على مدار الساعة

أليمان ممادو كنْ ومحمد ولد الشيخ: حياتان، شخص واحد، ذاكرة ألفة

8 فبراير, 2021 - 13:54

كنت بصدد التفتيش في صور عائلية قديمة، فإذا بي أعثر من دون عمد على صورة خالي أليمان كنْ رفقة صديقيه المقربين وهما أحمد بابا مسكه ومحمد ولد الشيخ.  يظهر الثلاثة في الصورة وهم يضحكون عن طيب خاطر في مقر الأمم المتحدة في نيويورك. كان الثلاثة يمثلون موريتانيا أثناء انعقاد الجمعية العامة في شهر سبتمبر 1965 وكان محمد ولد الشيخ رئيسا للوفد بصفته وزيرا للشؤون الخارجية والدفاع وبرفقة أليمان ممادو كن، زميله في التنمية الريفية وأحمد بابا مسكه، الممثل الدائم. إن الصورة التي أصبح رمزها نادرا في أيامنا هذه تحمل مظاهر الفرح والاستياء والآمال لدى موريتانيين في الثلاثين سنة من العمر، بعد الاستقلال وحتى ما بعد ذلك لأن الرفقة التي كانت تجمعهم كانت تمر بجحود الزمن وتتحدى التقلبات ولا تتوقف إلا عند وفاتهم الواحد تلو الآخر.

 

إن مثل هذه الوثائق من الأرشيف تشهد على ماض قد ولّى تماما والذي ينبغي لنا أن نكّن لتفاؤله اعتبارا ما وبخاصة واجب الذكرى.

 

متطلبات النزاهة

أقوم هنا بكل تواضع بالتعبير عن هذه الذكرى من خلال بعض السطور. كان لزاما عليّ أن أنجز صورة لعلاقة كنت شاهدا على نموها في صغري وفي فترة مراهقتي. أهدي هذه السطور إلى عائلة محمد ولد الشيخ، الشهير باسم حميد الموريتاني. وبما أنني لم أحظ بمعرفة أقارب الرجل العظيم ولا ذرّيته، فإنه من واجبي أن أرسل إليهم، مثل زجاجة في البحر، قسطا من الاعتبار الذي كان يكنه أقربائي وأصدقائي لصداقة لا مثيل لها. أحمل الرسالة المنزوعة من تآكل الزمن وكأنني أحمل جائزة. أتمنى أن يعيش معي القارئ حماس بداية واعدة وتحدي خطر النسيان عندما يتعنت تاريخ موريتانيا على محو بصمات أبنائها الخيّرين. بالطبع وتحت طائلة المفارقة الزمنية لم يكن في استطاعة روايتي الوجيزة  أن تعود إلى نشأة اللقاء على مقاعد المدرسة قبل أن أولد. أكتشف هنا أن ابن خالي يحمل أسما غير نمطي هو " محمد ولد الشيخ". اختار الأب  أليمان كنْ، أن يسند إلى ابنه هوية غريبة تخليدا للأسماء المستعارة أثناء حياتهم جميعا.

 

إن محمد ولد الشيخ وأليمان كنْ يتقاسمان متطلبات النزاهة والحلم والطموح لخدمة الصالح العام الشيء الذي أدى إلى ظهور سريع لبغضاء نحوهما ومحو لبصمات مرورهما في جهاز الدولة الناشئة. من الأكيد أنهما لم يمكثا في مركز السلطة ولكن البصمات التي تركاها تبقى غير مستغلة.

 

وفي وقت مبكر لم يبلغا فيه بعد الستين سنة من العمر، وجد الشخصان نفسهما في قلب القرار الإستراتيجي عند ظهور البادرة المحتشمة لنيل السيادة. كل واحد منهما، قدّم تفانيه ورغبته في تحقيق التقدّم وهنا يتم إدراك حماس الرواد المجنون. وعليه كان الشخصان يساهمان بلمسة- ذات أصالة وقناعة- في الخطوات الأولى لبلد يعيش تحولا نحو المستقبل. سبق وأن قال لي بعد ذلك شهود من تلك الفترة أن أوساط المحافظة كانوا قلقين من هذا الثنائي المثالي غير المتوقع، حيث كانت رؤيتهما تكمن في وجود موريتانيا واحدة يسودها التنوع والاشتراكية إن أمكن ولكن ذلك يكون مستحيلا دون المساواة بين المواطنين. سنوات بعد ذلك، تُبيّن لنا سنة 2021 أن كفاح محمد ولد الشيخ أليمان كن هو كفاح يرتبط اليوم بالموعد الذي ضيّعته موريتانيا مع الحداثة.

