على مدار الساعة

التنمية الذاتية للبلد: الحلقات المفقودة

17 يناير, 2021 - 12:26
موسى حرمة الله - أستاذ جامعي حائز على جائزة شنقيط

لا يمكن للبناء المستديم أن يقوم بدون أساس. وتنطبق هذه الحقيقة البدَهية على استدامة الدولة ومؤسساتها.

 

إن الشعب هو السند الذي ينبني عليه صرح الوطن. وفي مقابل ذلك ينتظر الشعب من حكّامه تلبية بعض الحاجات الأساسية ألا وهي: توفير القوت، والصحة، والسكن، والتعليم، والأمن، إلخ... تلك باختصار هي مقومات العقد الاجتماعي وركائزه. وهي كذلك شرط لا غنى عنه لقيام أي مجتمع يطمح إلى الانسجام والتلاحم.

 

ومفتاح هذا الازدهار المرغوب يتمثل في تحقيق التنمية بكافة أبعادها، وهو مطلب لا يسوغ فيه حرق المراحل، وإنما يتسنى إنجازه تدريجيا وفق خطوات مدروسة. ويستدعي ذلك توفر شروط مسبقة سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. والحال أن العديد من البلدان النامية مولعة بالتسرّع متجاوزة بذلك التسلسل الطبيعي للأمور، ومن ثم حرق المراحل. فبدلا من العمل على إيجاد الحد الأدنى من المتطلبات الأساسية للسكان تندفع هذه البلدان في مشاريع باهظة التكاليف ونادرا ما تفضي إلى النتائج المتوخاة منها. وغالبا ما تتردّى في مهاوي البيروقراطية والفساد وتبديد الموارد سُدى. وبمقدورنا أن نسوق على سبيل المثال نماذج من ذلك في قطاعات الصيد، والزراعة، والمعادن، والبنى التحتية ...

 

وهذه البرامج ضرورية بالتأكيد لكنها ليست ذات أولوية وتستأثر بالقسط الأوفر من إيرادات الدولة أو تضطرها للاقتراض مع ما يترتب على ذلك من ارتهان للسيادة جراء ربْقة الدين وتبعاته.

 

التنمية: مقاربة غير عقلانية

إن هذه المقاربة التي أقل ما توصف به أنها غير عقلانية تعتبر من أبرز نقاط الضعف في اقتصاديات البلدان النامية. فعلى الرغم من أهمية بعض المشاريع والبرامج القطاعية فإنها تبدو فاقدة للأساس الصلب وتلوح كبرق خُلّب لا ينزل منه مطر يروي الأرض العطشى. ويظل الناس يتطلعون إلى الأفق فلا يجدون الغيث الموعود. وتتوالى العقود وتتعاقب الأنظمة السياسية والوضع يراوح مكانه في انتظار فرج لا يأتي.

 

والواقع أن تلك البرامج إذا ما قُدّر لها أن ترى النور لا يستفيد منها في أحسن الأحوال سوى ثلة قليلة وتبقى الجماهير الغفيرة محرومة تكابد مآسي الفاقة والعوز والجهل والمرض. والأدْهى من ذلك أن بعض البرامج قد يؤول إلى تأجيج الصراعات الاجتماعية وتنجم عنه انعكاسات وخيمة على الوحدة الوطنية.

 

وعِوَض التصدّي للحالات الاستعجالية بالاستخدام العقلاني للوسائل المتاحة في التخفيف من معاناة المواطنين، يتم إطلاق برامج استثمارية مكلفة وذات مردودية مشكوك فيها.

 

وكثيرا ما يجري التقليد الأعمى لنماذج مطبقة في المجتمعات الغربية. والحق أن المقارنة غير واردة بين ظروف متباينة. والاختلاف هنا ليس فقط اختلافا في الدرجة وإنما اختلاف في النوع. ولتقريب ذلك إلى الأذهان فلنتصور من يحاول دخول الجامعة دون المرور بأطوار التعليمين الابتدائي والثانوي.

