على مدار الساعة

إبراهيما جا، دبلوماسي غير نمطي في خدمة السلام في الساحل

7 أغسطس, 2020 - 14:55
بقلم: محمد الأمين عبد الله

في عمر يقارب الخمسين، جال هذا الدبلوماسي الموريتاني في كافة ربوع القارة الإفريقية تقريبا وصال في أغلب باقي أصقاع المعمورة من خلال تنقلاته المهنية العديدة بحكم مسؤولياته. بمظهره الرياضي النحيف واندفاعه شبه الجامح، يعيش إبراهيما جا تحت سطوة الطموح: "شعاري هو خدمة الآخرين وفي حالة استحالة ذلك، سأظل في خدمة العالم"، خاطب، ذات يوم، بعضا من رفاقه في الجالية الموريتانية في الخارج. ورد عليه أحد قدامي معارفه من متقاعدي اليونيسكو: "يبدو أنك أقدمت على كل شيء وكأنك بلغت من العمر ثمانون عاما".

 

حاز السيد جا على شهادة في الإدارة وأخرى في الدراسات المعمقة في العلاقات الدولية تباعا من كل من المدرسة الوطنية للإدارة في تونس ثم جامعة السربون 1 في باريس ثم في مركز الدراسات الدبلوماسية والاستراتيجية بباريس. وبعدها، بدأ مشوارا في المؤسسات الدولية بدءا من سنة 1997 عندما انضم للبعثة الدائمة لمنظمة الصليب الأحمر الدولي لدى منظمة الوحدة الافريقية بأديس ابابا. ومن سنة 2004، دخل الأمم المتحدة برتبة مستشار سياسي للممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ساحل العاج مكلف بالتحضير لحيثيات عمليات الأمم المتحدة في ذلك البلد. كما تولي، في نفس السنة، تنسيق أعمال المكتب الإقليمي لبعثة الأمم المتحدة في الكونغو مع إقامة في بوجمبورة (بوروندي). كما تولي ما بين سنتي 2001 و2003، مهام مستشار مكلف بالشؤون السياسية وحقوق الإنسان ونزع الأسلحة.

 

مستحضرا ذكريات بداياته في دهاليز الدبلوماسية الإفريقية، سرد السيد جا لأحد رفقائه في المنفي بباريس، حلقة مهمة جرت في قمة مفصلية لمنظمة الوحدة الافريقية نظمت في يوليو 1999 بالجزائر، حيث كاد أن يطرد من قصر المؤتمرات، لمساعيه المتفانية لفرض التراجع عن بعض المقتضيات المقوضة من هامش الحريات في نص "معاهدة الوقاية من الإرهاب"، الشيء الذي خلق له العديد من العداوات والضغائن، خاصة وأن الجزائر كانت مصرة على أن تتم المصادقة على النص بصيغته المقترحة. وبفعل إصراره ومساعيه، نجح ممثلو كل من السنغال وجنوب إفريقيا وجزر الموريشيوس، بعد جهود مضنية ومناورات معقدة، في إدخال التعديلات المقترحة على الاتفاقية. وفي شهر أغسطس من نفس السنة، أسندت إليه مهمة التنسيق، انطلاقا من كيغالي، لعمليات البحث والتحقيق لجمع الأدلة لصالح النيابة العامة لدى المحكمة الجنائية للأمم المتحدة الخاصة برواندا.

 

تحت تصرف الوطن

ابتداء من مطلع سنة 2007، بدأ الحنين الي الوطن يداعب إبراهيما. ولما لم يستطع مقاومة مناجاة الوطن، قرر أن يضع حدا لحالة الـ"بدون" التي كان يشعر بها. ولما أعلن قراره بترك الأمم المتحدة لرفيق قديم كان قد أسس معه، سنة 2006، "رابطة الأطر الموريتانيين المغتربين"، وهي إطار للتشاور، أذهل المعني واستغرب قائلا: "أبك مس؟ كيف يمكنك مقايضة حياة البذخ في الغربة وراتب الامم المتحدة المغري بالدولار للعودة إلى وطن لن يدفع لك سوى راتب هزيل لا يؤمن لك سوى تسيير الفاقة؟". وبثقة المؤمن بموقفه، رد إبراهيما: "قبل سنة، استجبت لنداء الحج الأكبر. والآن، يجب أن استجيب لنداء الوطن!". ومن تلك اللحظة، بدأت رحلات مشوار جديد...

