على مدار الساعة

هل تخسر موريتانيا أوراقها في الساحل..؟

3 يوليو, 2020 - 23:36
أحمد محمد المصطفى - ahmedou0086@gmail.com

مساء الثلاثاء اختتمت قمة نواكشوط، التي انعقدت وفاء لتعهد قطعه الرئيس الفرنسي وضيوفه خلال اجتماعهم في "بو" يناير الماضي، حيث اتفقوا على عقد قمة لمتابعة مستوى تنفيذ قرارتهم بعد 6 أشهر.

 

خرجت القمة ببيان ختامي من 20 نقطة، تناول بالتفصيل التحديات التي واجهتها وتواجهها منطقة الساحل، وأولوياتها خلال المرحلة القادمة، فيما لم تغب عنه مؤشرات عدم الرضا عن مراوحة ملفات المجموعة لمكانها طيلة السنوات الماضية، سواء على المستوى السياسي، أو العسكري والأمني، أو الاقتصادي.

 

لقد ظلت نواكشوط حاضرة بقوة ضمن الكلمات المفتاحية لهذه المجموعة منذ انطلاقتها في فبراير 2014، وشكلت - لعوامل كثيرة – عاصمة المجموعة، وقناة التواصل بين دولها الأعضاء، وقاطرتها التي يعول عليها في استمرار المجموعة، وفي تحقيق بعض أهدافها.

 

فنواكشوط، كانت موطن الإعلان عن المجموعة، وهي مقر أمانتها الدائمة، وفيها انعقد مؤتمر التنسيق مع الشركاء والمانحين، والذي ناقش الأولويات التنموية لدول المجموعة، وسبل رصد تمويلات لها.

 

إن هذه المحورية ضمن هذه المجموعة، والصدارة التي تتبوأها البلاد في قمرة قيادتها، وفي توجيهها، تشكل مكسبا يمكن استثماره في تحقيق إنجازات دبلوماسية، واختراقات إقليمية، كما أن الحفاظ عليه يشكل تحديا لا توحي التطورات بإمكانية كسبه.

 

كما أن موقع موريتانيا الجغرافي، وموقفها ضمن التحالفات الإقليمية، وأجندات القوى الدولية الكبرى الحاضرة في المنطقة، واستقرارها النسبي في محيط متقلب، يجعلها مخولة أكثر للاستفادة من هذه الورقة، وأكثر تأثرا بخسارتها.

 

إن الحديث عن مجموعة الدول الخمس بالساحل، وهي تدخل عامها السابع يتطلب بشكل موضوعي "محاكمة" أدائها خلال هذه السنوات إلى أهدافها المعلنة والخفية، فضلا عن مساءلة ربح موريتانيا منها في مقابل الدور الذي تنهض به داخلها.

 

ولعل الأكثر موضوعية في محاكمة الأهداف المعلنة، هو مقارنتها في البيان الختامي لأول قمة للمجموعة، مع البيان الختامي لآخر قمة، وهي التي انعقدت بنواكشوط قبل أيام قليلة.

 

تُبرز المجموعة في كل مخرجاتها، سواء كانت وثائق أو بيانات، أو خطابات رسمية، أن هدفها هو العمل على ثنائية الأمن والتنمية، من خلال تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء لضمان الأمن والاستقرار، وإعادة سلطات الدولة للمناطق التي فقدت فيها، فضلا عن العمل على إعداد برنامج بأولويات الاستثمار وحافظة مشاريع هيكيلية تعطي الأولوية للأمن والبنى التحتية الأساسية، وإنجاز خريطة شاملة للتمويلات المعلن عنها لصالح الأمن والتنمية في منطقة الساحل والتحضير السريع لخطة عمل لتنفيذ برنامج الاستثمار الأولى وجدول لتنفيذه.

 

ومن الواضح، أن البيان الختامي لقمة نواكشوط يكشف أن هذه الأهداف ظلت في مجملها تراوح مكانها، بل إن المنطقة – في الحقيقة - خسرت مكاسب كانت لديها في بعض المجالات، فالبيان يحمل اعترافات صريحة بأن القمة تأتي في سياق يعرف "تصاعدا للهجمات الإرهابية في الساحل وتدهورا للوضع الأمني في ليبيا بما ينذر بحدوث مخاطر حقيقية على الاستقرار في الساحل".