 

وأغلب بلدان العالم الثالث لا تستوعب المعطيات الأساسية المتمثلة في أن التنمية تتدرّج على مراحل لا تتأتّى إلا بتحقيق الشروط المسبقة سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. ذلك أن من العبث نقل تجارب بلدان متقدمة تختلف سياقاتها وظروفها عن الواقع المحلي. ولا أدل على ذلك من أن المدخل الأوّلي لأي تنمية يبدأ بتوفير أساسيات مثل الماء الشروب، والكهرباء المنزلية، ووسائل العيش، والصحة، والتعليم، والسكن، والأمن... وسنرى لاحقا كيف يؤثر ذلك في تحقيق التنمية.

 

وستنعكس هذه المشاريع المُهَيْكِلة بجلاء على تحسين حياة المواطنين وعلى توطيد دعائم الوحدة الوطنية على خلفية السلم الاجتماعي والمدني.

 

هياكل تستجيب للحاجات الحيوية للسكان

لتحقيق الغرض الآنف الذكر ينبغي إحداث البنى الملائمة للتغيير العميق لواقع السكان. فما المقصود بذلك؟

 

يجدر أن تُسند هذه المشاريع، تحت إمرة الرئيس، إلى وزراء يتم انتقاؤهم بعناية من بين التكنوقراطيين ذوي الكفاءة، بحيث يتفرّغون للمهمة وفق هدف واضح وجدول زمني محدد يبيّن مراحل الإنجاز على النحو التالي:

1. إنشاء قطاع شمولي على شكل وزارة دولة مكلفة باجتثاث الفقر والقضاء عليه. ولإعطاء أكبر صدى لهذا القطاع والتأكيد على أهميته لدى الرئيس، ينبغي أن يحتل القائم على القطاع الرتبة الثانية في الحكومة بحيث يأتي على الصعيد البروتوكولي مباشرة بعد الوزير الأول. وسيضم القطاع الجديد مفوضية الأمن الغذائي، ومندوبية "تآزر"، والوكالات والإدارات المكلفة بالدمج الاجتماعي أو مساعدة المعوزين. كما سيتولى هذا القطاع بناء المساكن الاجتماعية، وتقديم الإسعافات للمنكوبين والمحتاجين، وتوفير منح دراسية لأطفال الأسر المعدمة، إلخ...

 

وستكون هذه الوزارة تقريبا على غرار القطاع الذي أنشئ غداة الاستقلال للإشراف على الطريق الرابط بين العاصمة نواكشوط ومدينة النعمة. وكانت التسمية الرسمية لهذا القطاع حينها "وزارة الطريق". وفضلا عن الموارد المخصصة بالفعل لمفوضية الأمن الغذائي، ومندوبية تآزر، ووكالات الدمج الاجتماعي، ستستفيد هذه الوزارة من محاصيل الزكاة كما بيّنتُها في دراسة رفعتُها إلى الرئيس في الثامن من أغسطس سنة 2019. وقد تبنّى النظام الحالي فكرة القيام بمرْكزة الزكاة في موريتانيا. وتم إدراجها رسميا في برامج الحكومة. وهذه الدراسة منشورة في صحيفة "القلم".

 

وعلى المستوى النفسي، سيُثلج هذا المشروع صدور العديد من المواطنين المستائين ويولّد لديهم بلا ريْب أملا، أصبح حقيقيا، بأن ظروفهم المعيشية ستتحسن على العكس من الوعود العُرْقوبية القديمة. وسيتحقق ذلك إذا سارت الأمور على ما يُرام. فالقضية مجرد مسألة وقت.

 

وعلاوة على ذلك، ستجد الدولة في هذه العملية ترويجا وتلميعا لصورتها، مما سيخفف من وطأة التوتر العرقي، ويخفض حدة القلق الناجم عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي خلفته الأنظمة السابقة.

 

ولن يعود تعبير "مكافحة الفقر" ذلك المفهوم الضبابي المجرد الذي طالما تردد على الألسن دون حقيقة ملموسة، إذ سيتجسد في هذا المشروع على صعيد الواقع ويأخذ شكل وزارة للدولة لها حضورها في مجلس الوزراء كل أسبوع على يسار رئيس الجمهورية.

