على مدار الساعة

حول جائزة حفظ المتون الشرعية

24 سبتمبر, 2020 - 00:03
يحيى ولد البيضاوي ـ المدينة المنورة

لا يستطيع أحد أن يماري في الأداء المتميز الذي تفردت به المحظرة عدة قرون من الزمن رغم صعوبة ظروفها وخصوصية أوضاع أهلها، حيث استطاعت أن تَقْلِبَ القاعدة التي تجعل المعرفة ربيبة التمدن ورفيقة الاستقرار، ولا ريب أيضا أن المناهج التي أخذت بها المحظرة على مستوى العلوم اللغوية والشرعية كانت موفقة إلى حدٍّ كبير ، ولا تزال تلك المناهج مصدر إعجاب يثير فضول من يتتبع تاريخ هذا الصرح العلمي البدوي الرفيع، ولقد ظل أسلوب حفظ المتون أهمّ ما يميز تلك المناهج حيث استطاعت المحظرة أن تجعل من الذهنية البدوية ذاكرة مدربة تتسع لجميع المعارف، وتتمنع على عاديات الزمن وشحّ الحياة البدوية وقسوة ظروفها، فاستطاعت بذلك أن تلبّي حاجات مجتمعها المتنوعة من العلوم والمعارف السائدة في ذلك الزمان، وأوصلتهم إلى مراتب من الضبط والإتقان لم تكد تعرف لها المجتمعاتُ الإسلامية الأخرى نظيرا.

 

ولا ريب أن الجائزة التي وضعتها رئاسة الجمهورية ستعيد للذاكرة المحظرية بعض الألَق الذي فقدته تدريجيا منذ ظهور ربيبتها النظامية المعاصرة (المدرسة والجامعة)، وما يجب قوله هنا أن حفظ المتون ارتبط في تاريخنا المحظري بظروف البيئة القاسية التي ظلت تعزل مجتمعنا بعيدا عن مصادر الثقافة الإسلامية فاعتمدت المحظرةُ الحفظَ وسيلة للتغلب على ندرة الكتاب لبعد مصادره، وهذا أقصى ما تستطيع توفيره يومئذ، بيد أن الحفظ يظل جزءا من مقومات أخرى أساسية لا تستغني عنها المعرفة، كالبحث العلمي الجاد الذي هو الوسيلة الأولى لتطوير العلوم والمعارف، ولم تكن المحظرة مهيأة للتعاطي مع البحوث العلمية الجادة لعدة أسباب، منها: النظرة الشائعة إلى المعارف يومئذ، التي تقصر المعرفة الصحيحة على الرواية "فالعلم من أفواه الرجال لا من بطون الكتب"، حسب ما تؤكده المقولة الشائعة، ومنها الورع الذي طبع حياة الناس يومئذ، ومنها كذلك عدم الثقة بالنفس ثقة تجعل طالب العلم مؤهلا للنظر والاجتهاد، والموازنة بين أقوال العلماء، والانتهاء إلى رأي طريف، وإن لم يكن جديدا، ولكنه يَزيد على مُجرّد النقل، وترداد المحفوظات، أو تخير الرأي الذي هو أكثر موافقة لواقع الباحث. كما أن النجعة وما تقتضي من كثرة الترحال أعانا على ذلك، إلى حد كبير، وفرضا أن تكون المحظرة عبارة عن جهد فردي محوره الشيخ، في الوقت الذي يعتبر البحث العلمي عملا شبه مؤسسي. وإذا عَدَدْنا بعضَ التآليف خارجة عن ذلك، فإنما ذلك لأنها كانت تتم بعد مدة من النضج، تحصل عادة بعد خروج الطالب من أسوار المحضرة، وغالبا ما يكون مرد ذلك إلى الخصائص العقلية التي يؤتاها المؤلفون، فضلا عن التربية الخاصة التي يربونها، أو ما يتاح لهم من الاطلاع على الثقافات الأخرى، كما يحصل عادة في رحلات الحج والعمرة والتجارة. وهي أمور لم تتح إلا للقلة من الذين درسوا عبر مناهج المحظرة.