 

كما يعترف البيان بـ"استمرار جبهة في منطقة بحيرة اتشاد ونيجيريا وتزايد القدرات المحلية للإرهابيين"، و"توسع تهديد الإرهاب نحو كوت ديفوار"، فضلا عن توسعه في شبه المنطقة.

 

وتدعم أرقام الهجمات والضحايا خلال السنوات الأخيرة هذا التوجه الذي يثبت أن التحدي الأمني يتصاعد ويزيد أكثر مع الزمن، وأن تحقيق إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع المنطقة ما زال حلما بعيد المنال.

 

وبخصوص الهدف الثاني، وهو الحديث عن التنمية، ودورها في الاستقرار، فإن البيان يصرح كذلك بأن اقتصاديات دول المنطقة مهددة بانكماش حقيقي، كما يجدد القادة – من خلال البيان - "إيمانهم" بأن "الأزمة في الساحل مشكلة تنموية"، مسجلين - بطريقة خلت من كل تعبير دبلوماسي - أن "حصيلة تعبئة الموارد لصالح برنامج الاستثمارات ذات الأولوية لمجموعة الخمس في الساحل.. [تثبت أن] مستوى هذه التعبئة ما زال بعيدا مما كان منتظرا في مجمل مناطق الساحل".

 

كما حمل البيان شكوى متكررة من تمنع مجلس الأمن الدولي عن اعتماد القوة المشتركة للمجموعة تحت البند السابع للأمم المتحدة، وهو ما يمنحها تمويلا دائما، وهو الخيار الذي "قاتلت" فرنسا من أجله قبل أن يجهضه تلويح أمريكي باستخدام "الفيتو" ضده، وهو الموقف الذي رفض كل المساومات والعروض الفرنسية.

 

وهذا يعني أن الهدف الثاني للمجموعة لم يتحقق هو الآخر خلال السنوات السبع الماضية.

 

ولا يمكن الحديث عن نشأة المجموعة وأهدافها دون استحضار الدور الفرنسي فيها ابتداء، واستمرارا، فالخيط الناظم للدول الأعضاء فيها هو مستوى التأثير الفرنسي في قراراتها، كما أنها وفرت بديلا لتكتلات أخرى كانت "يد" فرنسا فيها غير مطلقة، سواء "المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا" والتي تقف نيجيريا – بوزنها وتأثيرها - حجر عثرة أمام الإرادة الفرنسية فيها، أو التجمعات الإقليمية الأخرى التي سبقت هذه المجموعة، والتي كان للجزائر الدور الأبرز فيها.

 

إن غياب دول إقليمية عن المجموعة كالجزائر، والسنغال، منح موريتانيا فرصة للتصدر والتأثير، وأخذ الدور القيادي، كما أن تماسها مع بؤرة التوتر الأمني في الشمال المالي منحها محورية في التنسيق الدولي، وخصوصا مع القوى الكبرى المتنافسة على النفوذ في المنطقة.

 

لقد جاءت تجربة "مجموعة الدول الخمس بالساحل"، بعد سلسلة تجارب فاشلة لتجمعات إقليمية، من التنسيق بين قيادات الأركان في الجزائر، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، واللجنة المشتركة بينهم في "تمنراست"، مرورا بـ"دول الميدان"، و"أصدقاء مالي"، و"مسار نواكشوط"، وقد لا تكون المجموعة إن واصلت في مسارها الحالي بأفضل حالا من سابقاتها.

 

إن أخطر ما هدد - ويتهدد - أمن واستقرار منطقة الساحل، هو تضارب أجندات دوله، وعجزها – رغم التنسيق المعلن – عن توحيد أجندتها، وفرض أولوياتها على العمل الموجه للمنطقة، فضلا عن تضارب أجندات القوى الدولية المتصارعة على النفوذ في المنطقة، ووقعه على سياسات، وتوجهات أنظمة هذه الدول، وعلاقاتها البينية.