 

في سنة 2007، وفي خضم سباق رئاسي جرى في جو من الانفتاح، اختار الموريتانيون السيد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله كأول رئيس مدني منتخب. وعهد لهذا الأخير بمهمة العمل على إعادة الثقة مع العالم الحر. فما بين سنتي 2007 و2009، شغل منصب سفير في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا والمكسيك. وفي تلك العهدة، حصل لبلده الخارج حينها من عزلة مضنية على خلفية العنف العرقي وتحكم الجيش، عضوية فاعلة في نظام التعاون للألفية وهو أهم برامج التعاون الأمريكي تشجيعا للدول على المضي قدما نحو حكامة تعتمد الشفافية والنزاهة في التسيير. ونال النجاح المبكر الذي تحقق في ظرف قصير بفعل عمل متواصل على مختلف رافعات القوى المؤثرة في نظام الرئيس جورج بوش الابن، إعجاب الكثير من المتابعين. ومن أولئك السيد إليوت إبراهام، وهو أحد صقور حكم الرئيس بوش، الذي خاطب الدبلوماسي الشاب، على هامش أحد مؤتمرات مينيابولس حول الشرق الأوسط بهذه الكلمات: "أيها السفير، لقد نجحتم في أول اختبار لكم في مهمتكم ويمكنكم الآن فتح حقائبكم وقبول الإقامة!". ولم تكن تلك الشهادة إلا قراءة موفقة لحجم طموحات الرجل!

 

من التردد الكبير إلى الحلم المؤجل

في السادس من أغسطس 2006، بعدما استولى العسكر على السلطة بعد الإطاحة بالسيد ولد الشيخ عبد الله، وجد إبراهيما جا نفسه مرغما على تقديم استقالته في اليوم الموالي بعد مكالمة هاتفية مع سيد البلد الجديد، الجنرال ولد عبد العزيز. رغم أن الرجلين تعارفا في ردهات القصر الرمادي بنواكشوط حيث كانت طلعة قائد الحرس الرئاسي حاضرة، بثقل، في كل المشاهد، إلا أن علاقتهم ظلت مطبوعة بالاحترام. ومن تلك اللحظة، وجد الشاب المولود في سيلبابي - والذي كان يلهث خلف قطعان البقر أيام العطل الدراسية – نفسه في رحلة بحث جديدة عن الذات. فبعد أن اضطر إلى التخلي عن مشاريع التنمية للألفية الواعدة وآفاق عودة هيئة التعاون الأمريكي لمزاولة أنشطتها في بلده ثم تسليم مفاتيح السفارة لغيره، بدأ البحث له عن أفق جديد.

 

وحيدا بلا سند، شعر بحرية كبيرة بطعم الفراغ أرغمته على العودة إلى "هواياته الأولي" كالشعر الجاهلي والمسحة الرقيقة لمؤلفات المتصوفة والغوص في المعالجات الجيوسياسية لمنطقة آسيا الوسطي. كما أدمن إعادة قراءة سير بعض مشاهير بناة الدول، غائصا في ذكريات بعض الجنرالات من رموز الانتصارات التاريخية. فقرأ ثانية لتشرشل وميتران وديغول. كما استحضر مطالعة مؤلفات بعض الأدباء كأمي سيزير وألبرت كامو. كما جال في ذكريات عالم "صناع الأمراء" من جهابذة السياسة أمثال نيكولو ماكيافيلي وباثزار غراثيان.

 

وللعودة إلى عالم الخدمة من بوابة المؤسسات الدولية، طلب المساعدة من دومينيك اشتروس كان، المدير العام لصندوق النقد الدولي حينها فوضعه على اتصال بالسيدة جوزيت شيران، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للتغذية، مع توصية مؤكدة لاكتتابه، فانضم لديوان المعنية لمدة أشهر كمستشار خاص.

