على مدار الساعة

الشروط الثلاثة..

16 يونيو, 2020 - 11:06
محمدن ولد سيدي الملقب بدن

حدثني أستاذي الجليل و أخي في الله العلامة محمد المختار بن امْحمَّدْ بن محمدْ المختار بن أحمدو بن امبالَّه قال : عندما ظهرت السهرات الرمضانية لأول مرة في الإذاعة الوطنية بمبادرة طيِّبةٍ من مديرها العام آنذاك اشترطتُ عليه في المشاركة فيها شرطيْن اثنيْن هما : أن لا يجمعونيِ في استديوهٍ واحد مع امرأة ، و أن لا يشركوني مع غيري من العلماء في برنامج واحد . أما الشرط الأول فبسبب الحرمة  الشرعية الصريحة للإختلاط ،  و أما الشرط الثاني فتجنباً للحرج في حال الاختلاف في الرأي الفقهي مع رفيقي في البرنامج فأضطرَّ إما إلى مخالفته على أمواج الأثير أو السكوت عنه فيحمل ذلك على أنه تبنٍّ لغير قناعتي من الآراء .

و صادف رمضان مرة انتهاج الدولة لسياسة جديدة لترقية النساء في عهد الرئيس الأسبق معاويه بن سيد أحمد الطائع و كنت إذ ذاك رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية .و في إحدى الليالي حضرتُ إلى التلفزة الوطنية لأنعشَ بها إحدى السهرات الرمضانية و هي إذ ذاك في أوج ازدهارها و ألقها ، و بينما أنا أهمُّ بدخول الاستديو إذ فاجأني به وجود امرأة قدمها لي المشرفون على البرنامج على أنها طبيبة مختصة تمت برمجتها لتشترك معي في البرنامج ! و بطبيعة الحال تمسكت بالشرطين السابقين حجةً ، و امتنعت من الدخول  قائلا : لا مانع عندي من أن أتخلف عن البرنامج إلى حصة لاحقة . أما المشاركة معها في برنامج واحد فذلك فيه خرق واضح للاتفاق المبرم بيننا و لن أقبله بتاتاً .و لا زال المدير العام يلح علي في التنازل حتى إذا داهمهم الوقت و يئسوا من إقناعي ، قرروا بالتشاور مع الطبيبة الطيبة الأخلاق الموطأة الأكنافِ في ما يبدو من حسن تعاملها مع الوضع المحرج  ، أن ترجئ مشاركتها إلى الحصة الموالية و أن آخذ مكانها لإنعاش الحلقة الجديدة من البرنامج .

 

و مرت تلك الحادثة دون أن يكون لها أي صدى رسميٍّ على الأقل ، و تشاء الصدف أن تتكرر لي حادثة مماثلة في الصحافة المسموعة هذه المرة . ذلك أنه بالرغم من شروطي المعروفة مع وسائل الإعلام بشقيها المسموع و المرئي ، فقد لاحظت مرة برمجةً للسهرات الرمضانية الإذاعية تتضمن اسمي مقرونا  باسم إحدى الصحفيات باعتبارها مقدمة للحلقة ، فبادرتُ إلى تنبيه المدير العام عله يصحح الخطأ في الوقت المناسب . و لما علمت من خلال الإعلانات المتكررة عن الحلقة عبر الأثير حتى قبيل التوقيت المحدد للبث أن أي تغيير لم يحصل على المسطرة الأصلية ، قررتُ التغيب عن البرنامج و البقاء في المنزل . و كنت أظنُّ الأمر أَمرٌ أُبْرِمَ بليلٍ و لم يتعدَّ الحدود الضيقة للإذاعة الوطنية،  لولا أن استدعاني صباح اليوم الموالي معالي الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية صديقنا المخلص السيد الداه بن عبد الجليل فإذا به يثير الموضوع بخطاب يظهر منه بجلاء أنه بتفويض من فخامة رئيس الجمهورية و إن كان بذكائه المعهود قد لفَّ خطابه الرسمي ذاك في ثوب سابغٍ تطبعه مرونة الاداريِّ اللّوذعيِّ و  نصيحة الصديق الوفيِّ ! و خلال النقاش قلت لمعالي الوزير الصديق : " لعلكم لا تتصورون أنني أنا من يوصل بناتي إلى المدرسة النظامية صباح كلَّ يوم و أنا في طريقي إلى المكتب . و لكن اضمنْ لي سلامة المرأة من ثلاثة محرمات بالاجماعِ و ألتزم لك بالمقابل بأن لا أتخلف عن أي مناسبة رسمية أو غير رسمية تجمعونني و إياها فيها تحت سقف واحد و هي التبرج السافر بالطيب و الزينة و الملبس ! و لا أراك تستطيع حتى على استيعاب مثل هذا الطرح إذ أننا نعيش جميعُنا في مجتمع اختلط فيه الحابل بالنابل و انقلبت فيه الموازين رأسا على عقب حتى أصبحت هذه المحرمات الثلاثة على النساء هي أَيْسَرُ  شروطهنَّ في الخروج أَصلاً ، أحرى إذا كان ذلك إلى المحافل الرسمية حيث يكون الباب للإخلاطِ مفتوحًا على مصراعيْهِ ، و أينا يرضى ذلك لذويه من النساء فكيف إذن نرضاه لنساء غيرنا من المسلمين؟!

