على مدار الساعة

ذكريات مع ولد ابريد الليل

16 يناير, 2021 - 15:47
سيدي ولد دومان ـ سياسي

رحم الله الأستاذ الفاضل والمفكر الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل،ىلقد كان رحمه الله رجلا فذا بكل المقاييس وعبقرية لا تتكرر في كل العصور.

 

كنت أسمع عنه كثيرا وأنا تلميذ في الإعدادية والثانوية ثم بدأت أكتشفه وأتعرف عليه من خلال كتاباته التي كنت أقرؤها بنهم لجودة أسلوبها وسلاسة لغتها وعمق أفكارها واستقرائها للتاريخ وصدق تنبؤاتها. 

 

حتى اتيحت لي فرصة التعرف عليه عن قرب والاحتكاك به، كان ذلك خلال الحملة الرئاسية لسنة 1997 حين عين الرئيس معاوية، حفظه الله، ضمن لجان حملته لجنة للتعبئة والتحسيس كان المرحوم محمد يحظيه رئيسا لها وكنت نائبه. وخلال اجتماعاتنا الأولى، اكتشف كل منا الآخر ونشأت بيننا علاقة من نوع خاص، مبنية على  الاحترام المتبادل وتثمين المواهب والتقدير والإعجاب. كان بالنسبة لي "اكتشاف الموسم" تعلمت منه كثيرا وتقاسمت معه كل شيء، كنا نتفق في الطرح والتحليل وقد أعجبت به حد الاقتداء. وبعد أسبوع من الاجتماعات ووضع الخطط والبرامج، قال لي أريدك أن تشرف على هذه اللجنة وتتولى  كل أمورها ولا تراجعني إلا حيث ترى ذلك ضروريا.

 

كان رحمه الله رحمة واسعة، يقول لي دائما إن ما يعجبني في ترجمتك،(كنت أتولى ترجمة بعض كتاباته) هو أنك تكتب النص وكأني من كتبه بالعربية. تأتي بمضمونه وروحه. أعتقد أن ذلك بسبب تمكنك من اللغتين وموهبتك في الكتابة فأقول له إنك تبالغ أستاذي العزيز فالحقيقه أن قراءة وترجمة ما تكتبه متعة لا يضاهيها شيء، وجمال الترجمة من جمال اللغة المترجم منها. 

 

قال لي يوما وقد ذكرت له ما لاقيت من صعوبة خلال ترجمتي لأحد مقالاته، كنت أعرف أنك الوحيد القادر على ترجمة هذا المقال لأنه مقال أدبي أكثر منه سياسي.

 

إن الكتابة عن ظاهرة مثل ظاهرة محمد يحظيه وعن قامة بحجمه، تحتاج تأليف مجلدات لن تستوفيه حقه أو تحيط بمناقبه مهما كان حجمها وعددها. وإن كان في العمر بقية، سوف أساهم، إن شاءالله، بجهدي المتواضع في ذلك العمل الوطني الضروري. وقد أعددت لذلك خلال لقاءاتي الخاصة مع المرحوم، فأنا كنت أدرك في حياته، انه شخص غير عادي.

 

أما في هذه العجالة التأبينية فسأذكر بعض المناقب التي اطلعت عليها بنفسي وأعتقد أنها غير معروفة عند العامة:

 

 1 ـ سعة الاطلاع: كان رحمة الله عليه ذا معرفة موسوعية؛ كان أديبا لبيبا ومؤرخا وفيلسوفا وصحافيا وسياسيا من طينة نادرة، لا أتذكر أني زرته إلا وجدته يقرأ كتابا ويستمع إلى إذاعة دولية. ورغم أنه كان لا يخرج من بيته العامر إلا نادرا ولا يزور إلا بيوتات معدودة، كان دائما على اطلاع تام بجميع المستجدات ويحللها بعمق ويوضح أسبابها.

 

وكنت أقول في نفسي من أين له هذه المعلومات التي قل من يعرفها؟ إنه من أهل "الكشف"…

 

2 ـ الفائقة على التحليل المنطقي والاستشراف إلى 

حد " الولاية " أو " الكشف " بلغتنا نحن أهل الصوفية...ولا عجب، فقديما قيل " كاد العقل ان يكون وحيا".

