على مدار الساعة

حديث المناهج والمتون المحظرية

18 أكتوبر, 2020 - 14:52
الحسن ولد مولاي اعل

أسعدني الاستماع إلى مداخلة النائب الشيخ الخليل النحوي، خلال ندوة سياسية تتناول الوحدة الوطنية والآفاق الجيو استراتيجية للبلاد، وقد كانت سعادتي غامرة، حقا، حين دعا الدكتور الخليل إلى إعادة النظر العلمي في مقررات المنهج العتيق للمحظرة الموريتانية وفي المتون المعتمدة فيها، ويتقدمها مختصر الشيخ خليل بن إسحاق الجندي المالكي المصري، رحمه الله، وهو من اهل القرن الثامن الهجري، الرابع عشر ميلادي؛

 

دعوة الدكتور الخليل، ذكرتني بموقف مماثل، كنت قد سجلته نهاية العشرية الأولى من الألفية، وقد حضرت، بدعوة كريمة من التجمع الثقافي الإسلامي، مؤتمرا إسلاميا جامعا في داكار، كانت التحديات التي تواجه الاسلام في القرن الجديد، من جدول اعماله؛ وذات عرض للدكتور الخليل، أظنه كان عن "ضوابط التجديد في الخطاب الديني المعاصر" وقد علقت على العرض بالقول: "إن مختصر الشيخ خليل الجندي، لم يعد يلبي الحاجة الدينية لأجيال المسلمين الحاضرة، بل إن حاجتهم ماسة، اليوم، إلى بديل، وليكن - مثلا- مختصر الشيخ خليل النحوي".

 

يومها، ضج مسرح دانيال سورانو، حيث يعقد المؤتمر، بالتصفيق ومختلف علامات القبول والرضى، فيما رد رفقاء لنا، هم من سدنة التقليد الأعمى، وحراس دين التراث، ردوا أيديهم في أفواههم، استنكارا، واشمئزازا، وهو ما يقع في كل مرة، عند محاولة لفت الانتباه إلى أن المصنفات الزمنية التاريخية القائمة على فتاوى واجتهادات وأقوال واختيارات وتأويلات لكلام بعض المتقدمين، أن كل ذلك ليس دينا، إنما هو تاريخ تعاطي المجتمعات المختلفة مع الدين، في ظل واقعها الذي يتغير ثم ينقرض ثم لا يعود.

 

ما لا يعرفه حراس التقاليد الدينية، بل لا يلتفتون إليه، هو أن الدين العابر لكل زمان ومكان، هو الدين المنزل، ولأنه لا رسالة بعد القرآن الكريم، وهو وعاء الدين الذي لا يقبل الله من أحد غيره، فقد تكفل الله بحفظه ليتاح للمجتمعات البشرية، في أطوارها وأوضاعها المختلفة، وبمعارفها وما يفتح الله لها من رحمة، تنزيله بم يصلح معاشها ومعادها.. أما تراث الأجيال المتعاقبة، وفهومها المتعارضة المتناقضة، وحلولها لنوازلها ومصائبها، فكل ذلك لا يصلح دينا، وإنما هو فصول من تاريخ التعاطي مع الدين، عبر الحاجات والأوضاع والأحوال المنقرضة.

 

الشيخ خليل بن إسحاق الجندي المالكي المصري، فقيه بارز من رواق المالكية في الأزهر، أيام المماليك، حيث عاش في القرن الثامن الهجري، والرابع عشر الميلادي؛ مختصره فريد في بابه، عديم النظير، في جنسه، جاء تلخيصا بديعا لفهوم وتأويلات واختلافات وترجيحات واستظهارات وأقوال عدد ممن سبقه من علماء مذهبه المالكي؛ وكان ذلك في ذروة التنافر المذهبي والتقليد الأعمى، وتحول كل مذهب إلى شبه دين مستقل بذاته، وخيم التقليد على العالم بأمر السلاطين الجهلة، حيث توقفت حركة العقول والأفكار والاجتهاد والابداع؛ فكم جرى من المياه تحت جسور العالم بعده؟

 

صحيح أنه لا يحق لأي كان، تحت ضغط أي ظرف أو حاجة، أن يطالب، أو يبادر من تلقاء نفسه، بتنقية أو تصويب أي مصنف من سجلات التراث الديني للأمة، سواء كان فقها أو عقيدة أو تصوفا، أو غير ذلك؛ لكن من حق العلماء والخبراء وأولي الامر في الناس، وربما من واجبهم، رص الكتب والمصنفات التي قننت لبيئات ومجتمعات وأوضاع وأحوال، دار عليها الزمن، فانتهت الأعمار الافتراضية لها، بانقراض البيئات والضرورات والحاجات، من حقهم، بل من واجبهم، رص تلك الكتب على الرفوف، معززة مكرمة، لكن مع الوقف الصارم للعمل بها، في بيئات تناقض مقتضياتها.

 

ذلك أن مصنفات جبل التراث الأشم، على ما يحيطها من هالة واحترام واعتبار وتكريم، ليست دينا منزلا {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،} بل تظل في أحسن حالاتها، تسجيلا لزوايا وجوانب من التعاطي التاريخي لمجتمع المسلمين، مع الدين، وخلال طور محدد من أطواره، وضمن حيز جغرافي زماني ومكاني خاص، وفي بيئة سياسية وأمنية معينة، وضمن الحالة الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وفي دائرة المعرفة والعلم والوعي المتاحة، وخضوعا للمتطلبات الواقعية للعيش...!!؛