 

كان محمد ولد الشيخ أليمان كن يمارسان وظائفهما وفق ما يملي عليهما مفهوم الدولة وفي منأى من العرقية وفخها. كان يتجرءان إثارة الرأي المعاكس أثناء المناقشات الساخنة في مجلس الوزراء تحت نظرة تارة قلقة وتارة معجبة للأستاذ مختار ولد داده:  إن جرأة الكلام كانت تكلفهما في الاجتماعات المغلقة آنذاك عداوة منافسين عدة وكذلك " الشهرة السيئة" بأنهما يمنعان التوافق ويحملان حلما جد غريب على طريقة كارل ليبكناشت وروزا لوكسمبورغ. وبصفتهما مثقفين تكوّنا في مدرسة المادية الجدلية ورفض الاستعمار، كان الاثنان يؤديان مهمة مضايقة الإقطاعية الموريتانية والسودانية كي ينبع من رمادها مجتمع يسوده العدل والعمل بعيد عن الظلامية الدينية ونظام الطبقية. وفي يوم من الأيام وبينما كانت الإشاعة تنمو، جاءت ساعة الصراع وانتصر العالم القديم على الطموح بشكل ساحر. على إثر نشر بيان 19 ضد فرضيات التعريب، شن الطلاب السود إضرابا ووقعت مناوشات في بعض المؤسسات التعليمية وإلى غاية المراقد. قام محمد ولد الشيخ ولإيمان كان بالدفاع عن حركة الاحتجاج ولكن تم لومهما أنهما يغذيان مشروعا للانقلاب بل وحتى تشجيع الإلحاد والفتنة الاجتماعية.

 

من قمة السلطة إلى... السجن

 بين عشية وضحاها، ترتب عن إبعادهما إبعاد عشرات من مناصريهما. ومن بين ضحايا التطهير غير العنيف الذي مارسه الحزب الواحد، قليل من الشهود قاموا برواية أهمية الحدث. البعض منهم مثل  يحيى ولد منكوس  يعترفون في مذكراتهم أنهم عانوا من وفائهم إلى محمد ولد الشيخ وأحمد بابا مسكي مثلما تُذكر بذلك مذكرة القراءة الهائلة لأحمد محمود محمد أحمدو المنشورة في مدونته في عام 2015 تحت عنوان "...حزن خادم الدولة".

 

سقط أليمان كن ومحمد ولد الشيخ في أيدي عناصر الشرطة واكتشفا قلق الاستنطاق قبل أن ينهيا المسيرة في السجن. لم تقم أبدا الوظيفة العمومية باستقبالهما في صفوفها مثلما لم تعترف لهما بحق تشريفهما بمنح اسميهما لطريق أو قاعة مطالعة أو ساحة عمومية. فالأول سريعا ما برز في مكتب العمل الدولي في جنيف بينما فضل الثاني المُحبط العودة نهائيا إلى منبعه الأصلي قرب بوتيليميت أين عاش تقاعده إلى آخر عمره وسط كثبان لا تبالي ببقية المنظر الطبيعي وأعطى لذاك المكان اسم دار البركة، مسقط رأس أليكان كن وقريته الأصلية. وبفضل الإشادة التي قدمها للمتوفى، كتب أخوه الأصغر المؤرخ وعالم الاجتماع المشهور عبد الودود ولد الشيخ صفحات ذات صرامة مثيرة للإعجاب اكتشف من خلالها الجمهور- الذي لا زال في منأى من التزوير الجاري لتاريخنا- عظمة فترة من الزمن وكذا الصدمات والسبات والهزات. كان هناك على الأقل نفس ودعابة وكرم ونفور شبه شعري لتراكم الممتلكات. كان أليمان كن ومحمد ولد الشيخ يجسدان الزخم غير العادي في قصة موريتانيا؛ وبصفتهما ماركسيين غير عاديين، كان يضعان الفكرة فوق الوسائل وكانا يعرفان الاحتفاظ بالوسيلة في ظل إرادتهما وموهبتهما. كان الصديقان يتعاونان أثناء الظرف الصعب  ويتزاوران عندما تجمعهما الحياة في نفس البلد. كان لهما في العديد من المرات الفرصة لبحث عدم الارتياح الناجم عن خيبة الأمل الحزبية أو مقارنة آرائهما في ضوء مشاعر تلك الفترة الزمنية. أرى في خيالي أنهما في نزهة على حافة بحيرة ليمون يتصفان بسحر التناقض الأخوي عندما تكون العودة إلى الأهم بعد الكثير من التضحيات من أجل الثانوي.

 

في شهر أكتوبر 1988، حلّت ساعة الرحيل المصيرية حيث توفى أليمان كن في جنيف وتم نقل جثمانه إلى دار البركة مسقط رأسه. كان محمد ولد الشيخ  في وضع لا يرثى له وكان هو الأول الذي يتلقى أثناء الجنازة العزاء من الزوار العارفين للصداقة الفريدة التي كانت تجمعه بالمتوفى قبل أن يقدموا العزاء لعائلة المتوفى البيولوجية. قاطعت سلطات موريتانيا مراسم الجنازة وعقّدت من مسألة منح الرخصة لهبوط الطائرة ؛ لكن تدخل عبد اللاي بارو الأمين العام لحكومة ولد طاية سمح بكتمان الحدث. قام محمد ولد الشيخ الذي أصبح بعيدا عن السياسة وفخرها بالتعبير عن تمرده مقابل آخر تهديد له. ربما كانت آخر مرة يخالف فيها محمد ولد الشيخ هدوءه الغابر المعروف به في تربيته. وفي يوليو 2013، التحق محمد ولد الشيخ للأبد بأخيه المختار وها هما الاثنان مدفونان بدار البركة وها هو جناس مصيرهما ما بعد الوفاة يجتمع من جديد.

 

وستبقى بارزة تلك الصورة الطيبة والنزيهة والشجاعة لخالي التوأم محمد ولد الشيخ .

محمد أسكيا توري