على مدار الساعة

هذا ما فهمته من خطاب رئيس الجمهورية..!!

8 سبتمبر, 2020 - 01:27
بقلم محمد الكوري ولد العربي

حين اتخذت، ورفاقي، قرار دعم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، في الانتخابات الرئاسية الماضية، لم نكن وقتها نتطلع لأكثر، في الواقع، من استعادة الشعب الموريتاني لمنظومته القيمية والخلقية، التي سلخ منهما، على أسلوب القرصنة، خلال العقود الماضية، و خاصة في ظل النظام الماضي، الذي عمل على تمييع كل شيء وتتفيه كل شيء وتحطيم كل مشترك... لدى الموريتانيين .

 

ولقد كنا مدركين أن الاستدارة عن خط التفاهة، وقد استحكم، الذي صمم ليكون نهجا متبعا في حكم السلطة والسيطرة على المجتمع، ستكون صعبة للغاية في بلد تبتلع الأمية ثلثه والفقر ثلثيه، أو أكثر ، فضلا عن ترديه في أوحال الأنساق القبلية الرثة، وتخبطه في مستنقع الشرائحية والإثنوية العنصرية؛ حتى لم يعد من المفاجئ لذي بصر أنه خلال العشرية الماضية تحولت التفاهة، مجسدة في مسلكيات وممارسات متراكمة، إلى "منطلقات نظربة" وإلى وقائع عيانية عملية للعمل السياسي تحكم كل من تعاطى معها إيجابيا ورضي بها قولا، طوعا أو كرها، فكان لها منظرون، ولها دعاة للاحتفاظ بخصائصها، كهوية مميزة ومتميزة لممارسة السلطة، ولنظام الحكم، ولقيادة المجتمع، أي إيديولوجيا متكاملة للتفاهة، ومن يخرج عن نسقها يحكمون عليه بالفسوق والخيانة!!

 

وانتظم في هذا الجوق قسم كبير من نخبة البلد، دفاعا وتبريرا.. وافتخارا وازدهاء.

 

و بعد إكمال النظام السياسي لسنة وإحرازه نجاحا نسبيا في إضفاء الأخلاق على الحياة السياسية، على الأقل، و سعيه الحثيث لتهدئة النفوس، بات الآن مشروعا لنا أن نتطلع إلى إسناد الأخلاق و تعزيزها بدعامة العقلانية في السياسة، التي هي أبرز عامل في تغيير جوهر العمل السياسي - المتعثر في بلدنا، بسبب الخصام مع العقل، - من استعراض ارتجالي مزاجي عبثي إلى أفعال رصينة وسديدة بطبيعة أهدافها ونوع وسائلها، بهدف انتشال البلد من درك التفاهة، التي كادت تقوده إلى التلاشي في جزئيات وغرائز متنافرة؛ كل منها تحمل عوامل هدم الأخرى، و هدم ذاتها بذاتها.

 

إنني أخرج من هذا التمهيد الذي رمى إلى توصيف موضوعي، عشناه واقعيا، لحالة التعقيد التي ورثها نظام الحكم الحالي، ولما ينتظره من متاعب ومصاعب، عدى كوارث الفساد المالي والاقتصادي، حين يعمل لانتقال البلد من حالة لحالة نقيضة، أي من حالة التفاهة لحالة السداد، ومن حالة الرداءة لحالة الكفاءة، دون المرور، غير الآمن، بالمطبات التي تتسبب في التوترات الاجتماعية والنفسية، على نحو ما يقوم "العاقل" لنقل المعتوه من وضعية الغضب إلى وضعية السرور!

 

هكذا حسبت الرئيس غزواني يفعل إزاء تركة نظام سلطة خارجة عن طور العقل، و تركت وراءها خزينا من "العتاهات"، على أكثر من صعيد، وفي كل مرفق من مرافق الدولة، وفي كل جيب من جيوب المجتمع!

 

وكان الناس ينقسمون، وما زالوا، بين من هو حائر في الأمر ومن هو متأول له عندما يزاوج الرئيس غزواني استخدام الأضداد وصولا، مع بعض الوقت، للقضاء على ماهية نهج الفساد والمزاجية والتفاهة...