 

وبموازاة وزارة الدولة المكلفة بالقضاء على الفقر، يمكن التفكير في إنشاء كتابات دولة منتدبة لديها أو وزارات تابعا لها على أن يُسند لكل منها تسيير قطاع إستراتيجي يلبّي الحاجات الأساسية للسكان: الماء، الكهرباء، وسائل العيش، التعليم، الصحة، السكن الاجتماعي، الأمن..

 

وتجنّبا للتطويل، سنورد بأسلوب مختصر كلمة عن كل من هذه القطاعات. وقد نعود في المستقبل إلى دراسة قطاعية مستفيضة تعالج بصورة أعمق المواضيع المثارة هنا.

 

2. إنشاء وزارة منتدبة لدى الوزير الأول مكلفة بالملفات السياسية والاجتماعية الحساسة والتي ما تزال عالقة. وهذا شرط لا غنى عنه لأي تنمية في ظل الاستقرار والوئام الوطني.

 

3. إنشاء كتابة دولة منتدبة لدى الوزير الأول مكلفة بتزويد جميع المساكن بالماء الشروب. وستتضمن هيكلة هذه الكتابة الشركة الوطنية للماء وغيرها من الإدارات ذات الصلة التي سيتم إحداثها: مديرية البحث والتخطيط، مديرية اللوجستيك والعمليات، إلخ..

 

4. إنشاء كتابة دولة منتدبة لدى الوزير الأول مكلفة بتزويد جميع المساكن بالكهرباء المنزلية. وستتضمن هيكلة هذه الكتابة الشركة الموريتانية للكهرباء وغيرها من الإدارات ذات الصلة بالكهرباء المنزلية.

 

5. إنشاء كتابة دولة منتدبة لدى وزير الاقتصاد مكلفة بالتموين وضبط ومراقبة أسعار المواد الغذائية الأساسية وأعلاف الحيوان. ويتعلق الأمر هنا بمطلب ملح تعبر عنه الأوساط الشعبية على وجه الخصوص. ويلزم تأطير الأسعار للمحافظة على القدرة الشرائية وتخفيف تكاليف المعيشة. ذلك أن الإسعافات المقدمة من حين لآخر لفائدة المعوزين – وهم الغالبية الساحقة من السكان – على شكل مبالغ مالية أو مواد غذائية ليس لها إلا مفعول مؤقت، بينما تتميّز المقاربة الهيكلية، حتى ولو كانت محدودة، بتسوية المشكل على نحو أعمق في الأمد المنظور.

 

6. إنشاء كتابة دولة منتدبة لدى وزير الصحة مكلفة حصْرا بإنجاز بنى تحتية جاهزة للاستعمال: بناء وتجهيز مستشفيات ومستوصفات في عواصم الولايات والمقطعات.

 

7. إنشاء كتابة دولة منتدبة لدى وزير التجهيز مكلفة بإنجاز وصيانة البنى التحتية الطرقية ... دون أن نُغفل ضرورة الإصلاح الجذري للمنظومة التعليمية وبالأخص المرحلة الابتدائية بالتركيز على المهارات الأساسية: القراءة، والكتابة، والحساب.

 

وينبغي كذلك التفكير في مدى ملاءمة إنشاء هيئة وطنية للاستغلال الزراعي الأمثل في ضفة النهر بالاستعانة بدعم فني ومالي من جمهورية الصين.

 

الاستغلال الزراعي الأمثل في ضفة النهر بالاستعانة بدعم فني ومالي من الصين

يبلغ سكان إمبراطورية الوسط زهاء مليار ونصف المليار نسمة، وعليها أن توفر الغذاء لكل هذه الأفواه. وهذا أمر في غاية الصعوبة لا سيما وأن الصين لا تمثل الأراضي الصالحة للزراعة إلا حوالي 7% من مساحتها. وفضلا عن ذلك، ليست التربة فيها عالية الجودة.

 

ولتفادي هذه الخصاصة الحادة في المواد الغذائية، اعتمدت الصين كأولوية وطنية خيار اقتناء واستغلال الأراضي الزراعية في الخارج. ويمتلك الصينيون إلى حد الآن عشرة (10) ملايين هكتار من الأراضي المزروعة خارج حدود دولتهم، في أوربا، وأمريكا الشمالية والجنوبية، وفي آسيا وإفريقيا.