 

ومن خلال مسلسل اكتتاب معقد في إجراءاته، كلفه صديقه، السيد دونالد كابيروكا، رئيس البنك الإفريقي للتنمية، سنة 2011 بإنشاء وتنسيق عمل مكتب يعهد إليه بمأسسة وتطوير العلاقات بين البنك والاتحاد الإفريقي واللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة الخاصة بإفريقيا. وبصفته تلك، كان ضمن مهندسي ما يعرف بـ"أجندة 2063" للاتحاد الإفريقي وأحد واضعي تصورات ودعائم المبادرات والبرامج القارية كمنطقة التبادل الاقتصادي الحر في إفريقيا و"مناخ التنمية في إفريقيا" و"المبادرة الإفريقية لتشغيل الشباب" ومشروع «الجامعة الإفريقية". ويهدف هذا المشروع الأخير الذي كان منسقا له، إلى خلق معاهد ومؤسسات فنية عالية تكون الشباب الإفريقي في مجالات حيوية كالحكامة والعلوم والتكنولوجيا وعلوم الابتكار والفضاء والمناخ والديموغرافيا، على أن توزع على مناطق القارة الخمس لصالح الطلاب الساعين للحصول على تكوينات جيدة على مستوى السلك الثالث!

 

قابلية التأقلم

لتنويع مسيرته بلمسة من القطاع الخصوصي، اشترك مع مؤسسة هندية - صينية تتخذ من دبي مقرا لها، فوضع تحت تصرفها خبراته المتعددة ودفتر علاقاته الواسعة لدى بعض الدوائر النافذة عبر العالم.

 

ومن شيم الرجل أنه حريص على الدقة وعلى أن تكون الأمور محبوكة الضبط، خاصة في مجال آليات الإقناع والصياغة التحريرية، حيث تزعج دقته تلك العديد ممن تعاملوا معه. فالمرتحل الدائم خلال مساره المهني يزعج بالطابع الإنكشاري لشخصيته التي تعطي انطباعا خاطئا بالعجلة المتقدة، خاصة في ردهات القصور الرتيبة وفي معمان البروقراطيات العتيقة والمعقدة.

 

فخلال فترة "التمرس" على القطاع الخصوصي، شارك في العديد من المسابقات المهنية العالية، المعروفة بالانغلاق ومحدودية من يلجون لها فبلغ فيها مراحل الشفهي على مرتين. الأولي لشغل وظيفة نائب المدير العام مكلفا بإفريقيا لدى اليونيسكو، والثانية كممثل خاص مساعد للأمين العام للأمم المتحدة ولرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي مكلفا بدارفور. ولم يسعفه الحظ في كلتا الحالتين لغياب دعم سياسي، خاصة من بلده الأصل. وعلمته تلك التجارب أنه من العبث انتظار المستحيل...

 

جاعلا من مقولة نيلسون مانديلا الشهيرة: "إن الفائز حالم لا يستسلم أبدا" حكمة قد تنير الدرب، يظل إبراهيما جا مصرا على بلوغ مرامه. في خضم ذلك، استدعاه صديقه، التشادي محمد صالح النظيف، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في مالي، في أكتوبر 2017، للعمل إلى جانبه في إطار المهمة الشاقة والمعقدة في مالي وهي إقناع الأطراف بتنفيذ بنود اتفاق السلام وتنسيق التعاون بين المنظمة الدولية ومجموعة دول الساحل الخمس.

 

بيئي الميول تارة، متأرجح بين التاريخ والقانون، يزاوج ابراهيما جا بين العديد من المواهب والاهتمامات، مما يعطي عنه صورة نمطية بين كشاف للحداثة وحارس للتراث كعجوز من متقاعدي اليونيسكو دوما في تربص لمكامن وأسباب الأزمة القادمة.

 

بحكم عشقه الكبير للموسيقي التقليدية والجاز، لم ينفك إبراهيما جا يشيد بدور التعددية الثقافية وفنون الاحتفال والمناسبات في إحياء الذاكرة الجمعية وقدرتها على التحصين ضد التطرف كما يؤكد عليه في خطاباته العمومية، كما في يونيو 2018 في مؤتمر بالجزائر حول الوقاية من التطرف العنيف. حينها، قال بكل تجرد وشجاعة، ضاربا عرض الحائط بالمتعارف عليه في مثل تلك الأوساط، إن أسباب الإرهاب نابعة من التفاوت غير المستحق ومن التذمر مما يحصل ومن سوء الحكامات ومن بعض التأويلات المتزمتة للدين ومن بذر الحقد ضد الآخر والحنق على الحياة.

 

وفي كل الأحوال، يظل الرجل مسلما ملتزما حد التصوف مع الابتعاد، قدر الممكن، من الخطابات الممجوجة لتبرير العنف باسم الدين. ربما يكون لعامل إتقان خمس لغات، من ضمنها لغتان إفريقيتان، دورا في إذكاء "سخونة دائمة" تجعله يحدق بعيدا، سعيا لمزيد من الابتكار في أمل غد أفضل!