 

وإذ يمضي، أو مضى فعلا، أزيد من سنة من مأمورية رئيس الجمهورية، فإن هذا التكتيك يكون قد أتى أكله واستنفد غرضه، وإما تبدت عيوبه ومضاره، وبات لزاما أن تقلع البلاد من أرضية الرداءة و التفاهة، حقا، إلى سمو الكفاءة في الانجاز ببناء نهج العقلانية في العمل السياسي، جنبا بجنب البناء الاقتصادي؛ حيث اقلاع أي دولة، من ظروف كظروف بلدنا، لا يتأتى دون سلامة محركي السياسة أول، والاقتصاد ثانيا، و هو ما انصب عليهما جوهر كلمة رئيس الجمهورية عن برنامج الانعاش الاقتصادي، في ما بعد عطالة فيررس كورونا. إن احترام التخصص يفرض علي أن أترك الشق الاقتصادي في خطاب السيد رئيس الجمهورية لأهله، ومع ذلك يمكن أن أجازف بالقول إنه لا بد أن أعبر للسيد الرئيس أن بوصلة الشق الاقتصادي يلفها الغموض، وهو ما يثير بعض الاضطراب في أذهان الجماهير. إن أصل هذا الغموض يعود للخشية من أن هذه المبالغ الضخمة، في خطة الانعاش، ستعود لفئة البرجوازية التي تكونت، في واقع الأنظمة الماضية، من سرقة مشاريع الدولة الموجهة لرفاه المواطنين، في غياب تام لآليات متابعة وتقويم وإنذار ورقابة شفافة... ومن هنا، رغبنا في لفت انتباهكم، السيد رئيس الجمهورية،  إلى ضرورة وضع آليات غير مطروقة و لم يسبق استخدامها من قبل أنظمة فاسدة، تطمئن هؤلاء أن استكشاف الغيب و استطلاع الحظوظ وضرب الرمل، هذه المرة، لن يكونوا من نصيب الفاسدين!!

 

أما الفقرة التي اعتبرتها ثورة في خطاب رئيس الجمهورية، فهي فقرته الأخيرة: (إن نجاح البرامج التنموية الكبرى لا يتوقف فقط على أداء الجهات والهيئات الرسمية المسؤولة عن التنفيذ الميداني؛ بل يتطلب كذلك مواكبة من المواطن بحكم كونه الغاية الأولى لهذه البرامج. ولذا، فإنه على كافة قوانا الحية من أحزاب سياسية ومنظمات غير حكومية ووسائل إعلام أن تلعب دورها كاملا في الرقابة والمتابعة والتقييم، إسهاما منها في إرساء القواعد المؤسسة لحكامة قوية وفعالة). إن هذه الفقرة الداعية، من دون غموض ولا حاجة للتأويل، إلى التشاركية بين الجهاز التنفيذي، ممثلا في الحكومة، والمجتمع، ممثلا بجميع قواه وفاعلياته، لتنم عن أن رئيس الجمهورية اهتدى لمواطن الخلل والاختلال في العمل الحكومي، وهو غياب فاعليات المجتمع عن الشراكة في الشأن العام والتفاعل مع الحكومة، الأمر الذي آل إلى نهاية مأساوية لجميع أنظمتنا السياسية السابقة. إنها دعوة تخلقت و نضجت من رصد ومتابعة دقيقة لركام التجارب البائسة للأنظمة الهالكة، جراء اتساع الفجوة بينها مع الشعب من جهة، و بين النخب الوطنية الواعية، من جهة ثانية، التي دفعتها شهوة السطوة عند الحكام إلى الاستسلام والاستقالة لإرادة القوة، أو وضع آمالها وفرص مشاركتها مع الأنظمة، على نحو سلبي، في أوعية قبلية وشرائحية، أو في حاويات حزبية موالية، خلو من كل حياة ومضمون، وإن تسمت بـ"الأذرع السياسية" للنظام، و مثالها الصارخ، الحزب الجمهوري والتجمع من أجل الديموقراطية والوحدة ، في عهد الرئيس السابق معاوية!

 

