على مدار الساعة

لعلكم تتقون

21 أبريل, 2021 - 15:14
أحمد عبد الله الداه

أقبل رمضان وللمؤمنين أشواق لا تهدأ، وحنين لا ينقطع، ما فتئوا يمدون أكف الضراعات مرسلين مع كل غروب وشروق مناجات الوجل الخائف من أن يختطفه الموت قبل أن يشارك المسلمين نسك الصيام وشرف القيام والكف عن الآثام، تتجاوب دعواتهم سائلين الله أن يسلمهم لرمضان، وأن يسلم لهم رمضان، لتشنف الآذان أصوات المآذن، وهمهمات المرتلين، ومناجاة الساجدين، وتكتحل العيون بزحام المساجد، مظاهر وشعائر جدير أن توصل المؤمن إلى جهد المحبة؛ فتسهد العيون بشوقها وتخفق القلوب بحبها.  

 

لكن مقصدا عظيما من وراء هذه العبادة جعله الله غاية لها، ونصبه علما على صحتها، جدير بكل مؤمن أن يبحث عنه ويتحراه.

 

ذلك أنا حين نسأل ما المغزى من فرض الصيام ؟!

 

نرى الجواب جليا واضحا يتصدر آيات الصيام الخمس, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .

 

إنها التقوى الشاملة لكل الجوانب الحياتية، والمجالات الإنسانية، بها يتحقق المقصد من فرضه على الأمة وبها أخذ مكانته ضمن أركان الإسلام. 

 

إن صوما لم يحدث تغييرا في علاقة الإنسان بربه، ولم يرتق به الإنسان في مدارج التقوى؛ لهو صوم فارغ من حكمته، فاقد لحقيقته، لم يكد يجني منه الإنسان غير ظمإ الهواجر، وسهر الدياجي، ولتأكيد هذا المعنى والتحذير من هذا المصير  يقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم (رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش...) .

 

ويقول عليه الصلاة والسلام : (من لم يدع قول الزور والعمل والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه). 

 

إن العلاقة بين الصيام والتقوى هي علاقة العلة بالمعلول والسبب بالمسبب، وكلاهما أراده الله تعالى إرادة شرعية وطلبه طلبا جازما فالله سبحانه فرض الصيام علينا كما فرضه على الذين من قبلنا، وأوصانا بالتقوى كما أو صى به مَن قبلنا فقال تعالى : (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)  وقال (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)، فكل من الصيام والتقوى مراد الله  من عباده الأولين والآخرين . 

 

إن التقوى شاملة لكل الجوانب الدينية -كما أسلفنا - ومحاولة لتقريب حد التقوى ومعناها نورد أهم تعريفاتها وما ذكروا من درجاتها. 

 

فقد قال ابن القيم "وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا أمرا ونهيا فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بموعده. ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي وخوفا من وعيده. "[1] 

 

ثم أورد ابن القيم رحمه الله تعريف طلْق بن حبيب للتقوى حين سئل عنها فقال : "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله. وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله."[2] 

 

فكما أن صيام رمضان لا بد أن يكون إيمان واحتسابا فكذلك التقوى لا بد أن تكون مصدرها الإيمان, وغايتها طلب ثواب الله وهذا هو الاحتساب. 

 

فهذه هي التقوى التي كتب الله الصيام من أجل تحقيقها وأخبر أنها خير لباس وأنها خير الزاد فقال تعالى (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) وقال: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ). 

 

وينشدون في هذا المعنى قول الشاعر:

وخير لباس المرء طاعة ربه 

       ولا خير في من كان لله عاصيا.

**

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولا قيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله 

  وأنك لم ترصد لما كان أرصدا 

 

وكما أن الصيام درجات فهناك صوم العوام وصوم الخواص وصوم خواص الخواص فكذلك ثمرة الصيام التي هي التقوى درجات أيضا (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) . 

 

فالتقوى أيضا كما عند ابن القيم ثلاث مراتب:

"أحدها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات.

والثانية: حميتها عن المكروهات.

والثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يغني.

فالأولى: تعطي العبد صيانة.

والثانية: تفيده صحته وقوته.

والثالثة: تكسبه سروره، وفرحه، وبهجته"[3] 

وفي تقسيم آخر لمراتب التقوى يقول محمد العاقب بن مايابى

ناظما كلام شيخه الشيخ ماء العينين بن محمد فاضل : 

حضرت مجلس إمام النصحا @ ماءالعينين بعدأن صلى الضحى

يحـدث النا س بدين أحمد @ فقال وهوجالس فى المسجد

إن التقى وهو أعز ما اكتسبْ @ذو همة يأتى على خمس رتبْ

تقى يخلص من الخـلو دِ @ وهو اتقاء الشرك بالمـــــــعبودِ

وما يخلص من الجحيمِ @ هو اتقاء الزلـــــــــل العظيمِ

وماينجى من عذاب المسلمِ @ فى قبره هو اتقاء اللممِ

وما ينجى من مصائب الدنا @ هو اتقاء الشبــــهات والخنا

وما به تستجلب الافر احُ @ هو اتقــــــــاء بعض ما يباحُ

فمــلت مصغيا لما حكاهُ @ فصا فحت يديتى يــــــــداهُ

فعاده على حتى استكملا @ حديثه كـــــــــــما بداه أولا. 

 

إن التقوى التي يوصل إليها الصيام -وإن كانت جاءت بأداة الرجاء - محققة الوقوع بلا شك  ولا امتراء إذا تحققت شروطها، وهي  تقوى شاملة للعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق.

"لعلكم تتقون في الجانب العقدي بالإيمان الجازم واليقين القاطع بالحكيم الخبير الذي لا يشرع لعباده إلا ما فيه كمال مصلحتهم الدينية والدنيوية.

 

لعلكم تتقون في الجانب التشريعي بملاحظة التدرج في التكاليف واليسر في الأحكام.   

 

لعلكم تتقون  في الجانب التعبدي بالسمو الروحي والارتقاء في مدارج السالكين ومنازل العابدين.

 

لعلكم تتقون في الجانب النفسي بتقوية الإرادة وبعث العزيمة وترقية النفس وتطوير الذات" [4]  

 

هذه إذاً هي التقوى التي فرض الله الصيام من أجلها, فهل سنتحراها كما تحرينا رمضان وهل ستتوق لها أنفسنا كما تاقت إلى شهر الصيام والقيام ؟

 

أم أننا سنتكفي - لا قدر الله-  بالصيام الصوري الذي هو الإمساك عن المأكولات والمشروبات والانهماك في أنواع اللغو والمنهيات.

 

نسأل الله أن يسلمنا لرمضان، وأن يسلم لنا رمضان ،وأن يتسلمه منا متقبلا، وألا يجعلنا من المحرومين ،وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. 

--------------------- 

[1] الرسالة التبوكية ص ٩ 

[2] الرسالة التبوكية ص ١٣

[3] الفوائد ص ٦٥ 

[4] لعلكم تتقون،  علي بن حسين بن أحمد فقهي بتصرف