 

وهنا أسجل ملاحظتي على حفظ المتون الذي رصدت له هذه الجائزة، فأقول إن الفكرة التي انطلقت منها الجائزة غير مكتملة، ولم تنل حظها من الاستشارة؛ إذ كان من الأولى أن ترصد هذه الجائزة للبحث العلمي الجاد في العلوم الإسلامية عامة، فكل فكرة تقدم للمجتمع وتمول بثرواته يجب أن تكون فائدتها تعم أكبر قدر ممكن من أفراد المجتمع وغير مقتصرة على أفراد بعينهم مهما عظمت تلك الفائدة، وفي الوقت الذي تكون نتيجة الحفظ مقتصرة على الفرد مع ما يمكن أن تتعرض له من وهم ونسيان ثم اندثار مع موت الحافظ نجد أن البحث العلمي يمتد نفعُه خارج الحدود الضيقة للباحث، وغير معرض للنسيان، ولا تؤثر فيه العوارض التي تطرأ على المرء أثناء حياته؛ من وَهْمٍ ونسيان، ومن أمراض.. وهو باقٍ ما بقي الورق والمداد. والعلوم الشرعية اليوم أكثر حاجة إلى البحث العلمي الرزين منها إلى حفظ المتون لإعادة اكتشاف مناهجها، وصقل غاياتها المتجددة، وللاستفادة القصوى من إمكاناتها الهائلة التي تتجدد مع تجدد الأيام، أما المتون فلقد تكفلت الحضارة بحفظها من خلال المكتبات المنتشرة ودور الطباعة، بل لقد يَسّرت التقنيةُ ذلك وسهلت أمره بشكل كبير..

 

والمتتبع لتاريخ المعارف والعلوم يدرك بجلاء أن تطورها مرتبط بالبحث العلمي وليس بحفظ المتون ذهنيا، بل إن الباحث الجاد لا يستطيع أن يكتفي بمحفوظاته عن معالجة مصادر المعلومة بين يديه وتتبعها في مظانّها بالجزء ورقم الصفحة، وإلا لكان ذلك على حساب مصداقية بحثه وقيمته العلمية المنتظرة.

 

ولو أضيفت الميزانية المقترحة لهذه الجائزة إلى الميزانية التي رصدتها الوزارة المعنية بالشؤون الإسلامية في مجال ما أسمته بالكراسي العلمية التي تدور فكرتها في المجال ذاته، لاستطاعت أن تمول صرحا جامعيا إسلاميا معاصرا يُلبّي حاجات أبنائنا المعرفية ويساهم في تجاوز الحلقات الضيقة التي باتت أذهاننا مرتهنة لفراغها، ولا شك أن الجميع يدرك النقص الذي تعاني منه مؤسسات التعليم العالي المتخصصة في المجال الشرعي، والتي لو وفرت لها الإمكانات لكانت قادرة على أن تعطي عطاء أكبر مما تفعله الآن؛ ولاستطاعت أن تستل أحسن ما في المحظرة من مناهج دراسية وطرق تعليمية وأضافت إليها مِمّا توصلت إليه البحوث التربوية المتخصصة، لخلق صرح علمي جاد، يتمتع بمصداقية علمية عالية. وأضيف هنا أن العبرة من الاطلاع على التاريخ لا تتمثل في الوقوف عند معطياته، والارتهان لها، بل تقتضي تجاوزها ومغادرة نتائجها نحو المستجدات الأكثر تطورا، إذ الغاية الحقيقية من ذلك تتمثل في اكتشاف الأجيال الراهنة كيف كان الأجداد يكدحون في سبيل المعرفة؟ وكيف كسبوا الرهان في ذلك السبيل من خلال استغلال إمكاناتهم المتواضعة؟ ويتوفر لنا اليوم أضعافُ أضعافِ ما توفر لهم من إمكانات ووسائل لو امتلكنا الإرادة لامتلكنا عشرات الصروح العلمية الرائدة التي تنتج المعرفة وتصدرها للآفاق، ومن أجل أن يتضح الأمر أكثر نضرب المثل بالصناعة التقليدية فقد أحاطتها الدولة بعناية كبيرة وجعلتها إحدى غايات وزارة الصناعة فهل يقول أحد إنّ ذلك كله من أجل أن تظل صناعتنا الراهنة قاصرة على ذلك المستوى؟

 

وخلاصة القول إن الأفكار التي عبرت عنها رئاسة الجمهورية من خلال هذه الجائزة جميلة لكنها لم تأخذ حظها من الاستشارة والتوجيه، ومثلها في ذلك الأفكار التي عملت على تطبيقها من قبلُ وزارة الشؤون الإسلامية عبر ما أسمته بالكراسي العلمية وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على غياب التخطيط الاستراتيجي الذي يضع في الاعتبار حاجات الأمة ومتطلبات النهوض ويقارن بين إمكاناتها المادية والبشرية وطموحاتها الكبيرة نحو الرقي والتقدم، وهو أمر يقتضي استحداث هيئة تعنى بالتخطيط التعليمي والتربوي بشكل عام حتى يتم إنفاق أموال الشعب في مشاريع أكثر جدية وأبعد ما تكون عن الارتجالية..