 

حدثني مرة عن حدثين لا يعرف لهما تفسيرا وقلت له إن هذا هو بالضبط ما نسميه " الكشف"،  كان الأول في أواخر شهر أغسطس( آب ) 1969 كان رحمه الله في سفر مع رفقة له إلى أطار وفي الطريق توقفوا للاستراحة واستظلوا بظل شجرة ليس ممدودا وبعد صلاة الظهر وخلال غفوة قصيرة ،خيل إليه أنه سمع من إذاعة BBC أن انقلابا وقع في ليبيا، نفذه ضباط أحرار وأنهى الملكية. 

 

فاستيقظ وسأل من كانوا معه، فاجابوا أنهم لم يسمعوا شيئا من ذلك. وبعد أيام، قامت ثورة الفاتح وأذيع الخبر كما سمعه تماما. والثاني انه رأى نفسه في مسيرة كبيرة ويحيط به شخصان معروفان لم يكن يتصور أنه يمكن أن يسير معهما في اتجاه واحد- لأسباب لا أريد ذكرها- وبعد فترة نفذ انقلاب 1978 ونظمت مسيرة تأييد كبيرة كان المرحوم يتوسطها وهو محاط بذات الشخصين..

   

3 ـ  الدقيقة بالمجتمع وتاريخه وثقافته والعلاقة الخاصة مع الأدباء وكبار الفنانين وذوي الرحم والضعفاء.

 

لقد اكتشفت أنه ،رحمه الله، كان خبيرا بالموسيقي التقليدية (أزوان) وكانت تربطه علاقات خاصة بكبار الفنانين أمثال الوالد سيداتي ولد آبه والمختار ولد الميداح ومحمد ولد بوبه جدو تغمدهم الله برحمته وسيد أحمد ولد أحمد زيدان أطال الله في عمره وغيرهم كثير. 

 

كما اكتشفت أنه يخصص يوما من الاسبوع لزيارة الأقارب والأرحام ويواسي الضعفاء بطريقة تخفي يمينه ما جادت به عن شماله. رحمه الله رحمة واسعة وجعل ذلك في ميزان حسناته.

 

4 ـ الوفاء الذي لا تشوبه شائبة للأهل والأصدقاء والرفاق 

أتذكر أنني سنة 1998 وخلال مراسيم دفن المغفور له باذن الله، أخي الأكبر وأستاذي وقدوتي في الادارة والتسيير، أحمد ولد الزين، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، رأيت المرحوم محمد يحظيه يبكي بحرقة ملفتة… وبعد سنوات سألته عن سر ذلك المشهد الذي لا زال محفورا في ذاكرتي، فقال لي، رحمه الله، وهو يغالب دموعه: أحمد هو أقدم صديق عندي Il était mon plus vieil ami فعندما كنت في السنة السادسة من السلك الابتدائي في مدرسة أكجوجت، التزم لي الأهل بجائزة مميزة إذا انا نجحت في مسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية. وهي أن اقضي فترة" القيطنه " في أطار وهناك كان لقائي الأول مع أحمد الذي نجح في السنة نفسها وكان يقضي العطلة الصيفية مع والدته. فكنا لا نفترق. وعند افتتاح المدارس، كانت الحافلة الحكومية التي تنقل تلاميذ أطار تمر بأكجوجت لتنقل تلاميذه في طريقها إلى لقوارب ولما ركبت وجدت أحمد بين التلاميذ مع آخرين أذكر منهم الرئيس معاوية الذي كان يومها في السنة الثانية أو الثالثة من الإعدادية. ومن ذلك التاريخ، ظلت علاقتي بأحمد ولد الزين كما هي، صداقة حقيقية مبنية على الصدق والوفاء والاخلاص حتى توفي، رحمة الله عليه.

 

رحم الله الأستاذ الفاضل والمفكر الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل وأسكنه فسيح جناته  لقد ترك فراغا لا يسد واحترقت بموته مكتبة غنية لا يمكن تعويضها. فلله ما أخذ وله ما بقي، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

  

نواكشوط   15 يناير( كانون الثاني ) 2021