 
قال محدثي : حقق معالي الوزير الصديق بدهائه في هذه المرة من تبرئتي ما عجز عن تحقيقه في مناسبة لاحقة عندما استدعاني  رسمياً بعد ذلك بفترة طويلة نسبياً ليبلغني بقرار إقالتي من منصبِ مستشار في رئاسة الجمهورية ! و السبب المباشر في ذلك و كم له من سبب ، هو امتناعي عن المشاركة في برنامج مباشر في التلفزة الوطنية إلى جانب بعض الزملاء الفقهاء هذه المرة و خارج شهر رمضان المبارك و في موضوع مخالف لقناعتي الراسخة المعلنة أكثر من مرة . يتعلق الأمر بتراجع الدولة من منظور اقتصادي بحت ، عن اعتبار يوم الجمعة عطلة رسمية و العودة بها إلى سالف عهدها من يوميْ  السبت و الأحد. و هنا أيضا تمسكتُ بموقفي خلال جولات متلاحقة عسيرة من النقاش الجاد مع بعض من كبار المسؤولين في الدولة كانت آخرها زوالاً خلال لجنة ترأسها معالي الوزير الأمين العام للرئاسة الإداري المحنك الداه بن عبد الجليل و ضمت بعض الوزراء و المستشارين في الرئاسة . و في المساء من اليوم ذاته ، و قبل ساعات قليلةٍ من بث البرنامج الموعود ، اتصل بي هاتفياً  معالي وزير الإعلام آنذاك الناطق الرسميُّ باسم الحكومة ، الخطيب المفوه حمود بن عبدي و لا زال يلح عليَّ من أجل المشاركة في هذا البرنامج الهام ، بأمر من رئاسة الجمهورية كما قال ، حتى إذا اقترب الوقت المحدد للبرنامج ، أغلقتُ الهاتف الجوال و التحقتُ بزميلي الضيف من الخليج الشيخ عثمان بن أبي المعالي في مكان ما من العاصمة و هو إذ ذاك سفير في الكويت ، فتناولتُ معه كاساتِ شايٍ هادئة استغرقتْ من الوقت قدر ما استغرقه البثُّ المباشر للبرنامج المذكور بشغور واضح لأحد المقاعد.

و في صباح اليوم الموالي ، و في الساعات الأولى من الدوام الرسمي ، لم أُفاجأْ هذه المرة كما حصل من قبلُ ، عندما استدعاني معالي الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية الداه بن عبد الجليل للمرة الثانية كما قلت ، و هنالك دار بيننا  نقاش صريح و مستفيض في موضوع تخلفي عن ذلك البرنامج . و في نهاية المطاف ختم الوزير الأمين العام ذلك النقاش بقوله : " أنا لستُ آسِفاً لك على مغادرتِكَ مكاتب الرئاسة ، و إنما أنا آسف لمكاتبِ الرآسة على أن غادرتها أنتَ ! ". 
و هكذا كان ذلك آخر عهد للعلامة محمد المختار بن امبالَّه بالتوظيف في عهد الرئيس معاويه بن سيد أحمد ولد الطائع ، و لكنْ تشاء الأقدار أن لا يكون آخر عهده بمكاتب الرئاسة و لا بمنصب المستشار بها و لا بالتعرض لقضايا الاختلاط بين الرجال و النساء في المناسبات الرسمية و على أعلى المستويات!

