على مدار الساعة

لفتة إلى نزلاء السجون

11 يونيو, 2020 - 16:57
المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن

قد يظن البعض أن لكتابة هذا المقال ارتباط بالترشحات الحالية لرئاسة أو عضوية الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب ومع مشروعية الغرض يهمني أن أنفيه بدليل أنه سبق لي نشر عدة مقالات متعلقة بواقع السجون أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "واجب التبيين.. لتعسف نقل المحبوسين إلى بير أم اكرين" - مارس 2015 و"غيوم الوقاية من التعذيب في موريتانيا" - مارس 2016.. وبالرجوع لتاريخ نشر المقالين يتبين أنهما سبقا إنشاء موريتانيا لـ"الآووت".. كل ما في الأمر أنني اعتدت محاولة المساهمة في الإصلاح بتناول القضايا ذات الصلة بالقانون الذي هو مجال تخصصي وميدان عملي.

 

وبعد أن طالعت مؤخرا تدوينة عن انتشار مرض غامض وفتاك بين نزلاء سجن ألاك رجعت للموقع الإلكتروني للآلية الوطنية للوقاية من التعذيب فبدا لي أنها لا تتناول مثل هذه المواضيع وأنها تركز على إصدار بيانات تثمين عمل السلطات مما نعده افتياتا على اختصاص الأجهزة الإعلامية الحكومية.. ومع أن هذا المأخذ ورد في الوقت بدل الضائع لأن أعضاء الآلية الحاليين منصرفون إلا أنه قد يسهم في مساعدة الفريق المرتقب على تصحيح المسار.. لذلك ارتأيت رمي حجر عله يسهم في تحريك مياه البركة الراكدة.. وأبدأ المعالجة بتناول التطور الدولي في معاملة السجناء (1) وألفت الانتباه لتجربة السجون المفتوحة (2) قبل استعراض المعلومات الرسمية المتوفرة عن واقع السجون الموريتانية ونزلائها (3) وأخلص لتوصيات سريعة أعتقد أنها معينة على تجاوز بعض النواقص (4).

 

1

يلاحظ أن نظام تقييد الحرية تحسن جذريا في العالم بأسره وتغيرت النظرة إلى السجون فبعد أن كانت البشرية تعتبرها أماكن مغلقة ومظلمة للمحاسبة والضغط على النزلاء ومعاملتهم بالطريقة التي يقدر الحراس أنها تضمن الانضباط، تحولت المحابس في الأذهان إلى مؤسسات للإصلاح وإعادة التأهيل وتم فتح أبوابها وركبت نوافذها وغدت محل عناية واهتمام.. ولكي تتحقق الأهداف المنشودة لم تعد الرقابة، على مدى تقيد مؤسسات السجون بالضوابط، توكل للأجهزة التابعة للدولة وحدها وإنما يعهد بتفتيشها لآليات مستقلة تم إنشاؤها بناء على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وابروتوكولها الاختياري وربما دخلت على خط رقابتها بعض المنظمات الأممية والهيئات غير الحكومية الحريصة على الاستقصاء ونشر النواقص التي تتقبلها الدول المتمدنة بصدر رحب، لأنها تحفزها على تحسين نظامها، بينما تضيق صدور الأنظمة المتخلفة ذرعا بالنقد وتصنفه في خانة العمل المعارض المنبوذ رسميا.

 

وقبل يوم واحد من نشر هذا المقال (10 يونيو 2020) برأت المراقِبة العامة لأماكن تقييد الحرية في فرنسا، القاضية آدلين هازان Adeleine HAZAN، ذمتها وأخلت مسؤوليتها بنشر تقرير بينت فيه تعسف معاملة الدولة الفرنسية للسجناء الأصوليين الإسلاميين مبينة وجوب احترام القواعد المقررة تشريعيا والتي تقتضي مساواتهم مع باقي السجناء..  وللتنبيه فإن المراقبة المذكورة تلعب دور الآلية الفرنسية للوقاية من التعذيب التي ينص القانون الفرنسي على أنها توكل لشخص طبيعي يختار معاونيه بنفسه ويراقب تقييد الحرية مدة مأمورية تدوم ست سنوات غير قابلة للتجديد. 