 

إن التساؤل عن إمكانية خسارة موريتانيا لأوراقها في الساحل، وحضورها المعتبر في هذه التجمع الإقليمي، والتأثير إلى حد ما في الأجندات التي تعتمل فيه، يعود بالأساس للأبعاد التالية:

 

1. علاقة موريتانيا بالشمال المالي: فقد حازت موريتانيا ميزة لدى القوى الغربية بحجم المعلومات التي تمتلكها عن الشمال المالي، وهو أمر تحدثت عنه دون مواربة السفيرة الأمريكية السابقة في نواكشوط، حينما وصفت موريتانيا بأنها الدولة الأقوى في المنطقة من حيث حجم المعلومات الاستخباراتية.

 

ولا يحتاج الأمر كثير ذكاء لمعرفة مصدر هذه القوة، إذ من الواضح أن سكان الشمال المالي من عرب وطوارق لا يجدون في محيطهم من يمكن أن يعتبروه "عمقا" لهم سوى موريتانيا، فهم يحاربون مالي، ولديهم مشاكل وتحديات في النيجر، والجزائر تنظر إلى تحركهم بريبة، وتقف في وجه تحقيق هدفهم باستقلال أزواد، أو تحويله إلى فيدرالية خشية انعكاس ذلك على أوضاعها الداخلية.

 

وهذا الواقع المحيط بهم يجعل موريتانيا هي وجهتهم شبه الوحيدة، وإذا قابلت هي هذا الإقبال باحتضان – كما فعلت – فإنها ستربح ورقة الحصول على المعلومة الموثقة في منطقة ملتهبة.

 

ولعل هذا ما يفسر اتخاذ قادة "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" من نواكشوط مقرا لهم في اللحظات التي واكبت الأحداث التي عرفها شمال مالي 2012، وكذا تنظيم الحركة العربية الأزوادية مؤتمرها التأسيسي على الأراضي الموريتانية.

 

ومن الواضح، أن تطورات الأحداث، وتوسع نطاق التحدي الأمني، وتمدد النشاط المسلح إلى الوسط المالي، باتجاه مثلث الحدود بين مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وبل وأبعد من ذلك، سيجعل موريتانيا تخسر جزءا من قوتها في هذا المجال، هذا فضلا عن "تذبذب" علاقتها بهذه المجموعات نتيجة غياب أسس صلبة، وقواعد ضابطة للعمل الحكومي بشكل عام، والعمل الدبلوماسي والأمني بشكل خاص، وأخذهما أحيانا طابعا شخصيا، بدل الطابع المؤسسي المستقر.

 

2. فرصة "التفرد":

لقد منحت طبيعة الدول الأعضاء في المجموعة لموريتانيا فرصة لتصدرها، وأخذ الدور البارز فيها، وهو أمر كان سيتعذر لو ضمت المجموعة الجزائر، أو السنغال مثلا، وقد نجحت موريتانيا طيلة السنوات الماضية في الحفاظ على الإطار بشكله الأصلي، وقاومت كل محاولات توسيعه، بما فيها الضغوط الفرنسية في هذا الاتجاه.

 

وكان من الواضح أنها تدرك أن أي توسيع للمجموعة، أو فتح لبابها أمام دول أخرى سيعني منافستها، وربما انتزاع موقع الصدارة والتأثير منها.

 

غير أن استمرار المجموعة كل هذه السنوات دون أن تحقق اختراقا في الواقع الذي تعيشه المنطقة سيجعل التفكير في توسيعها أو استبدالها بإطار آخر ضمن الخيارات المطروحة، وهو أمر بدء الحديث عنه يعلوا خلال الأشهر الأخيرة، سواء على المستوى الدولي، أو القاري، أو الإقليمي.

 

ولا شك أن حفاظ موريتانيا على هذه "الميزة" يستدعي بذل جهد متعدد الأبعاد لدفع المجموعة نحو تحقيق بعض أهدافها، سبيلا لإنقاذها من التلاشي، وللحفاظ على ورقة رابحة تتهدها الكثير من التحديات.

 

3. الاستقرار في محيط ملتهب

ضمن النقاط التي تقدم موريتانيا بها نفسها، وتكسب بها سمعة دولية، نجاحها في الحفاظ على استقرارها لأكثر من عقد من الزمن في محيط ملتهب، وكونها الوحيدة من الدول الأعضاء في المجموعة التي لم تتعرض لأي هجوم خلال هذه الفترة.