ذلك أنه ما إن تقلد مقاليدَ الحكم  فخامةُ رئيس الجمهورية الجديد السيد محمد بن عبد العزيز حتى أعاد تعيينه مستشاراً  للشؤون الإسلامية فعاد إلى مكتبه السابق في الرئاسة ، و هو المنصبُ الذي انتقل منه إلى رئاسة المجلس الأعلى للفتوى و المظالم عند إنشائه فبقي فيه إلى أن تقاعد حفظه الله و رعاه.

و ابَّان فترة عمله الثانية هذه مستشاراً للشؤون الإسلامية حدثني أنه حزَّ في نفسه مرة ما يحصل من اختلاط بين أعضاء الحكومة من الرجال و النساء في المطار عندما كان الوزراءُ يُستدعون لتوديع  فخامة رئيس الجمهورية أو استقباله بمناسبة أي سفر له إلى الخارج أو الداخل و ربما استغرق الانتظار بعض الوقت يقضيه هؤلاء في المطار . قال : و في إحدى المناسبات قلت  لفخامة رئيس الجمهورية: السيد الرئيس ، قد يكون من المناسب أن تصدروا تعليماتكم إلى أعضاء الحكومة بالاحتراز من الاختلاط إبان وجودهم في المطار عند التوديع أو الاستقبال ، و بداهةً أجابني قائلاً : و هلاَّ نصحتهمْ أنتَ بذلك ؟! و بسلاسة تدرجنا إلى موضوع آخر قبل أن نفترق . فما هو أعطى تعليماته بذلك كما أشرتُ إليه به دون استشارة مسبقة ، و لا أنا نصحتهم به كما أومأ إليَّ به في سؤاله الاستفهامي الصريح ، و لكني لاحظت بعد ذلك بفترة وجيزة أن طاقمَ المودعين و المستقبلين من المسؤولين السامين في الرئاسة و الحكومة قد تم تقليصه كثيرا إلى القدر اليسيرِ الذي لا يزال عليه حتى اليوم!.

هذه حكايات سمعتها من الشيخ محمد المختار منذ عهد طويل ، و ابَّان لقاءٍ به لاحقِ قال لي باستغرابٍ : هل تعلم انني التقيتُ قبل أيامٍ عن طريق الصدفة في أحد المرافق العامة بامرأةٍ قدمت لي نفسها على أنها هي الطبيبة التي كنت قد امتنعتُ من الاشتراك معها من قبلُ في برنامج السهرة الرمضانية في التلفزة الوطنية ؟ إنها الطبيبة المختصة في طب الأطفال : زينبُ بنت حيدِّي!

و بالمناسبة أذكر و الشيء بالشيء يُذكر قصة مماثلةً حكاها لي أخونا الصحفي الموهوب المرحوم حمَّوْ بن أحمدو مامين حصلت لهم في الإذاعة الوطنية مع العلامة عبد العزيز سي لم أعد أتبيَّنُ تفاصيلها..

و بعد أن روينا أمثلة من الواقع عن الاختلاط الذي عمت به البلوى في المناسبات الرسمية ، نختم  هذه التدوينة بنظم  فقهيٍّ بديع يعرض فيه  المحدث محمد بن أبي مدين الغوث الديماني رحمه الله بدقة الشروط اللازمة شرعاً لصلاة المرأة في المسجد  فما بالك بغير الصلاة من  الوظائف و في غير بيوت الله من المرافق :

قد صح عن نبينا الأواهِ
لا تمنعوا المسجد آمَ اللهِ

لكنْ لذلك شروطٌ تحتمى
أخذها من الحديث العلما:

عدمُ طيبٍ وخلاخلٍ وما
من الثياب حسنه قد عظما

وتركها لزينة قد شرطوا
في إذنها لأن ذاك أحوط

والأمن في الطريق شرطٌ مثبتُ
وكونها لم تُخْشَ منها الفتنةُ

وأن تكون عند الابتهالِ
لهن حاجزٌ عن الرجالِ

رحم اللهُ السلف و بارك في الخلف .