لسمعك ذات عبارة "البروتوكول" في الدواوين الحكومية من رئاسة ووزارات وسفارات فيُحمل المصطلح على التشريفات والمصالح المختصة في ترتيب أجندات المسؤولين واستقبالاتهم أما في المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية فتعني كلمة البروتوكول الأدوية والمستحضرات الموصوفة لعلاج داء ما.. وليست هذه الكلمة إلا مثالا من عبارات كثيرة متحدة في النطق والكتابة إلا أنها ذات مدلولات شتى.

 

ومن الجائز الرجوع في مؤدى كلمة "بؤرة" لدلالاتها المتقاربة فهي لغة الحفرة أما مدلولها الاصطلاحي الأكثر شيوعا فقد حددته وسائل الإعلام بالتكرار وهو: مكان التجمع المهيئ للزيادة العددية ومنه بؤر الاستيطان المتفاقمة في أرض فلسطين.

 

ويستخدم علماء الأوبئة البؤرة Foyer للدلالة على الرباط أو المكمن الذي تنطلق منه أحياء معينة.. وقانا الله وأبعد عنا وعن بلادنا وصرف عن البشرية جمعاء كل مكروه.

 

3

وقد يقول المرء الكلمة، لا يلقي لها بالا، فيُؤوِلها غيره تأويلا يُخرجها عن مقصود القائل ويصرفها إلى خلاف مراده ومن ذلك أذكر أنه إبان الإضرابات التي شهدتها موريتانيا في ثمانينات القرن المنصرم وقف مفوض شرطة مستعرب في انواذيبو وصاح في مكبر صوته المحمول مخاطبا عناصره بالقول: "فرقوهم ولو بالقوة" فسمعتْ سيدة من أمهاتنا العبارة وصاحت في الشارع باكية فزعة: أمرهم بأن يبيدوا أبناءنا: أخذا بالمدلول الحساني لعبارة فرقوهم!! مع أنه إنما قصد ما تحقق له، بالفعل، من تشتيت صفوفنا بعد استخدام مسيلات الدموع التي تركتنا شذر مذر.

 

4

وجملة القول أن من واجب السلطات أن تتحرى الدقة والمصداقية في البيانات الرسمية التي ينبغي أن تحظى بعناية خاصة لا تقف عند حد الصياغة فبعدها يتوجب التدقيق اللغوي ومن ثم يتعين أن تحال مشاريعها لمن يقوم بتمحيص المحتوى قبل أن يتأتى إعلانها للمستهلك الذي يضم كل من هب ودب. والتماسا لأحسن المخارج يمكن القول إن وزارة الداخلية إنما اختارت تضمين البؤرة في بيانها لإخافة المواطنين وحملهم على البقاء في البيوت التي تتواتر مختلف الأنظمة على أن المُكث فيها من أمثل سبل الوقاية من الداء المستشري الذي يُفزع ساكنة الشرق والغرب على حد السواء.