على مدار الساعة

قوة المقاطعة وميكانيزما السوق

27 يناير, 2021 - 19:06
باب أحمد محمد القصري

أكملت حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية شهرها الثالث دون أن تفقد ألقها الإعلامي، وكان لافتا ومعبرا تصدر الوسم لمواقع التواصل طيلة هذه الفترة، مما يعتبر بحق سابقة – بل معجزة - في عالم الإعلام الجديد، ولا غرابة في الأمر إذا ما استصحبنا نبل الأهدف وسمو الغايات، ففي سبيل الانتصار لعرض النبي صلى الله عليه وسلم تهون كل التضحيات،  و(إِنما يجد المشقة في ‌ترك ‌المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، فأما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إِلا في أول وهلة، ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة) كما يقول ابن القيم .

 

وقد يغيب عن البعض أن جهودا هائلة بذلت لإفشال هذه الحملة المباركة اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا، حيث سارعت بعض الحكومات الوظيفية في عالمنا الإسلامي لإنقاذ ماكرون، ولحسن الحظ فإنها لم تكن في وضع يسمح لها بالكثير، لما تعانيه من آثار أزمة كورونا، كما قادت وكالات أنباء ووسائط إعلام كثيرة حملة تشكيك في جدوى المقاطعة، ومَدتها مراكز الأبحاث والمؤسسات الأكاديمية بدراسات وتقارير موجهة ومزورة.

 

إن التشكيك في جدوى المقاطعة دعاني لتقديم وجهة نظر اقتصادية، آثرت فيها استخدام "قوة المقاطعة" استرشادا بالآية الكريمة: (وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)، بهدف تجلية أثر هذه الحملة، ولفضح نفاق العدو الداخلي (وآخرين من دونهم).

 

 أما قبل: فنقدم بين يدي المقال موقفين مهمين أحدهما تأصيلي والآخر تأريخي:

ففي الجانب التأصيلي يكفي دليلا لمشروعية وبيان أثر المقاطعة ما رواه البخاري في الصحيح من حديث قصة إسلام رائد المقاطعة الاقتصادية سيد نجد ثمامة بن أثال رضي الله عنه، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم استراتيجيته الاقتصادية في مواجهة قريش: (والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم)، فقد كانت اليمامة منطقة زراعية تصدر الحنطة إلى مكة، فانظر إلى هذا الانتصار للنبي صلى الله عليه والسلام، والشعور بالاستعلاء، وتوظيف أوراق القوة، مع أنه لم يمض على إسلام الرجل غير ساعات، لكنه لم يك بارداً مستكينا سلبيا كحال كثير من المسلمين اليوم.

 

وبمنطق التاريخ: ليس غريبا على أهل هذه الأرض الطيبة الانتصار للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، فقد سطروا أعظم التجارب في المقاطعة العلمية والثقافية للمستعمر الفرنسي، وكان وعيهم بها مبكرا جدا، مما حفظ على الأمة دينها ولسانها، ثم إن سلاح المقاطعة معروف عبر تاريخ الأمم، وكان له دور فاعل في أحداثها المفصلية.

 

عن ميكانيزما السوق

 

لإدراك أثر قوة المقاطعة يحسن أولا أن نفهم آلية عمل الاقتصاد الفرنسي والعوامل الرئيسة المؤثرة فيه:

إن الأسواق الاقتصادية المختلطة التي تتكامل فيها جهود القطاعين العام والخاص – والسوق الفرنسي أحدها – تعمل وفق آلية أو ميكانيزما محددة، يتمتع فيها الأفراد والشركات بحرية المبادرة وتبادل السلع والخدمات دون عوائق، لخلق التوازن بين العرض والطلب، بينما تتدخل الدولة بالتنظيم والتنسيق وضبط الإيقاع وسد الخلل، وعليه فإن كل متغير يطرأ على النظام الاقتصادي سيؤثر دون شك على حركته وسيره، وسينعكس على المستويين: الجزئي والكلي، فقوة المقاطعة إذن متغير أو مدخل جديد ينعكس بالضرورة على النظام ومخرجاته، وإذا أردنا أن نمثل لأثر قوة المقاطعة على الاقتصاد فلنتصور حادث تصادم سيارة أو طائرة مع جسم غريب، حيث تتناسب الأضرار طردا مع القوة والسرعة.

 

عوامل أخرى كثيرة تعمق من أثر المقاطعة اقتصاديا وسياسيا:

1 ـ انطلاقا من نظرية وفورات الحجم، أو اقتصاديات الحجم الكبير  فإن قوة المقاطعة مؤلمة جدا خاصة للشركات الكبرى العابرة للقارات (تحوي قائمة فورتشن غلوبال للشركات الــ500 الكبرى من حيث الإيرادات السنوية:  31 شركة فرنسية لسنة 2018)، إذ ستفقد هذه الكيانات مزايا التكلفة وقوة التنافسية، والتسهيلات الائتمانية، ولنفترض أن منتجا استهلاكيا بدولار واحد تباع منه في عالمنا الإسلامي 50 مليون وحدة، وقد أدت المقاطعة إلى تراجع المبيعات بعشرة ملايين فقط، وهو ما يعني انخفاضا بنسبة 20%، مما سينعكس على جميع جوانب النشاط ويؤثر في جميع المؤشرات والنسب، وقديما قال بهاء الدين ابن النحاس:

اليــــــوم شيء و غدا مثله *** مــــــن نُخب العلم التي تُلتقط

يحصّل المرء بها حكمة  *** و إنما السّيل اجتماع النقط.