 

ولو قُيّض للشراكة الزراعية مع الصين أن تتحقق لأحدثت طفرة عميقة في الاقتصاد الموريتاني. ذلك أن هذه العملية ستترتب عليها نتيجة حاسمة هي الاكتفاء الذاتي للبلد غذائيا. فعمليا، يصدر الصينيون إلى بلدهم أغلب ما ينتجونه على الأراضي الخارجية. ومع ذلك يبيعون جزءا من هذا الإنتاج للبلد المضيف.

 

وهكذا ستوفر موريتانيا مبالغ من العملة الصعبة كانت تذهب لتوريد مواد أساسية يحتاجها تموين السوق المحلية كالحبوب، والدقيق، والسكر، والفواكه، والخضراوات.

 

ولا ننسى البنى التحتية التي سيقيمها الصينيون دون شك في مدن سيلبابي، وكيهيدي، وبوغي، وروصو، وانجاكو؛ بالإضافة إلى مئات بل آلاف من فرص الشغل المباشرة وغير المباشرة. وقد أعددتُ بهذا الصدد دراسة مفصلة تمت إحالتها إلى الرئيس بتاريخ 17 أغسطس 2019. وحملت هذه الدراسة عنوان "من الأرض الموريتانية إلى المائدة الصينية" وتم نشرها لاحقا في صحيفة القلم.

 

وبالنظر إلى المقدرات الزراعية الموريتانية وإلى علاقات الصداقة الوطيدة التي تربطها ببكين، فإن من المنطقي أن تكون موريتانيا في قلب الانفتاح التجاري لإمبراطورية الوسط نحو إفريقيا. وبالفعل، كانت موريتانيا من أوائل الدول التي اعترفت بالجمهورية الشعبية الصينية في مطلع الستينات. وردا للجميل، أنجزت الصين العديد من البنى التحتية في موريتانيا كميناء الصداقة.

 

وللوهلة الأولى قد يبدو هذا التعاون الزراعي مع إمبراطورية الوسط مشوبا بالتفاؤل المفرط. لكن ذلك مجرد شعور لا يصمد أمام التمحيص. فمشروع من هذا النوع مؤكد النتيجة متى جرى تسييره بشكل سليم. والمعروف أن منطق السوق يقوم على قانون العرض والطلب. وهما متوفران في هذا المشروع. والباقي مرهون بالقيّمين على المشرع.

 

تحسين الظروف المعيشية للمواطنين: الحذر من خلف الوعد

سيكون لتنفيذ الورشات المنوّه بها أعلاه وقع هائل على الرأي العام من الوجهة النفسية والسياسية. وسيعلم الموريتانيون حينئذ أن عهد الوعود الكاذبة قد ولّى إلى غير رجعة وأن تحسّن أوضاعهم المعيشية لم يعد سوى مسألة وقت. وسيزداد اطمئنانهم حينما يشاركون في مراقبة إنجاز هذه المشاريع بحصافة ويقظة. وسيتمكنون من رصد مدى تقدمها بمعرفتهم المسبقة لآجال تنفيذها. وهكذا سيواكبون السلطات العمومية في متابعة المشاريع بكل شفافية بضمان رسمي من رئيس الجمهورية. وسيتم إعلان لوحة القيادة بوضوح مما سيؤدي على الأرجح إلى توقف الاحتجاجات والتظلمات الموجهة إلى النظام الحاكم بخصوص تدهور الحالة المعيشية للمواطنين ما داموا قد أصبحوا شركاء في تدبير الشأن العام. فبالإشراك الضمني للشعب يصير الحكم جماعيا. وتنتقل الممارسة إلى الحيّز الواقعي الملموس. وبذلك يغدو الإنجاز قابلا للقياس كمًّا وكيفا بلغة الأرقام.

 

ومن شأن ذلك أن يحدث واقعا جديدا، ألا وهو: إرساء الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكومين سبيلا إلى تحقيق المصلحة العليا للبلاد.