على مدار الساعة

قانون النوع: محاكم تفتيش وشرطة جندرية

11 مايو, 2020 - 00:44
الأستاذ المختار بن نافع - كاتب وباحث

قبل سنتين، أسقط نواب الشعب الموريتاني - وفي مقدمتهم نواب الأغلبية الحاكمة - المحاولة الأكثر فجاجة لتمرير قانون النوع المستمد من أيديلوجية الصراع بين الرجل والمرأة التي تهيمن حاليا في العالم الغربي وتسعى منظماته إلى فرضها على بقية العالم.

 

وها نحن اليوم أمام محاولة أخرى لتمرير هذا القانون بصيغة تتفق مع سابقتها في الاغتراف من مشرب الأيديولوجية النوعية، وإن اختلفت معها في درجة تشرب وتسرب أفكار تلك الإيديلوجية، إلا أن ما في الصيغة الجديدة من سموم تلك الأفكار كاف للقضاء على روح المودة والتعاون والتكامل التي أراد الله سبحانه وتعالى أن تسود بين الرجال والنساء مهما كانت العلاقة بينهم: أبوة أو أخوة أو زوجية!

 

إن القارئ المتمعن للصيغة الجديدة المعنونة بـ"مشروع قانون يتعلق بمكافحة العنف ضد النساء والفتيات" سيلاحظ بوضوح الأخطاء والأخطار المبثوثة في نصه، لكن خطورة مشروع القانون هذا لا تقف هنا، بل هي في روحه والفلسفة القائم عليها ونمط الحياة الذي يؤسس له، ذلك أن فلسفة القوانين والتشريعات ومقاصدها الاجتماعية أعمق أثرا من نصوصها الحرفية.

 

وبقراءة متأنية لهذا القانون - وأنا هنا أحيل على النسخة الرسمية حسب ما ترجح لدي - يتضح أنه يؤسس لنمط حياة قائم على أمرين في غاية الخطورة هما:

- بث روح الشقاق والصراع في علاقة الجنسين

- تأسيس شرطة تدخل في العلاقات الأبوية والزوجية

 

هيئة الأمر بالجندر

تعرضت الهيئات التي تعبر عن فرض سلوك معين على المجتمع بقوة الدولة لكثير من الانتقاد ولا سيما من قبل القوى العلمانية، ولا شك أن تجارب هذه الهيئات تدل على صحة الانتقادات الموجهة لها.

 

لكن يبدو أن بعض الأطراف التي كانت تنتقد هذه الهيئات وتسميها الشرطة الدينية، مثل الحركات النسوية والجمعيات المتبنية للأيديلويجة النوعية تصر اليوم على اللجوء إلى هذا الأسلوب لفرض أفكارها على المجتمعات المسلمة، بل وكافة المجتمعات المحافظة، وقد ظهر هذا المسعى في القانون الذي بين أيدينا.

 

وحتى لا تستغرب، أخي القارئ، من هذه الخلاصة: دعنا نرى ماذا تعني الشرطة الدينية وكيف تجلت في هذا القانون.

 

تتكون ظاهرة الشرطة الدينية من أربعة عناصر:

1. قوانين غامضة تجرم أنماطا من السلوك بعبارات مطاطة قابلة للتأويل حسب رغبات واضعيها.

2. محاكم وأجهزة تفتيش تراقب كافة مناحي الحياة بحثا عن مخالفي هذه القوانين.

3. تبعية كافة أجهزة الدولة وقطاعات المجتمع للأجهزة الوصية على هذه القوانين.

4. أجهزة غير رسمية تتمتع بحق الدعوى باسم الاحتساب وحماية القوانين المذكورة.