 

كما تجنبت موريتانيا طيلة هذه الفترة المشاركة في العمليات العسكرية في مناطق المواجهات، واشترطت لإرسال جنودها إلى مالي أن يتم نشرهم على المناطق المتاخمة لها، وهو ما واجه رفضا ماليا أجهض مشروع المشاركة.

 

ورغم الحديث الإعلامي عن وجود اتفاق أو هدنة بين موريتانيا والجماعات المسلحة الناشطة في المنطقة، ووجود مؤشرات على حصول مفاوضات حول الموضوع (وثائق بن لادن، وأحاديث بعض القادة)، دون الجزم بحصوله، فإن مكسب الاستقرار في هذا المحيط يظل ورقة قابلة للاستغلال لتحقيق مكاسب، كما أنها معرضة للخسارة بشكل دائم.

 

4. التنافس الدولي والإقليمي:

ورقة رابعة، يمكن لموريتانيا – إن أحسنت اللعب عليها – أن تحقق عبرها مكاسب سياسية ودبلوماسية، بل وحتى أمنية، وهي اللعب على الخلاف الأمريكي الفرنسي في المنطقة، فمن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تعزيز وجودها بعد سنوات من المراقبة والتعاطي عن بعد.

 

ويعكس ذلك موقفها المتشدد من اعتماد "القوة المشتركة لمجموعة الدول الخمس بالساحل" تحت البند السابع للأمم المتحدة، والذي وصل درجة التلويح باستخدام "الفتيو" لمنعه، وقد كان جليا أن هذا القرار "المتشنج"، ليس موقفا من الدول المشكلة لهذه المجموعة، إذ إن أمريكا ترتبط معها بعلاقات تعاون غالبيتها في المجال العسكري، وإنما هو موقف من النفوذ الفرنسي في المنطقة، ورسالة لدولها بأن الفضاء لم يعد حكرا على فرنسا، وإنما دخله من يستطيع أن يحدد للأجندات الفرنسية الخط الذي يجب أن تقف عنده.

 

كما أن حرص الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة على إشراك موريتانيا في تنظيم تمرينها السنوي "فلينتلوك"، إما عبر استضافة جزئه الأكبر كما وقع العام الحالي، أو جزء منه كما وقع الماضي، يعكس مستوى الاهتمام، وإدراك الدور الذي يمكن لموريتانيا أن تنهض به في تدعيم أمن واستقرار المنطقة.

 

ولعل خلاصة الموضوع، أن لموريتانيا أوراق رابحة ضمن أجندات أمن منطقة الساحل، تتشكل من عدة نقاط قوة، بعضها ذاتي، وبعضها نتيجة ظروف وتطورات إقليمية أو دولية، لكن جل هذه النقاط تمتاز بالهشاشة، وبتعدد العوامل المؤثرة فيها، وهو ما يجعل المحافظة عليها غاية في الصعوبة، ويحتاج حنكة، وحصافة، ووضوح رؤية، وطول نفس، واحترافية.

 

فلا شك أن الوقوف في وجه توسع المجموعة، ووأد أي محاولة لإيجاد إطار بديل عنها يشكل أبرز التحديات على المستوى المؤسسي، وهو ما يبدو أن المنطقة مقبلة على محاولات عديدة له، كما أن تمدد التحدي الأمني، وتنوع مخاطره، سيجعل توسيع التنسيق ودخول دول وقوى أخرى أمرا لا مفر منه.

 

كما أن سبع سنوات من إنشاء التجمع ذي الأهمية الاستراتيجية لموريتانيا تعكس أن رؤية البلد في التعاطي معه والاستفادة منه ما زالت ضامرة، فموقعها فيه يمنحها دورا لم يصله طموحها الدبلوماسي، وحجم المخاطر المحدقة به قد تؤدي لخسارتها بعض المكاسب التي حققتها، وحافظت عليها لسنوات، وتميزت بها عن محيطها الذي تواجه دوله مخاطر تصل درجة تهديد كيانها من أصله، هذا فضلا عن وجود أجندات دولية تريد تحقيق أهدافها بغض النظر على تأثير ذلك على واقع ومصالح الدول الإقليمية.