 

وعموما فقد تسارعت وتيرة تحسن معاملة السجناء منذ منتصف القرن العشرين (1955: تاريخ صدور توصية من الأمم المتحدة باتباع القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء) وبدأت الدول في تحسين الأطر التشريعية لمعاملة السجناء وأشفعت ذلك بالعمل ميدانيا على تجنب الاكتظاظ وتوفير الرعاية الصحية ووضع قواعد المعايير الدولية لمعاملة السجناء ومنها أن النسبة التي تقيد حريتها يجب أن تظل محدودة وأن لا تتجاوز فردا واحدا من كل ألف شخص (1/1000) أما أفراد الطاقم الطبي الذين يتعين تفريغهم لخدمة نزلاء السجون فتم تحديدهم بمعدل طبيب واحد لكل مائة سجين (1/100) وممرض لكل عشرين سجينا (1/20) كما حظي الحيز المكاني الخاص بكل نزيل بالاهتمام وأصبح لزاما أن تترك له عدة أمتار ولم يعد من المقبول حشر السجناء في غرف مكتظة.. حتى النظافة حظيت بالعناية وأصبح السجناء يعلمون أن من حقهم الاستحمام عند ولوج النزل الإجباري وبعد التمارين الرياضية بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع وتحتم تنظيف الغرف والعمل على منع الجرذان والصراصير من اجتياحها.. وتتعالى أصوات نقابات السجناء في أوروبا مطالبة بإمداد الغرف الداخلية للسجون، المشيدة قديما، بالماء الساخن بدلا من إرغام السجين إلى أن يسعى إلى الحمامات العامة ليغتسل.. وبعد تزويد غرف السجن بالتلفزيونات والثلاجات بدأت المطالبة بخدمة الهاتف والإنترنت التي أصبحت قوانين بعض الدول تتيحها جزئيا للسجناء بعد أن تبين أن الكثير منهم يحتفظ خلسة بوسيلة اتصال يتفاعل عبرها مع العالم الخارجي وربما غض الحراس الطرف عن ذلك لإدراكهم بأنه لا بد مما ليس منه بد.. ولم يتوقف التطور عند حد توفير كافة المتطلبات في أماكن مغلقة وإنما بلغ حد إنشاء بعض الدول لسجون مفتوحة.

 

2

قد يندهش البعض إذا علم بأن نصف سجون دولة الدنمارك مفتوح لا تحيط به أسوار ولا يحمل حراسُه سلاحا ويجوز لنزلائه أن يغادروه متى ما أرادوا ابتداء من الساعة السابعة صباحا على أن يعودوا قبل التاسعة ليلا للمبيت في غرف يحتفظون بمفاتيحها. وإذا ارتكب نزيل السجن المفتوح مخالفة جسيمة كالفرار مثلا فإنه يُعرض نفسه لعقوبة الإحالة إلى سجن مغلق. ويحيل قضاة الدنمارك إلى السجون المفتوحة أكثر من ثلث مقيدي الحرية في بلد تعد نسبة الإجرام فيه من أقل المعدلات عالميا ولذلك لا تتجاوز نسبة تقييد الحرية عندهم فردا واحدا من كل ألفي شخص (1/2000). وبموجب الإجراءات الجنائية الدنماركية يحال المتهمون بارتكاب الأفعال الجنائية التي تقل عقوبتها عن خمس سنوات للسجون المفتوحة التي توفر فرص العمل والتكوين لنزلائها. وعندما كنت بصدد جمع معلومات هذا المقال شاهدت، عبر قناة اليوتيوب، تصريح نزيل سجن أفاد بأنه يتعلم السياقة ويسعى، قبل انقضاء محكوميته، للحصول على رخصة تخوله قيادة المركبات الثقيلة والسير مجددا على الطريق.. واقع نحسدهم عليه.

 

3

وبينما يحظى سجناء دول شمال الكرة الأرضية بالعناية والاهتمام ويعيشون في رغد عيش لا يتوفر للسواد الأعظم من الطلقاء في دول الجنوب ومنها بلادنا موريتانيا التي يعاني سجناؤها تبعات الإهمال وسوء المعاملة التي عاينت منها شخصيا عدم تخصص أماكن يطمئن فيها المحامون عند مقابلة موكليهم مع أنه قل أن توجد صفحة من مدونة الإجراءات الجنائية الموريتانية لا تحض على ضرورة احترام حقوق الدفاع وإبطال الإجراءات التي لا تحترمه.