 

وبالنظر في هذا القانون نجد هذه العناصر الأربعة بكاملها لا يتخلف أي منها، وفي ما يلي نستعرضها واحدا بعد الآخر من خلال نص مواد القانون:

 

1. الجرائم المطاطة

 تعرف المادةُ 2 من مشروع القانون العنفَ الذي يدور القانون كله حوله بأنه "أي عنف موجه ضد الإناث يتسبب أو قد يتسبب في إلحاق أذى أو معاناة بدنية أو جنسية أو نفسية أو أدبية أو اقتصادية أو ثقافية، بالنساء والفتيات، بما في ذلك التهديد بمثل هذه الأعمال، أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء في الحياة العامة أو الخاصة".

 

وواضح ما في هذا التعريف من غموض ومطاطية تجعل ألفاظا من قبيل "الأذى الأدبي" و"المعاناة الثقافية" و"الحرمان التعسفي" قابلة للتأويل والإسقاط على أكثر من سلوك.

 

فمثلا حين تطير خاطرة غير مكتملة من رأس مراهقة أثناء كتابتها على فيسبوك بسبب نداء أمها قد تتدخل شرطة النوع وهيئة الأمر بالجندر وتكيف الأمر على أساس أنه معاناة أدبية!

 

2. محاكم التفتيش

جسد هذا القانون محاكم تفتيشه التي تجوس خلال الحياة الاجتماعية باثة عيونها ومراقبيها في آليات الكشف المبكر ومؤسسات الرصد الواردة في المادة: 8 (تسهر الدولة على وضع آليات للكشف المبكر عن العنف ضد المرأة والفتاة، في الإطار الأسري والمدرسي والجامعي والمهني، وذلك عن طريق إنشاء مؤسسة رصد مناسبة).

 

ولكم أن تتخيلوا ماذا تحتاجه هذه المؤسسة لتكون مناسبة لرصد ما يجري في الأسرة والمدرسة والجامعة والأسواق والإدارات!

 

3. تسخير الدولة والمجتمع

يسخر هذا القانون أجهرة الدولة والمجتمع لخدمة شرطة النوع؛ إبلاغا ومراقبة من قبل المجتمع واستجوابا ومعاقبة من قبل أجهزة الدولة.

 

فالأفراد يعاقبون إذا لم يبلغوا بجرائم هذا القانون (المادة: 30) حتى لو كانت الجريمة المعنية مجرد كلمة نابية صدرت من زوج لزوجته في فورة غضب.

 

و "على ضباط الشرطة القضائية، والنيابة العامة والقاضي المختص، أو أي سلطة أخرى أن يتصرفوا بأسرع ما يمكن" (المادة: 40) حتى لو كانت الجريمة المفترضة شكوى مراهقة من تقييد والدها لحريتها.

 

وفي نفس المعنى تأتي المادة: 41 التي تنص على إلزام قاضي التحقيق بالقيام بإجراءات التحقيق في أقصر الآجال، حتى القضاة يخاطبون بمنطق الإلزام وتمارس عليهم الوصاية في التمتع بسلطتهم التقديرية.

 

وفي نطاق إخضاع المجتمع لسلطة الشرطة الجندرية يأتي دور أرباب العمل، فقد جاء في المادة: 23: (يلزم رب العمل باتخاذ التدابير اللازمة لمنع العنف ضد النساء والفتيات في مكان العمل واتخاذ تدابير البحث التحفظية ومعاقبة مرتكبيه عند الاقتضاء).

 

وكأن هذا القانون ينطلق من مسلمة مفادها أن كل ركن في حياة هذا المجتمع توجد فيه عصابة مجرمين تتربص الدوائر للانقضاض على النساء والفتيات!

 

4. نيابة عامة موازية

يفتح هذا القانون باب "الاحتساب العلماني" لجمعيات حقوق الإنسان ذات الصلة لتتولى رفع القضايا حتى دون الحاجة لتوكيل من الضحايا أنفسهم لتصبح بذلك نيابة عامة مفروضة على الشعب بقوة الارتباط بالدوائر الجمعوية الغربية والتيار النسوي المعولم.