وهنا، لا بد من استثمار كاف ومسؤول لهذه الفقرة، لتكون قاعدة انطلاق في بناء مشروع سياسي مبني على رؤية صحيحة ونشاط للإرادة لعون النظام في مهمة الإصلاح والتغيير العسيرة، ولكأني أفهم من هذه الدعوة أن الرئيس يناشد القوى الحزبية المساندة له أن تؤسس الثقة في نفسها حتى تلتقط هذا المضمون الثوري للدعوة لامتصاص حيوية المجتمع ضمن هذا التوجه السليم والرؤية الصحيحة للعمل السياسي؛ إذ تعودت الأحزاب الداعمة للأنظمة، في ما مضى، على السلبية و تلقي التعليمات الصماء من النظام، حتى باتت السلبية عقيدة سياسية لديها و تقليدا جامدا في أدبياتها ؛ ففقدت بسبب ذلك كل مصداقية و أضحت مادة للتندر من الشعب ! و ها هو رئيس الجمهورية يصحح هذا التصور الخاطئ و العقيم للولاية و الدعم ، و يدعو صراحة بدلا من ذلك لإحلال رؤية صحيحة و إرادة حازمة في بناء أنظمة حزبية موالية على أرضية صلبة مستمدة من مواقف فعلية و قوة اقتراح ناتجة عن تفكير وطاقة وتنظيم وتخطيط لصالح النظام؛ لأنه يرتبط بتطلعات ومعاناة الشعب عبر هذه الأحزاب، ولأن كفاءاتها تمده بفيض من الاقتراحات و لتصورات للاستشكالات التي تتجدد أثناء التصور أو في خضم التنفيذ. إن الأحزاب الموالية للنظام يجب أن تكف عن تركة السلبية والانتظارية و"المخزنية"، وعن قاموس النفاق السياسي والخشبية، وتتسلم من رئيس الجمهورية رسالته وتوجيهه بأخذ زمام المبادرة والتحلي بروح المشاركة لعون الرئيس في ترجمة تعهداته، وإبداء المقترحات والملاحظات في تفصيل وترتيب مراحل تحقيق هذه التعهدات. إن أجدى وأنجع ما تعين به أحزاب الموالاة النظام الذي تدعمه هو أن تحتفظ لنفسها، ولصالح نظام الحكم نفسه، بهامش من الحرية والاستقلال يسمح لها بانتقاد الحكومة ومساءلتها في أخطائها التنفيذية، وفي معالجاتها القاصرة، أحيانا، فذاك ما يمكن الحكومات، في ظل هذا النظام، من التميز حين تتمكن من تخطي عجزها وعثراتها بفضل نقد وتفاعل أحزاب الموالاة الداعمة لبرنامج رئيس الجمهورية، حيث تصبح هذه الأحزاب جزءا أصيلا من نهج الإصلاح والتغيير. إن الفرق بين انتقاد ومساءلة أحزاب المولاة للحكومة وأحزاب المعارضة لها، هو أن انتقاد المعارضة انطباعي وفوري وقاس وعنيف واستعراضي وهادم للثقة في الحكومة، بينما انتقاد الموالاة هو عمل منضبط منهجي سياسي، مسؤول وملتزم و هادئ، ويحيل إلى تصحيح الأخطاء وليس لاستثمارها بالاتجاه السلبي ضد الحكومة... وأزيد أن انتقاد الذراع السياسي للسلطة يدرك حدوده ويسعى للمشاركة في المزيد من شمول النظر وسلامة المعالجة، بما يعزز ثقة الشعب بالنظام الحاكم، ويضفي عليه رداء المسؤولية، بخلاف المعارضة، التي تسعى للتشهير به وإحراجه. إن رئيس الجمهورية حين يدعو لأن تلعب الأحزاب دورها، فذلك يعني انفتاحه على القوة الاقتراحية داخلها واستعداده لمنحها حريتها، ضمن خط الموالاة،  ما يكفيها من هامش المبادرة في متابعة ورقابة وتقويم أداء الجهاز التنفيذي، الحكومة....

 

ذلكم هو ما تبدى لي من هذه الفقرة من خطاب رئيس الجمهورية .. وبدا لي أنه الإعداد الصحيح والكفيل بإنهاء المعركة مع الفساد بنجاح... وهذا هو ما فهمته كمعاني ومرامي لتلك الفقرة، فكانت بالنسبة لي رؤية تقدمية تتطلب خطا تكتيكيا واستراتيجية وخطط عمل حسب كل ظرف يطرأ ... وكل هذا لا بد فيه من فريق سياسي كفوء ونصوح ومسؤول ومهتم ومتابع، وهو ما يتنافى مع عقلية الحظائر البشرية، التي اعتمدتها الأنظمة السابقة مع التشكيلات السياسية التي كانت تدعمها، حيث افتقدت الحرية والمسؤولية، فتجمدت في "ثلاجات" السلطة لتخرج في النهاية أفرادا من الانتهازيين العدميين، و تخلق بيئة خصبة غير مسبوقة للنفاق السياسي..

 

وأملنا أن نكون قد دخلنا، في ظل نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، حقبة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاستقلال اللغوي والثقافي، وانتهى عهد الأحزاب - الحظائر والأداتية الزبونية، وأقبل عهد أحزاب الشراكة والقوة الاقتراحية في "الرقابة والمتابعة والتقويم لإرساء القواعد المؤسسية لحكامة قوية و فعالة"..

 

فلا تحرمونا من الأمل.. رجاء!!