2 ـ ترى بعض التحليلات أن الأنظمة الغربية ديمقراطية وأن الحكم فيها للشعب، لذا فإن المقاطعة حين تؤثر على الأوضاع الإقيصادية ستدفع الشعب إلى معاقبة السياسيين في أول انتخابات، والواقع أن الدول الغربية تحكمها أيضا "الكوربوقراطية" أو "النظام الاقتصادي السياسي الذي تسيطر عليه الشركات وأصحاب الأعمال"، وعليه فإن سلطة رأس المال أبلغ مما نتصور، لتأثيره المباشر على القرارات والتشريعات، مما يزيد من أهمية وقوة المقاطعة.

3 ـ الظرفية الحساسية التي يعيشها الاقتصاد العالمي - الذي يعاني تباطؤا منذ 2017، ثم ركودا عميقا بفعل أزمة كورونا -  تجعل من حملة المقاطعة "صفعة" بل "ضربة قاضية" توجه لفرنسا في التوقيت الحرج، ولأن دم الاقتصاد تفرق بين هذه الأزمات فقد وجدها نظام ماكرون فرصة  للتغطية والمراوغة،  فنسب كل الانهيارات والإخفاقات لأزمة كورنا وما تخللها من تقييد وإغلاق.

4 ـ حملة المقاطعة موجهة بشكل رئيس لمنتجات الاستهلاك اليومي خاصة الغذائية، وهذه من السلع الحساسة ذات الصلاحية المحدودة، والتي تتوفر لها بدائل كثيرة غالبا، كما أنها للمستهلك النهائي الذي هو صاحب خيار المقاطعة، لأنه قرار ذاتي حر.

5 ـ افريقيا الفرنسية – ومنها بلادنا -  سوق تقليدية للمنتج الفرنسي، مما يجعل المقاطعة فيها عميقة الأثر ذات دلالات رمزية خاصة (توجد في المغرب وحدها قرابة 1000 فرع لشركات فرنسية)، ومن حسن الحظ أن دول المنطقة التي تنشط فيها المقاطعة تعتبر وجهة مهمة للصادرات الفرنسية ( تركيا في المرتبة الأولى بنسبة 6.7% من إجمالي الصادرات، بعدها الجزائر والمغرب ثم تونس).

وحتى لا نذهب بعيدا يكفي أن نستنطق عناوين نشرات الأخبار ومؤشرات الاقتصاد لندرك تأثير حملة المقاطعة، ولولا خشية الإطالة لاستعرضنا جانبا من التقاير الاقتصادية الدولية والفرنسية التي تعكس عمق الأزمة.

وأخيرا .. المقاطعة مستمرة ولا شيء يجعلها تتراجع!.. وستحقق للأمة مزيا وعوائد كثيرة معنوية ومادية، منها:

1 ـ التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم وزرع حبه في الجيل.

2 ـ تعميق الوعي بالذات الحضارية للأمة.

3 ـ فرض احترام الأمة ومقدساتها على العالم.

4 ـ التخلص من التبعية الاقتصادية.

5 ـ ترشيد عادة الاستهلاك المفرط لدى شعوبنا.

6 ـ تشجيع ودعم المنتج المحلي والإسلامي .

7 ـ الوعي بضرورة الاكتفاء الذاتي، واكتشاف الإمكانات والموارد الكامنة.

ولاستكمال أهداف الحملة المباركة نقترح ما يلي:

1 ـ الحرص على التخصص والتكامل وتوزع الأدوار، خاصة في مجال: التصاميم – صناعة المحتوى – حملات التحسيس الميدانية (الاستهداف المباشر للمستهلكين والموزعين) – توزيع الملصقات والمطبوعات.

2 ـ استهداف الفئات العمرية التي بيدها قرارات الشراء (خاصة المجموعات النسائية).

3 ـ استهداف الفئات الاجتماعية ذات القوة الشرائية المرتفعة (نواكشوط الغنية).

4 ـ ضرورة استحضار المعاني التربوية والحضارية للمقاطعة.

5 ـ الانتقال إلى العمل الميداني بدل الافتراضي.

6 ـ اقتراح وإنتاج البدائل.

خذوها مني!.. حتى لو اختفى وسم #مقاطعة_المنتجات_الفرنسية وتراجع زخم الحملة فقوتها باقية ومستمرة، لأنها ستتحول مع الوقت إلى عادة ومبدأ ناظم لسلوك الشراء والاستهلاك.