 

جاء في نص المادة: 54 (يمكن لكل مؤسسة ذات نفع عام وكذا كل جمعية دفاع عن حقوق الانسان، تتمتع بالشخصية القانونية منذ خمس سنوات على الأقل، عند تاريخ الوقائع، رفع الدعوى والقيام بالحق المدني في كل النزاعات الناتجة عن تطبيق هذا القانون).

 

وتصوروا أنه بناء على هذه المادة يمكن لصاحب جمعية/حقيبة حصل على ترخيص في ظروف غامضة وترك وصله ملقى في ركن قصي من بيته دون أي نشاط مدة خمس سنوات يمكنه رفع قضية إذا سمع جاره يشتم زوجته حتى دون توكيل الزوجة، أو رفع دعوى على الأب الذي يرفض خروج ابنته في وقت متأخر من الليل بناء على أن هذا القانون يعاقب "كل من يحرم امرأة أو فتاة من ممارسة الحقوق التي يكفلها القانون".

 

حلبة صراع

من الآثار الخطيرة التي ستنتج عن هذا القانون: نشر الصراع والمناكفة بين شقي المجتمع (النساء والرجال) وتحويل علاقتي الزواج والأبوة إلى علاقتين قائمتين على المغالبة، فالآباء والأولياء يظهرون في هذا القانون وكأنهم حراس سجن خلقوا لمصادرة حرية الفتات وتحويل حياتهن إلى معاناة وأذى، والأزواج يظهرون وكأنهم عصابات لصوص تمتهن التنكيل والشتم والاحتجاز والابتزاز

 

وحتى الزملاء في الدراسة والمهن، والرؤساء في العمل يصورهم القانون معتدين افتراضيين على زميلاتهم وعاملاتهم يتحتم نشر المراصد ووسائل التعقب للكشف المبكر عن اعتداءاتهم الحتمية.

 

لن يجد قارئ هذا القانون أي كلمة توحي بعطف الأبوة ولا حنان الأخوة ولا مودة الزوجية، ولا صفاء الصداقة، بل سيجد نصا متخما بالألفاظ التي تقطر رعبا وفظاظة وكأنه سيناريو محكم لفلم رعب هوليودي (الأذى، المعاناة، الإكراه، الحرمان، التعسف، العنف، الاحتجاز، الابتزاز، التشويه، الأضرار، منع الميراث).

 

وليت الأمر اقتصر على التعابير، أو حتى على روح القانون، لكنه للأسف لم يقتصر عليهما بل انتقل إلى إنشاء الآليات التي تشجع تمرد الفتيات على أسرهن مثل "مراكز الإيواء ودور البنات، التي تستقبل الضحايا لآجال متوسطة وطويلة في ظل ظروف تسمح بإعادة تأهيلهن بالكامل" كما جاء بالحرف في المادة: 19

 

من مهام هذه المراكز كما جاء في نفس المادة "تقديم المعلومات للضحايا" المعلومات عن ماذا؟ الله أعلم

 

لعل الممول هو من يحدد ذلك، وهذه المراكز حسب المادة: 20 "تستفيد من دعم مالي مقدم من طرف الدولة والشركاء" أي نعم الشركاء! أي المنظمات الأممية والدول الغربية التي تنشر دين الجندرية عبر العالم بذهب المعز وسيفه!

 

وتتأكد خطورة هذه المراكز إذا استذكرنا أن الضحايا اللواتي تتحدث عنهن هذه المادة قد يكن مجرد مراهقات استغللن مطاطية المفاهيم المعبرة عن الجرائم في هذا القانون للتمرد على ولاية آبائهن مثل مفهوم "الحرمان من ممارسة الحقوق التي يكفلها القانون" الوارد في المادة: 35.

 

ختاما!

لعل أغرب ما في هذا القانون أنه خالف تماما ما كان يتوقع منه من مكافحة جريمة الاغتصاب التي استغلها مروجوه لتسويقه للرأي العام، فقد جاء القانون بتخفيف عقوبة المغتصب من خلال إسقاط عقوبة الأشغال الشاقة عنه كما قال المحامي المتميز محمد المامي ولد مولاي اعلي.