 

ومن الوارد أن نسجل بارتياح بوادر تحسن إعلامي إيجابي يتمثل في صدور نشرة عن وزارة العدل تبين أسبوعيا عدد نزلاء السجون وعدد المحبوسين احتياطيا.. ونأمل أن تنجح التجربة وأن تتطور لتعكس بالأرقام واقع السجون الموريتانية التي لم يعد من المقبول إغفالها أو التكتم على حالها.

 

وقد طالعت في العدد الخامس (5) من النشرة الأسبوعية لوزارة العدل، الصادر بتاريخ 26 مايو 2020، أن عدد نزلاء السجون الوطنية هو 2271 سجين وكان قد ورد في العدد 4 من نفس النشرة الصادر بتاريخ 18 مايو 2020 أن عدد السجناء 2302.. ولم أتبين لحد الساعة سبب كون الفارق بين العددين لا يعدو 31 نزيلا فقط مع أن السلطات أعلنت بين التاريخين استفادة 195 سجينا من العفو الرئاسي الصادر بمناسبة عيد الفطر والذي تضمن تخفيض سنة عن كل مدان أصبحت إدانته نهائية بتاريخ 22 مايو 2020، باستثناء المدانين في قضايا القتل العمد والإرهاب والاغتصاب واختلاس المال العام.

 

وجلي أن ظروف الجائحة ينبغي أن تحفز موريتانيا على الاقتداء بدول العالم التي عملت على تخفيف اكتظاظ سجونها باتباع آليات تضمن الإفراج عن بعض السجناء ومن أجل نجاح المسعى يجب تخفيض وتيرة إصدار بطاقات الإيداع وتنبيه قضاة التحقيق إلى وجوب احترام المادة 138 من قانون الإجراءات الجنائية التي لا تجيز تقييد الحرية إلا على أساس خطورة الوقائع أو الخشية من ارتكاب جرائم جديدة أو هروب المتهم أو إخفاء الأدلة.

 

وأعتقد أن الأعداد القادمة من نشرة وزارة العدل ستحمل الجواب عما إذا كان القطاع المختص قد نجح في تقليص عدد السجناء الذي أعتقد أن تخفيضه يتعين أن يكون بالعشر على الأقل وبذلك نأمل أن يتراجع خط عدد السجناء في موريتانيا إلى ألفي نزيل وأن نتمكن من متابعة التطور.

 

صحيح أن من الحسن كون نسبة مقيدي الحرية في موريتانيا نسبة منخفضة ولكن من الأحسن أن نسعى لتخفيضها وأن تفعل السلطات ورشات تحسين ظروف نزلاء السجون.

 

4

وفي تقديري أن تحسين ظروف تقييد الحرية في موريتانيا يتأتى باتباع الخطوات التالية:

1. توفير ونشر قاعدة بيانات رسمية شهرية تبين عدد السجون الوطنية وعدد نزلائها ونسبة المدانين والمحبوسين احتياطيا ونسبة الإناث والقصر والأجانب منهم.. مع بيان مساحة غرف الحجز ومعدل عدد نزلائها لمعرفة الحيز المكاني المخصص لكل سجين.

2. تفريغ عشرين طبيبا (20) ومائة ممرض (100) للاهتمام بصحة نزلاء السجون.

3. التفكير في تقنين حوافز تدفع السجناء لخدمة المصلحة العامة مقابل استفادة مادية وتخفيض لفترات العقوبة.

4. تقريب السجناء من قضاتهم الطبيعيين ومن المحامين الذين يتعهدون بالدفاع عنهم.

5. تخصيص أماكن لمقابلة نزلاء السجون ودفاعهم يمكن أن تكون غرفا مزودة بكاميرات مراقبة إذ يتحقق الواجب بمجرد أن تكون مجريات المقابلة مع الدفاع سرية.

6. تخفيف قيود الزيارات وتيسيرها لأسر السجناء وتوفير مخادع للخلوة الشرعية للنزلاء المتزوجين الذين لا سبب للإضرار بزوجاتهم ويجب على الدولة أن تعمل على توفير الظروف التي تساعد في عدم تفكك أسرهم.

 

وفي الاخير أعتقد أنه يجب على السلطات القضائية والتنفيذية وعلى أجهزة رقابة السجون أن تستحضر واجباتها في رعاية مقيدي الحرية وأن تعاملهم على أساس أنهم عيال يستحق الرعاية والاهتمام ولن يتأتى إصلاح السجون إلا بالتعاون مع الأجهزة الأمنية التي تصر على تغليب الهواجس الأمنية على احترام الحقوق وبذلك تتحول السجون إلى معسكرات مغلقة.